شخصيات الإصلاح

بقلم
حسن الطرابلسي
برحيل ماركيل تودّع ألمانيا وأوروبا مهندسة التّوافقات والخبيرة في إدارة الأزمات
 «أنجيلا ماركيل»: 67  سنة، 16 عشر سنة مستشارة، 4 دورات تشريعية و107 قمّة أوروبيّة. اقترنت صورتها دائما بحركة اليد المقبوضة على شكل معين Raute أو متوازي للأضلاع، وتقول ماركيل بأنّ هذه الحركة تمنحها الثّقة أكثر، فأصبحت بالتّالي علامتها المميّزة حتّى أنّ حزبها اعتمدها أثناء حملته الانتخابيّة سنة 2013 للدّلالة على الثّقة والهدوء.  
هذه خلاصة مركّزة لمسيرة أقوى امرأة في العالم اختارتها مجلة التّايمز سنة 2015 شخصيّة العام أو مستشارة العالم. ويحلوا لكثير من الألمان تسميتها Muti وتعني بالعربية «ماما ماركيل».
ولدت «ماركيل» في هامبورغ ولكنّها نشأت في ألمانيا الشّرقيّة، وبالتّحديد في مقاطعة براندنبورغ. درست وتخرّجت في تخصّص الفيزياء من جامعة لايبتزج  Leipzig. وقد بدأت حياتها السّياسيّة بعد سقوط جدار برلين وهي في الثّلاثينات من عمرها، وأرتقت في سلّم التّرتيب لحزب الإتحاد المسيحي الدّيمقراطي CDU حتّى أصبحت مع بداية هذه الألفيّة رئيسة له.
ونظرا لأنّها الوافدة الجديدة إلى عالم السّياسة، والقادمة من ألمانيا الشّرقيّة، فإنّه لم يحملها أحد محمل الجدّ في حزب يسيطر على قيادته الرّجال. فلم يمنحها أيّ منهم أي اعتبار يذكر ولكنّها وكما يقول «بولمان Bollmann» الذي كتب سيرتها الذّاتيّة «استفادت من هذه الوضعيّة». خاصّة بعد أن اشتغلت في مكتب «هلموت كول Helmut Kohl»، المستشار الذي حكم ألمانيا لأطول فترة لحدّ كتابة هذه السّطور(1982-1998) وتعلّمت منه الكثير.
عند انتخابها سنة 2005 مستشارة لألمانيا لم يكن أحد يعتقد أنّها ستكون المرأة الأكثر تأثيرا في العالم، أو «مهندسة التّوافقات» داخل الإتحاد الأوروبي كما وصفها رئيس وزراء لوكسمبورج «كزافييه بيتل Xavier Bettel».  فماركيل حرصت على تحقيق التّوازن بين مسألتين مهمّتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى: مصلحة ألمانيا من ناحية ومصلحة الإتحاد الأوروبي من ناحية ثانية. تعتبر «ماركيل» أنّ كلمة السّر في تحقيق هاتين المصلحتين هي التّوافق، باعتباره المكوّن الأساسي لكلّ ديمقراطيّة. وهذه سياسة عايشها معها زملاؤها الأوروبيّون عن قرب: «ساركوزي»، «ماكرون»، «كاميرون»، «برلسكوني»، «تيريزا ماي» و«جونسون» وغيرهم.
واليوم إذ تغادر عالم السّياسة بعد حياة حافلة، واجهت فيها تحدّيات وصعوبات كان لها فيها رأي وموقف، حريّ بنا أن نقرأ هاته الفترة ونقيّمها لنخلص إلى أهمّ النّتائج التي وصلت إليها.
أوّل مستشارة في تاريخ ألمانيا
بعد فوز حزبها بإنتخابات سنة 2005 استلمت «أنجيلا ماركيل» يوم 22 نوفمبر 2005 عملها كمستشارة لألمانيا، لتكون بذلك الشّخصيّة الثّامنة في هذا المنصب بعد أن تولاه قبلها سبعة من الرّجال.
لم يكن الوضع الإقتصادي على ما يرام، خاصّة بعد دخول ألمانيا في برنامج الإصلاح الإقتصادي 2010 الذي أطلقه سلفها «جرهارد شرودرGerhard Schröder» ، المستشار من سنة 1998 إلى سنة 2005،حيز التنفيذ وما تبع ذلك من ركود اقتصادي أدّى إلى ارتفاع نسبة البطالة وإلى انحسار القطاع المالي والبنكي. كما قاد إلى سلسلة من الإضرابات والإحتجاجات كانت السّبب المباشر في خسارة الحزب الإجتماعي الديمقراطي SPD للإنتخابات.
