قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة 11 : سبعة حقول من سيرته ﷺ
 مقدّمة
إذ تتعذّر الإحاطة الشّاملة بسيرته ﷺ فإنّه لا مناص من إنتقاء حقول سبعة منها إنتقاء يرنو إلى تثبيت أكثر الأبعاد المجهولة من تلك السّيرة، سيما من أبناء جيلنا وبناته ممّن انفعلوا إمّا بوافدات غربيّة أو بموروثات تراثيّة خرافيّة. وقبل ذلك لا بدّ من مقدّمة عامّة حول السّيرة ذاتها في بعض علاقاتها من جهة وفي بعض مناهج مدوّناتها من جهة أخرى.
بين السّيرة والسنّة
لم يكن الأمر بينهما إلاّ مشتركا أو نحوا من ذلك قبل التّدوين. إذ لا يعثر المرء عند الأصحاب عليهم الرّضوان عن كلمة (سيرة) بما يرسم معنى مغايرا للسنّة. ومعلوم أنّ حركة التّدوين في كلّ العلوم والمعارف تقريبا كانت لحظة فارقة على معنى أنّها حملت هوى المدوّن من جهة (الهوى العلميّ لا الشّهوانيّ) كما أنّها أظهرت أنّ قصور التّدوين عن الإلمام بالتّراث المراد تدوينه ضربة لازب من جهة أخرى. ومهما كانت الحاجة إلى التّدوين فإنّ تدوين التّاريخ ـ والسّيرة (وليس السنّة) مادّة تاريخية ـ عملية عسيرة لا تسلم من إهمال غير متعمّد. ومن عاقبات التّدوين ـ على مآثره والحاجة إليه ـ كذلك صرف العقول أو بعضها على الأقلّ عن النّظر النّقديّ.
التّدوين لمن لا يستوعب مآثره وعواقبه يمكن أن يكون حائلا دون النّفاذ إلى الأصول الأولى. ولعلّ قصور كثير منّا على تفاسير القرآن الكريم دون النّفاذ إلى القرآن الكريم ذاته مثالا من أمثلة تلك الحيلولة. وليس العيب هنا عيب المدوّن لأيّ علم أو معرفة. إنّما العيب في أجهزة الإستقبال التي يصدِّئُها كرّ الأيّام لتمسي محنّطة. السّيرة النبوية دون خلاف هي حياته ـ ﷺ ـ مذ ولدته أمّه حتّى توفّاه الله سبحانه. ذلك أنّ الله سبحانه يصطنع أنبياءه على عينه فلا تكون حياتهم قبل البعثة شيئا مناقضا لما بعد ذلك. ومن ذا نستنّ بسيرته ـ ﷺ ـ حتّى قبل بعثته نبيّا. ومن جهة أخرى فإنّ السّيرة ـ بشكل عامّ يحتاج إلى تفصيل ليس هذا محلّه ـ ليست ملزمة إلزاما دينيّا يخضع له كلّ مسلم. ولذلك لم تخضع السّيرة وما دوّن منها إلى الإسناد ومعاركه الطّاحنة. ولم يكن السّابقون أغرارا ـ كما يهرف بعض أدعياء اليوم ـ إذ لم يسندوا السّيرة ولم يحرصوا على ذلك. إنّما كانوا وعاة بذلك كلّ الوعي أنّ السّيرة لا تحتاج إلى إسناد. إذ هي ليست غذاء دينيّا بالمعنى الشّرعيّ المرتبط بالثّواب والعقاب. وليست السنّة كذلك. إنّما هي خاضعة لحركة إسناد لئن هدأت معاركها في بعض التّخوم فإنّ بعضها الآخر لن يهدأ. ذلك أنّ السنّة إذا صحّت فهي ملزمة للمسلم دون ريب. 
تشتبك السّيرة مع السنّة في مربّع العمل أو الفعل. ولكنّه إشتباك يعرفه طلبة العلم. ذلك أنّ العمل من مركّبات السنّة إلى جانب القول والإقرار. ولكنّ أغلب مركّبات السّيرة أعمال وأفعال من جهة وأغلب تلك الأفعال والأعمال هي مبادرات جماعيّة عامّة من جهة ثانية. ومن جهة ثالثة فإنّ أغلب كلّ ذلك ذو طابع سياسيّ بتعبيرنا المعاصر أو إداريّ تنظيميّ أو حربيّ عسكريّ أو إجتماعيّ عامّ أو إقتصاديّ ماليّ. سواء كان ذلك داخل الأمّة أو في علاقتها مع غيرها. 
