تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (11)
 إيمانا منّي بالحرّيات الشّخصيّة وحرّية الضّمير التي أصبحت من ثوابت دستور البلاد، لن أسمح لنفسي كشف أسرار البنت «نوفل» إلاّ ما سمحت به هي نفسها وأذنت بنشره. لهذا ألتمس منك أيها القارئ الفطن وأنت تحترم هذه المبادئ الانسانيّة أن تغفر لي تقصيري في البيان، وأتمنّى أن لا ينقص هذا التّحفّظ المتعمّد من القيمة السّرديّة للقصّة. وسأعمل ما بوسعي لتمرير بعض الإشارات أرجو التقاطها من بين السّطور.
لمّا تكبر البنت وتينع وتزهر ويفوح ريحها، تكبر معها رغباتها وحاجاتها إلى الاقتراب بمن يلامسها ويلاطفها. لو كانت «نوفل» أنثى لما تنكّرت لرغبتها في الشّهوة، بل لفزعت وتمرّدت على الشّبق المفقود. لو كانت «نوفل» ذكرا لرفعت إزارها وافتخرت بما تحته وتقرّبت من البنات من حولها بأكثر شغفا.
كم مرّة سألت «نوفل» نفسها من تكون؟ وكم مرّة أجّلت هذا السّؤال ودفعت به إلى الغائب المجهول خارج نطاق الاهتمام؟ سؤال اعتقدت أنّها خلّفته منذ محطّتها الأولى التي وقفت عندها تنتظر قطار الحياة وتسلّقته وقد اعتقدت أنّها تخلّصت من كلّ ما يربطها بالحاضر وكلّ ما يشدّها إلى تلك المحطّة. واستعجلت انطلاق القطار الذي سارع وتسارع نسقه حتّى لم تشعر في فترات من حياتها أنّها تسافر على الأثير بسرعة الضّوء. إلاّ أنّه كلّما توقّف القطار ليحمل لها ركّابا جددا ويخلي سبيل ركّاب حضرت محطّاتهم على التوّالي فغادروا، نظرت من خلال النّافذة المنفتحة على عالمها الخارجي ووجدت أنّها في نفس المحطّة أو شبّه لها أنّها المحطّة التي انطلقت منها. هل القطار لم يتحرّك أم أنّ كلّ المحطات متشابهة؟
ها هي اللّيلة تتمعّن في نصفها الأعلى من خلال المرآة الكاشفة على سطح بلّور النافذة. كم هي جميلة وكم يروق لها جسمها الكامل والمتناسق الذي يغري كلّ من حولها من النّاس دون استثناء. لن تقف لترى قوامها ولن تعطي فرصة للأعين المختالة من تفحص ما وراء حياءها. تعوّدت أن لا ترى نصفها الأسفل على جدار مرآتها الطّويلة وكانت منطقة الحِجْر المستهدفة بالإخفاء دائما بحزام غير كاشف. 
كلّ المرايا تبدو قاتمة غير كاشفة لذلك الجزء منها. قيل أنّ الإمام علي كرّم اللّه وجهه استحق هذا التّكريم لأنّه لم يتكشّف على عورته أبدا؟ وهي أيضا لا تريد أن تتكشّف على عورتها لا حياء من نفسها ولكن لأنّ عورتها قبيحة، والأقبح منها ذلك الجزء الخفي من روحها التي تعوّدت إخفاءه تسترا. كم مرّة نهرتها والدتها «بسمة» لفظا «استر روحك» أو  «ردّي بالك على روحك» أو بالغمز واللّمز تحسّبا من انكشاف قبحها.