ما فتئت «ماركيل» تتلّمس طريقها وتبحث عن حلول لهذه الوضعيّة الصّعبة وتؤسّس لاستراتيجيّة عملها المستقبلي ودخل العالم في الأزمة الماليّة لسنة 2008 بعد إفلاس البنك الإستثماري ليمان براذرز  Lehman Brothers Holdings Inc. وكان لهذه الأزمة تأثير مباشر على ألمانيا وعلى الإتحاد الأوربي على حد سواء. فسارعت إلى التفاوض مع بنك «دويتشه بنك» ووصلت معه إلى اتفاقيّة حول القروض في مجال العقارات. واستطاعت أن تسجّل يوم 05 أكتوبر 2008 مع وزير الماليّة «بير شتاينبريك Peer Steinbrück» ظهورا إعلاميّا ناجحا، كان أهمّ من المفاوضات مع المؤسّسات المالية نفسها، فلقد بادرت إلى طمأنة المدّخرين الألمان وأكّدت لهم أنّ مدخّراتهم مضمونة، وأنّ الدّولة لن تتخلّى عنهم. لم تقدم يومها بديلا أو خطّة واضحة، غير أنّ تأثير ذلك التّصريح كان إيجابيّا على السّوق الماليّة وعلى المدّخرين على حدّ سواء.
أوروبيّا كان ظهورها الإعلامي أيضا ناجحا فلقد استطاعت بابتسامتها الهادئة وبخطاب مليئ بالشّحنات الإيجابيّة ضخّ كمّ كبير من التّفاؤل لم ينجح في التّعبير عنه زميلاها «ساركوزي»، و«برلسكوني». 
مع سنة 2011 حلّت بالعالم كارثة فوكوشيما باليابان، وأدّت بشاعة الكارثة إلى أن تعدّل الحكومة الألمانيّة بقيادة «ماركيل» موقفها الذي أعلنت عنه قبل سنة والقاضي بتمديد الإعتماد على الطّاقة النوويّة. وحسب بعض المتابعين فإنّ لطبيعة «ماركيل» العالمة والحاصلة على الدّكتوراه في الفيزياء دور أساسي في تعديل القرار. فلقد تبيّن لها من خلال فوكوشيما خطر الاعتماد على الطّاقة النّوويّة في المستقبل. وكان هدفها أن تنجح في كبح الانبعاثات واحتواء الاحترار العالمي في حدود 2 ـ 1,5 درجة مئويّة في فترة حكمها، غير أنّها أقرّت بعد ذلك بسنوات أنّه لن يتمّ الوصول إلى هذا الهدف في عهدها.
اليونان وحزمة الإنقاذ الماليّة
مع بداية العشريّة الثّانية لهذه الألفيّة وصلت اليونان إلى حافة الإفلاس ممّا جعل الإتحاد الأورربي يتدخّل ويقدّم قروضا سريعة سمّاها «حزمة الإنقاذ الماليّة»، ولكنّه فرض على اليونان مقابل ذلك أن تقوم بعدد من إجراءات التّقشّف الصّارمة منها إعفاء عدد كبير من موظفي القطاع العام وخفض المرتّبات ورفع سنّ التّقاعد ورفع ضريبة الدّخل والضّريبة على السّلع وتحسين أداء جهاز التّحصيل الضّريبي وخفض الإنفاق على التّسلح. وكان لألمانيا بقيادة «ماركيل» ووزير ماليتها «فولفغانغ شويبليه» دور أساسي في الوصول إلى اتفاقيّة تُوازن بين احتياجات الدّول المدينة وتضمن بقاء اليونان داخل الإتحاد الأوروبي. فماركيل مقتنعة بأهمّية الإتحاد الأوروبي وأنّ «فشل اليونان يعني فشل أوروبا».
ماركيل وتدفّق اللاّجئين
شهدت صائفة 2015 إلى جانب حرارة الطّقس غير المعهودة في ألمانيا حرارة على مستوى الطّقس السّياسي أيضا. فلقد  أعلنت ألمانيا فتح حدودها أمام اللاّجئين باتجاه الاتحاد الأوروبي، كما قرّرت تعليق إجراءات دبلن للسّوريين، ممّا جعل اللاّجئين السّوريين يتوافدون بشكل كبير على ألمانيا وأصبحت بذلك قبلة اللاّجئين، خاصّة بعد التّصريح الشّهير الذي أدلت به «ماركيل» عند قولها (wir schaffen das) أي «يمكننا فعل ذلك» . 