يمكن أن نقول بكلمة مختصرة : السنّة للدّين والسّيرة للدّنيا. ولكنّ ذلك لا محلّ له سوى تحت السّقف الإسلاميّ الذي يضمّ الدّين والدّنيا معا في علاقة وصل وفصل معا كذلك، فلا يجنح النّاس إلى إرساء نمط حياتيّ (تيوقراطيّ) بإسم شمول الدّين ولا إلى التّفصيّ من قيم الدّين في الحياة العامّة بإسم العلمانيّة والعقلانيّة والمعاصرة. إنّما هي علاقة الجوار المتعاون لا التّضادّ المتشاكس. 
السّيرة في خلاصة ـ ربّما تكون أخيرة ـ هي خارطة طريق المصلحين في كلّ حقل وفي كلّ حين. لا يحتاج المسلم غير المنخرط في حركة الإصلاح إلى السّيرة إلاّ على سبيل المعرفة. ولكنّ المصلح المسلم ـ سيّما إذا انخرط في حركة إصلاحيّة في أيّ حقل من حقول الإصلاح ـ فإنّه لا يستقيم عمله إلاّ بعلم واسع ومعرفة عميقة بالسّيرة النّبويّة.
تدوين السّيرة : ما له وما عليه
مدار الوعي المعاصر كلّه ـ في تقديري ـ هو الوعي الصّحيح بالتّاريخ الإسلاميّ الذي لا يتّخذه العاقل مرجعيّة تستوي مع المرجعيّة الدّينيّة من جانب ولا يهمله إزدراء. ذلك أنّ تاريخنا ظلّ متردّدا بين الإقتراب من النّموذج النّبويّ ثمّ الرّاشديّ وبين إجتراح نماذج أخرى فيها الذي فيها وعليها الذي عليها. 
مدار تفسير تاريخنا الإسلاميّ ـ في تقديري ـ هو حسن فهم محطّاته الكبرى التي صنعته صنعا. ولا ريب أنّ المحطّة الأولى في ذلك هي محطّة الإنقلاب الأمويّ لما خلّفته من آثار طالت حركة التّدوين نفسها. 
تدوينات التّاريخ السّياسيّ لأمّتنا أنصع مثال على ذلك. هناك علاقة ما بين تلك المحطّة الأولى العظمى التي صنعت التّاريخ كلّه تقريبا سيما في بعده السّياسيّ وبين تدوين السّيرة نفسها. غلب على تدوين السّيرة البعد العسكريّ غلبة كبيرة تكاد ـ لولا تدوينات أخرى ذات مناهج أخرى ـ تلوّن النّبوّة ـ سيما في الأزمنة الحاضرة ـ بلون ذي ظلال غير ظليلة. يستوي في ذلك ـ أو يكاد ـ الغابرون والحاضرون، من سيرة إبن إسحاق وإبن هشام عليهما الرّحمة حتّى التّدوينات المعاصرة في أغلبها. عندما يتربّى على هذا المنهج الإنتقائيّ لتدوين السّيرة أطفال يافعون وشباب يعالجون تحدّيات معاصرة أخرى فلا أظنّ أنّ الفكرة العامّة عن الإسلام وعن النّبوّة تكون عندهم فكرة صحيحة أو دقيقة على الأقلّ. 
السّؤال هو : هل غلب عليه ـ ﷺ ـ النّشاط العسكريّ وضمر ما عداه و من ذا لم يجد المدوّنون غيره؟ ما هو حجم نشاطه العسكريّ والأمنيّ على إمتداد زهاء ربع قرن كامل؟ 
إنّ تصويره ـ ﷺ ـ في أغلب حياته غازيا شرقا وغربا ضدّ العرب تارة وضدّ الإسرائيليين والرّوم تارة أخرى ليس منهجا كفيلا بإعادة بناء عقل إسلاميّ معاصر ومعتدل مؤهّل لمعالجة تحدّيات عصره وليس تحدّيات عصور خلت. تلك مشكلة منهاجيّة كبيرة. وعندما تضاف إليها مشكلة عدم تأطير ذلك النّشاط العسكريّ نفسه ضمن أطره السّياسيّة والحضاريّة السّائدة آنذاك فإنّ الحصيلة الذّهنيّة للنّاشئة المسلمة المعاصرة المتوثّبة إلى ردود فعل جاهزة ضدّ عدوانات داخليّة وخارجيّة لن تكون بالتّأكيد حصيلة إسلاميّة بالمعنى الفكريّ الثّقافيّ. وعندما تكتسب حركات جهاديّة عنيفة (مثل القاعدة سابقا وداعش وستكون لهما بنات وبنون) بعض مشروعيتها من السّيرة النبويّة ومن تدوينات السّيرة العسكريّة الطّاغية، فإنّه علينا مراجعة منهاجنا التّدوينيّ لما لحركة التّدوين من آثار ذهنيّة بالغة سيما على من أسلم قياد عقله إلى التّاريخ غير نافذ إلى الأصول الصّافية. 
