مدن لها تاريخ

بقلم
د.علي رابحي
وجدة، يا مدينة المآذن
 إنّ فنّ البناء والتّعمير قديم قدم الإنسان، والعمارة هي وعاء الحضارة، تمثّل الهويّة الثّقافيّة والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان. كما يمثّل العمران على العموم، والعمران المساجدي القائم بصفة خاصّة، في أي منطقة جغرافيّة، شخصيّة تلك المنطقة البشريّة والطبيعيّة، ويعكس مستوى التّدين والحالة الاقتصاديّة والظّروف الاجتماعيّة لإنسان المنطقة نفسه، ومدى تأثّره بالعادات، وتمسّكه بالتّقاليد.
وأنت يا وجدة الوجد، أرض المنارات، وتعارف الحضارات، تجاورت فيك المعابد، الكنائس والبيع والجوامع، لا يفصل بينها سوى بضع أمتار، تجسيدا لروح تسامح الأديان، وتعايش الشّرائع. 
 وأنت وجدة المآذن، إذا كنت تشتركين مع مدائن مملكتنا الشّريفة في الكثير من المظاهر العمرانيّة المكوّنة للشّخصيّة المغربيّة، المتشبّعة بالتّنوع الثّقافي، فإنّك لاشكّ تتميزين بخاصيّة عمرانيّة وروحيّة دينيّة فريدة، تتمثّل في كثرة المساجد، مقارنة مع مساحتك الجغرافيّة وكثافة سكّانك، ممّا يجعلك ذات شخصيّة متميّزة عن غيرك من المدن المغربيّة، تستحقّين بحقّ لقب مدينة المساجد. فحيثما حلّ وارتحل زائرك، في حاضرتك، أو في قراك وبواديك، يسترعي انتباهه حضور المسجد، باصما مجاله، بجماليّة راقية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتجديد التّقاليد الإبداعيّة لفنّنا العمراني المغربي الأصيل، ومنظّما لحياة سكّانك في كثير من مناحيها الاجتماعيّة.
 يا مدينة المساجد، لقد كان عدد مساجدك قبل فترة الحماية سنة 1907م منحصرا في ثلاثة عشر مسجدا بدون قيمة معماريّة باستثناء المسجد الأعظم، وإذا علمنا أنّ عدد سكّانك المسلمين في تلك الفترة كان حوالي 5300 نسمة، ومجالك العمراني منحصر داخل أسوار المدينة القديمة التي لا تتعدى مساحتها ثمانية وعشرين هكتارا، نستنتج أنه كان هناك مسجد لحوالي كل أربعة مئة نسمة وبمعدل مسجد في كل هكتارين. ونسجل أن مساجد مدينتك القديمة تشترك في خاصية عدم توفرها على صومعة باستثناء المسجد الأعظم ومسجد عقبة ومسجد حدادة، كما أن أغلب هاته المساجد كانت منازل سكنية في بادئ الأمر، لذلك فهي في عمومها صغيرة المساحة وبسيطة، إذ لا تجسد أي فن معماري يمكنه أن يشكل إضافة نوعية للعمارة الدينية للمدينة. كما أن أغلبها قد تبرع بها محسنون رجال ونساء.
وفي فترة الحماية الفرنسية، التي دامت زهاء 49 سنة، تم تشييد 21 مسجدا، كلها خارج المدينة القديمة في الأحياء العربية. والجدير بالذكر هنا يا وجدة المساجد، أنك عرفت خلال هذه الفترة توسعا عمرانيا خارج أسوار مدينتك القديمة، حيث بني حي أوربي غربها يسكنه الأجانب الأوربيون وأقاموا به كنيستين وبيعتين. أشتهرت مدينة وجدة بالتّسامح الدّيني والتّعايش منذ القدم، لذلك نلاحظ غياب الملاح اليهودي، وتذكر المراجع التّاريخيّة أنّ يهود وجدة في بداية القرن الماضي كانت لهم ثلاثة بيع متواضعة داخل المدينة العتيقة، هي معبد الهبرة ومعبد أولاد يشو ومعبد أولاد ابن الدّرعي، كما انتشرت أحياء ودواوير يقطنها المغاربة والجزائريّون وبنوا بها مساجد متواضعة لإقامة شعائرهم الدّينيّة.
 أمّا الفترة الأولى من الاستقلال فقد عرفت عمارتك المساجديّة خلالها انتعاشا ملحوظا، حيث أنّه في العهد الحسني الذي دام أربعين سنة تمّ بناء حوالي 135 مسجدا، نصفها شيّد في العقد الأخير من هذه الفترة بفعل التّوسّع العمراني الكبير للمدينة وظهور حركة إحسانيّة مكثّفة.