وكان الموقف من هذه الجملة، التي انتشرت في العالم بسرعة البرق، مزدوجا ففي الخارج وبين اللاّجئين المسلمين على الخصوص، أصبحت «ماركيل» نبيّ المستضعفين وغدت ألمانيا بلد الهجرة.  فلقد أصبحت الدّولة الثّانية للمهاجرين بعد الولايات المتحدة الأمريكيّة. ولكنّها وجدت داخليّا، وخاصّة بين الأوساط اليمينيّة معارضة شديدة، وكانت البداية الحقيقيّة لضعف شعبيّة «ماركيل» بين الألمان. غير أنّ القرار الذي اتخذته «ماركيل»، وبعيدا عن الجانب السّياسي والإنساني، كان له بعد إقتصادي أيضا. فسوق العمل أصبح في أمسّ الحاجة إلى يد عاملة مختصّة وشبه مختصّة. وللحدّ من تبعات تدفّق الهجرة وأمام الصّعوبات التي واجهت ألمانيا والإتحاد الأوروبي نجحت «ماركيل» على الأخصّ في التّوصّل إلى إبرام اتفاقيّة اللّجوء مع تركيا في 18 آذار/ مارس 2016 لتستقبل هذه الأخيرة اللاّجئين على أن يتمّ دعمها من أوروبا.
الإسلام جزء من ألمانيا: جملة لها تاريخ
يوم 3 أكتوبر/ تِـشْرِين الأول 2010 وبمناسبة الذّكرى العشرين للوحدة الألمانيّة أعلن «كريستيان فولف»، رئيس ألمانيا، في كلمته أنّ الإسلام جزء من ألمانيا وحصد بذلك نقدا شديدا من الأوساط اليمينيّة في حين لقيت جملته ترحيبا من المسلمين واللّبراليّين. والغريب أنّ هذه الجملة التي أحدثت جدلا كبيرا في البلاد، وقد تكون أدّت، مع قضايا أخرى بطبيعة الحال، إلى سقوط «فولف» من الحكم، فإن ماركيل أعادت بعد سنوات نفس التّأكيد ولكن بطريقة قبلها النّاخب الألماني، فلم يحصل معها ما حصل مع «فولف» وتحوّلت الجملة الشّهيرة إلى شعار أساسي للحوار ضمن إشكاليّة الإندماج خاصّة مع التّطوّر الدّيمغرافي الذي تعيشه ألمانيا والذي يمثّل المسلمون فيه نسبة 6,7 بالمائة أي 5,6 مليون مسلم. غير أنّ عملية برلين الإرهابيّة، التي نفّذها أنيس عمري، في 19 كانون الأول/ديسمبر 2015 واستهدف من خلالها بشكل متعمّد سوق عيد الميلاد في برلين، وقُتل 12 شخصاً وأُصيب 56 آخرون، كان لها تأثير سلبي على جدل الإندماج. وضاعفت حادثة التّحرش في احتفالات نهاية سنة 2016 الأزمة، واستفاد اليمين المتطرّف من ذلك لتغذية نزعات الكراهيّة والإسلاموفوبيا. غير أنّ ماركيل طيلة هاته الفترة ظلّت ثابتة على موقفها في الوعي بطبيعة التّحوّل الدّيمغرافي وفي عدم السّماح لليمين المتطرّف بتسميم الحياة السّياسيّة وكذلك بالتّصدّي للإرهاب عبر خطاب متوازن لا يستفزّ ثوابت الحضارة الألمانيّة ويقرّ بالحضور الإسلامي في البلاد. 
كورونا: التّحدي الأكبر منذ الحرب العالميّة الثّانية
اعتبرت المستشارة الألمانيّة أنّ وباء كورونا أكبر تحدّ واجهها بل واجهته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثّانية. وفي هذا المستوى أيضا تفاعلت «ماركيل» مع هذا الوباء باستراتيجيّة ثلاثيّة الأبعاد: الأول بصفتها العالمة والثّانية بصفتها السّياسيّة المحنكة والمستوى الثالث بمثابة «ماما ماركيل». ورغم أنّ البلاد دخلت في عدد من مراحل الحجر الصّحي الكامل إلاّ أنّ ظهور «ماركيل» الإعلامي بالمستويات الثلاثة السّابقة منح المواطن الألماني طمأنينة، وحصدت المستشارة رضا كبيرا وتوّجت باعتبارها المستشارة الناجحة في إدارة الأزمة.
كما أنّها لعبت دورا أساسيّا في إنجاح توافقات مع الدّول الأوروبية خاصّة بعد الجهد المضني الذي بذلته في الوصول إلى اتفاق يتضمّن ضخّ 750 مليار يورو من أجل إنقاذ الاقتصاد الأوروبّي من الانهيار. واستطاعت بإدارتها للأزمة أن تكسب شعبيّة كبيرة كانت فقدتها بعد موجة الهجرة في سنة 2015.