«نوفل» أصبحت تدرك جيّدا حقيقة قبحها الذي يزيد بالتّعرّي. لهذا اخفته إلى حدّ النّسيان، وجعلت على حجرها شريطا أسودا غير شفاف حتّى لا ينتشر هذا القبح ولا يشوه جمالها الطّاهر النّقي وجمال روحها التي لا يدركها إلاّ من عاشرها من نخبة أصدقائها. ولكن هل تدرك حقيقة ما يدور حولها؟ هل بلغها شيء ممّا أزعج والدتها «بسمة»؟ وهل فكّرت يوما إلى متى سيظلّ الوضع على حاله وهي ماسكة به ومتى سينقطع العقد الذي تفتخر به وتنفلت من بين يديها حباته؟ 
على «نوفل» أن تختار اليوم بين أن تكشف ما تحت إزارها وتفضح أمرها وليكن ما يكون رغم خوفها مثل كلّ النّاس من المجهول الذي لم تتسلّح بما يكفي لمواجهته أو أن تستمر في التّستّر والتّخفّي وراء السّتار القاتم إلى أن تبلغ سنّ اليأس ويسقط عنها الحرج.
«... يراني أبي مثل الكتاب بعنوانه والأحداث التي كتب تفاصيلها ظلّت داخله محفوظة عن ظهر قلب ولا يفتح كتابي إلاّ على صفحة التّفاصيل التي تغيّب شكلي. لمّا كبرت فهمت أنّ مكتبة أبي المتنوّعة المصادر يقرأ الجميع كتبها لاكتشاف الجسد وتفاصيله. لكلّ كتاب جنسٌ يسلّط على القارئ فيجده على كلّ صفحة من صفحاته. العِشرة وطول المعاشرة تنقل التّفاصيل الشّكليّة داخل الكتاب وتغيب بين دفّتيه. ويبقى المرء سجين جنسِ أشكاله خارج إطار كتبه. ...»
كثر الكلام وشاع ما دار بين العجائز وبلغ الكبير والصّغير، وعلى قدر اتساع رقعة القيل والقال واختلاط الحابل بالنّابل على قدر ما ضاعت الحقيقة واطمأنت «نوفل» وزادت حجرها تحصّنا. نعم اطمأنّت «نوفل» لما أصبح الجميع يتندّرون بكلام «تحت الصّرة» تحجبه الأدوات الرّقابيّة للقنوات التّلفزيّة في حواراتها خلف قناع «التّيت تيت» مثله يختفي التّلوث المرئي خلف دوائر شفّافة. ولكن حيرتها من جهة أخرى زادت لأنّها تدرك جيّدا إذ تعلّمت كم أصبح المجتمع مكرها على التّذبذب بين الكره والحبّ وبين القبول والرّفض. فهمت «نوفل» كم يتمنّى الرّجل أن تكتظّ الشّوارع بالبنات الغانيات الفاتنات من دون أخواته وزوجته، فيكون بينهنّ مدلّلا بين غمزة وبسمة. كم مرّة تنفلت من أحاديثهم شهادات إعجاب بهذه وبتلك إن لم تكن مغامرات غراميّة تصل أحيانا إلى أبعد من ذلك فيقفوا عنده ويبقى ما شيع غير أخلاقي مستورا؟
وكذلك النّساء، من منهن لم تتمنّ معاكسة الرّجال وهي تختال بينهم؟ ألا تستظهر المرأة في كلّ مناسبة بسجلّ المعجبين بها شرط التّستّر على ما هو أبعد؟ 
تسأل «نوفل» نفسها باستمرار من هي بين كلّ هذا؟ هل هي من هؤلاء أو من هؤلاء الآخرين؟ تترعرع الفكرة وتكبر، فتخامر صاحبها على جبهات متعدّدة وقد تتوسّع وتحاصره عندما تتداخل فيها أطراف متنازعة بين الرّصين والمتهوّر والوسطي والمتطرّف، فتأخذ الفكرة عدّة أشكال قبل أن تتشكّل جديدة غريبة ولكنّها الأقرب للفعل.
ليست هناك حرب أبديّة يخوضها الإنسان مثل التي تدور رحاها حول ذاته التي بقيت بعد كلّ الصّراعات غامضة وعديد من  زواياها مظلمة.   
في هذه الحيرة تدرك «نوفل» جيّدا أنّه بإمكانها أن تجد مكانا أكثر فاعليّة، لتجد لنفسها ولمن مثلها في هذا المجتمع المكانة التي ترنو إليها.
  إنّها تكره أن تكبر في هدوء و تزعجها الرّتابة.