وتضافرت جهود هذه الحركة الاحسانيّة مع إرادة الدّولة خلال الفترة المحمديّة، حيث أنّه في ظرف عشر سنوات تمّ إنشاء 102 مسجدا، ممّا جعل عدد المساجد بالمدينة وأحوازها يصل 414 مسجدا سنة 2015، لساكنة تصل 551 ألف نسمة، بمعدل مسجد لكلّ 1350 نسمة (حوالي مسجد لكلّ 1250 نسمة بالمجال الحضري، ومسجد لكلّ 350 نسمة بالمجال القروي)، ومعدّل مسجد في كلّ نصف كلم2 في المجال الحضري، ومسجد في كلّ 10 كلم2 بالمجال القروي، علما أنّ منطقة تأثير المسجد هي: 1,44 كلم2 بالنّسبة للمساجد الجامعة، و 0.33 كلم2 بالنّسبة لمساجد القرب. وإذا قارنّا هذه الأرقام المحليّة مع الأرقام الوطنيّة التي تفيد أنّ عدد المساجد بالمملكة يبلغ 50 ألف مسجد (37 ألف منها في الوسط القروي)، وعدد السّكان بلغ في شتنبر 2014: 33 مليون و848 ألف و242 نسمة، أي بمعدّل مسجد لكلّ 700 نسمة، نستنتج أنّ عدد المساجد بمدينة وجدة يفوق المعدّل العام للمساجد بالمغرب. 
 إنّ المساجد التي بنيت خلال العشريّة الأخيرة بك يا مدينة المآذن عديدة ومتنوعة، سواء في الوسط الحضري أو الوسط القروي، وتمّ الحرص فيك حرصا خاصّا على صيانة الطّابع المغربي الأصيل في بناء المسجد، ومراعاة الألوان المحليّة الخاصّة بحاضرتك. نذكر منها بالأخصّ مسجد محمد السّادس ومسجد للاّخديجة ومسجد الفضيلة ومسجد مولاي سليمان، حيث تشترك هذه المساجد المختلفة ومثيلاتها في بعض التّفاصيل وتختلف في بعضها الآخر، إذ تظهر عناصر التّشابه واضحة على مستوى مواد البناء وكيفيّة استعمالها، والزّخرفة، في حين أنّ عناصر الاختلاف تلاحظ على مستوى المساحات المغطّاة، وكذا في عدد الملحقات التّابعة لها، أو على مستوى البلاطات والأقواس الهيكليّة للفضاء الدّاخلي لقاعات الصّلاة.
وقد أثمرت جهود بناء المساجد بأرضك، يا وجدة الوجد، دورا حيويّا في ميدان المعمار الدّيني، وابتكارا يحفظ الخصوصيّات الأصليّة لذلك المعمار، وشكّل ذلك فرصة متجدّدة للمهندسين والمعماريين والصّناع التّقليديين لتوظيف معارفهم وخبراتهم بفنون البناء الأصيل، وضمان استمراريته، وإعمال قدراتهم الإبداعيّة لإنجاز أعمال هندسيّة رائعة توازن بين الأصالة والحداثة.
 ورغم أن المسجد فوض كل مهامه التّاريخيّة التي كان يضطلع بها إلى مؤسّسات خارجيّة مستقلّة، فإنّ روح المسجد في رحابك، يا مدينة المآذن، مازالت جارية، حيث أنّ المسجد ما زال ينظم الإيقاع الزّمني للحيّ، ووقت السّاكنة المحيطة به. ومازال يضطلع ببعض الأدوار التّعليميّة والاجتماعيّة والتّضامنيّة، نذكر منها:
- حوالي نصف مساجدك يموّلها المحسنون والنّصف الآخر تابعة للأوقاف. أمّا في المجال القروي فإنّ أغلب المساجد غير تابعة للأوقاف ويشرف عليها سكّان المنطقة المتواجد بها.
- نصف مساجدك يحفظ بها القرآن الكريم، ويفوق عدد المساجد المخصّصة لتحفيظ النّساء عدد تلك المخصّصة لتحفيظ الرّجال، بفعل الإقبال المتزايد للمرأة على حفظ القرآن الكريم، كما توفّر لهنّ أنشطة موازية كالتّكوين المهني وخاصّة الخياطة والطّرز (مسجد الصّفة مثلا).
- تعرف مساجدك تنظيم أعمال اجتماعيّة تضامنيّة (مساعدة المرضى، عمليّات الختان، قفّة رمضان، توزيع أضحية العيد، حملات النّظافة، أمسيات ومسابقات قرآنيّة). 
وشكّلت مساجدك -وخاصّة بالأحياء الهامشيّة –حصنا منيعا لحماية تقاليدنا في السّكينة الرّوحيّة بعيدا عن كلّ غلوّ وتشدّد في الدّين يتنافى مع روح الإسلام ورحمته ويسره وسماحته.
وإذا كان التّشييد الذي هو رفع البناء يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الذي يستحدث فيه، فينبغي عليك الحرص على جعل منشآتك المساجديّة مستقلّة عن الدّكاكين والدّور السّكنيّة التّابعة لها. وحتّى لا تطلّ المساجد مباشرة على الشّوارع والأزقّة يستحسن إحاطة كلّ مسجد بحديقة وسياج، كما فعل المحسنون في مسجد القدس، وفعلت الأوقاف في مسجد محمد السّادس، للحفاظ على حرمة المسجد وإضفاء طابع جمالي على فضائه الخارجي. 
وأختم بالقول أنّك يا وجدة المساجد، يا مدينة المآذن، أصبحت بفضل تحفك المعماريّة المساجديّة وجهة مفضّلة للعديد من السّياح من داخل وخارج الوطن لأداء صلاة التّراويح خاصّة حين يتزامن شهر رمضان الفضيل مع موسم الصّيف، بسبب وجود شباب مقرئين يتمتّعون بأصوات ممتازة، علاوة على استغلال السّاحات المجاورة للمساجد والفضاءات المفتوحة لأداء هذه الشّعيرة.