ماذا بقي من «أنجيلا ميركل»؟
بالوصول إلى اتفاق حول الحكومة الجديدة ستنهي ماركيل حياتها السّياسيّة وتتّجه إلى تقاعدها. ولم تصرح المستشارة بكثير من الكلام عن هذا المستقبل سوى أنّها قالت ذات حوار أنّها ستسافر وستتمتّع أكثر بقراءة الكتب في هدوء. ولكن في الوقت الذي تتّجه هي إلى هدوئها، فإنّه يحقّ لنا أن نتساءل ماذا بقي من «ماركيل» بعد ستة عشر سنة حكمت فيها أكبر قوّة إقتصادية في أوروبا؟ 
لعلّ الجملة التي قالتها «تينا هيلدبرانت Tina Hildebrandt»، رئيسة قسم المراسلين بجريدة «دي تزايت Die Zeit»، بأنّ ماركيل «أثّرت طيلة هذه السّنوات أكثر ممّا كانت تطمح إليه». تلخّص فترة حكم هذه المستشارة الألمانية. فلقد تولّت مهمّتها في وقت متقلّب وصعب وواجهتها أزمات كبرى، وكان لهدوئها ورصانتها دور مهمّ في تجاوز هذه التّحديات وحسن إدارتها. ويتّفق الكثير، بما فيهم معارضيها، على أنّها تميّزت بالتّواضع والهدوء مع الصّرامة والبُعد عن كلّ شبهة فساد. 
كان لماركيل الشّجاعة في تبنّى سياسات متناقضة مع الثّوابت التي بنيَ عليها حزبها، على الاقل في موضوعين أساسيّين، وهما التّخلّي عن إنتاج الطّاقة النوويّة سنة 2011 وفتح الحدود أمام اللاّجئين سنة 2015. وكانت تعتمد سياسة براغماتيّة تنطلق من الاستفادة أكثر ما يمكن من الوضع الموجود أو تجنّب الأسوء في التّحدي الذي تواجهه، وجعلت دائما نصب عينيها مصلحة ألمانيا والإتحاد الأوروبي قبل كلّ شيء في كلّ القرارات التي اتخذتها وتجلى ذلك في الوصول إلى اتفاقية اللاجئين مع تركيا سنة 2016.
 كنّا نجدها أحيانا بمثابة الأم التي تشفق على أبنائها لتزرع بينهم الثّقة ولتدفعهم إلى الأمام،خاصّة أثناء الأزمة الماليّة 2008 أو في أزمة كورونا 2020 أو في كلمتها كل رأس سنة ميلاديّة. ولكنّها تكون أحيانا صارمة قاطعة في قراراتها كما كان في مفاوضاتها مع بريطانيا بعد البركسيت وفي فرض سياسة تقشف على اليونان. 
هذه السّياسات جعلتها تكسب ثقة النّاخب لأربع دورات متتالية وتحرّك حزبها المحافظ من اليمين في اتجاه الوسط.
إنّ «ماركيل» إذ تلبّي دعوة الرّئيس الفرنسي إلى لقاء توديعي في جلسة حميميّة، تختلف كثيرا عن لقاءاتها مع الرّئيس الأمريكي السّابق «ترامب»، فإنّ كل هذا لا ينسينا أنّ العلاقة بينهما لم تكن دائما على هذا المستوى. فلقد أبدت «ماركيل» تحفّظا واضحا على المحاضرة الشّهيرة التي ألقاها «ماكرون» سنة 2017 في السّربون ودعى فيها إلى إصلاحات داخل الإتحاد الأوروبي. ورغم حرص هذا الوافد الجديد يومها على الظّهور كمنقذ وقائد جديد للإتحاد الأوروبي، خاصّة بعد النّصر بطعم الهزيمة الذي منيت به «ماركيل» في انتخابات 2017 كانت أهمّ نتائجه دخول الحزب اليميني إلى البرلمان الألماني لأوّل مرّة، إلاّ أنّها استطاعت بموقفها المتحفّظ والهادئ أن تجعل دعوات «ماكرون» تمرّ كصرخة في واد لم يكن لها إلاّ بعض رجع الصّدى. وأمّا «ماركيل» فإنّها كانت تردّد في أغلب مواقفها جملة واضحة «إذا لم تتّخذ ألمانيا وفرنسا موقفا موحدا، فإنّ أوروبا لن تتقدّم».
 ولكن من يعلم، فلعلّ «ماكرون» يعود من جديد إلى لعب دور أهمّ في الإتحاد الأوروبي بعد حصول فراغ في ملعب الحياة السّياسية بمغادرة «صانعة ألعاب الإتحاد الأوروبّي» للميدان.