حاول بعضهم تعديل الكفّة ولكن مضت فينا هذه القالة : لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. منهم ـ على سبيل الذّكر وليس الحصر ـ إبن القيّم والقاضي عياض. ولكنّ المشكلة ظلّت مغروزة في اللاّوعي. وهي أنّ سيرته ﷺ ـ لمن أراد العلم بها ـ في كتب السّيرة بالمفهوم التّقليديّ. أي من إبن إسحاق وإبن هشام حتّى المرحوم البوطيّ وغيره بالعشرات من الذين أهملوا ما لا يقلّ عن تسعة أعشار سيرته ـ ﷺ ـ ليعكفوا على تدوين السّيرة العسكريّة فحسب. هذا مثال على أنّ التّاريخ لا يصلح أن يكون وحده مصدرا للعلم والمعرفة والهداية. هو تجربة أو محاولة أو معالجة لها بقدر ما اقتربت من الأصل المعصوم وعليها بقدر ما تنكّبت ذلك.
نحو تدوينات جديدة معاصرة
وفق المنهج القرآنيّ
حتّى الذين حاولوا تبرير تدويناتهم العسكريّة أنّها كانت متوافقة مع القرآن الكريم لم يحسنوا قراءة القرآن الكريم نفسه وهو يعالج السّيرة بصفة خاصّة والتّاريخ النّبويّ وغيره بصفة عامّة. صحيح أنّ القرآن الكريم سجّل زهاء تسع محطّات من السّيرة العسكرية له ﷺ. ولكنّ تلك المحطّات ناهزت الثّلاثين في حياته. لِمَ انتقى ثلثها فحسب؟ دعوى التّوافق مع القرآن الكريم إذن واهية. وقبل ذلك وبعده ألا تجد في القرآن الكريم عنه ـ ﷺ ـ عدا حياته العسكريّة؟ 
عد إليه مرّة أخرى متأنّيا متدبّرا لتجد أنّ عناية القرآن الكريم بأبعاد أخرى كثيرة من حياته ـ ﷺ ـ هي عناية مرموقة. وبذا راعى المنهاج القرآنيّ الكريم وهو يقدّم لنا الأسوة العظمى عامل التّوازن والتّكامل. ألم يعالج حياته العائليّة في موضعين شهيرين؟ ألم يعالج تعدّد الزّوجات عنده ﷺ؟ ألم يحتضن معاملاته مع المنافقين مرّات ومرّات صبرا عليهم وحلما ولكن بفطنة وحذر؟ ألم يعالج مواضع كثيرة من علاقاته مع النّاس في حالات غير آمنة (المجادلة ـ مخلّفي تبوك ـ وغير ذلك كثير)؟ أمّا الإستنجاد بالقرآن الكريم أنّه أولى نشاطه العسكريّ ـ ﷺـ فحسب أولويّة مرموقة فهو قول غير صحيح أوّلا ولا هو دقيق. وثانيا هو قراءة مبتورة مبتسرة لا موضوعيّة لها. 
ومن ذا فإنّ علينا التّداعي إلى إنجاز تدوينات في السّيرة النّبوية ذات منهاج شامل يحاول مسح حياته قبل البعثة وبعدها بتكامل وتوازن بين أنشطته كلّها بغرض تصحيح الصّورة عن نبيّ ساهمت أمّته بأقدار معتبرة في تشييد صورة غير دقيقة عنه ـ ﷺ ـ وهي الصّورة التي تغري من في قلبه مرض من جهة كما تقذف بشبهات غليظة عنه وعن دينه في أذهان النّاشئة من جهة أخرى. وللسّابقين ممّن دوّنوا السّيرة العسكريّة فحسب أو شيئا من ذلك الفضل والتّقدير والتّبجيل. ولكنّ التّقليد ذنب يمجّه الإسلام ويبغضه اللّه سبحانه. 
وفي هذا الإطار إنتقيت ـ كما أنف ـ لهذا الكرّاس سبعة من الأبعاد التي طال عليها الأمد أو غلبت عليها شقواتنا. ومنها أبعاد حاولت تصحيح الصّورة فيها. والله أسأل توفيقا وسدادا وإخلاصا