القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
المقال الأول: الجبال أوتاد الجزء الخامس: الدليل الملموس
 الارتفاع التوازني للقشرة
تناولنا في الجزء الثّاني ظاهرة تعرف بالتّوازنيّة isostasie أي توازن قشرة الأرض التي يرجع الى طفوها على الوشاح الأكثف شبه المائع الموجود تحتها. وتمثّل التّوازنيّة «الآليّة المنسقة التي تربط تطوّر الجبال التّكتوني أو الدّاخلي بتطوّرها الجيومورفولوجي (الشّكلي) أو الخارجي»(1). فعندما تنتصب الجبال تغوص القشرة في الوشاح نتيجة ازدياد حجمها وإذا أزال «الانجراف (الدّحو)(2) كتلة ما من قمم الجبال تستجيب التّوازنيّة برفع سلسلة الجبال بكاملها نحو الأعلى»(3). ويفسّر هذا الارتفاع عددا من الظّواهر التي كانت محيّرة للعلماء مثل تكشّف صخور القشرة الأرضيّة التي كانت توجد تحت الجبال على أعماق كبيرة ومن بينها تلك التي تؤكّد وجود الجذور الجبليّة وهي موضوع الجزء الخامس والأخير من هذا المقال. فالدّليل المادّي على وجود الجذر يتعلّق بالصّخور المكوّنة له والتي صعدت الى سطح الأرض بفعل قانون الطّفو إثر إزالة السّلاسل الجبليّة.
تكشف صخور الجزء السفلي للجبل: صخور جزء الوتد المغروز في الأرض في العراء
يمثّل انتصاب الجبال ازديادا في سمك القشرة فيصاحب ذلك غوصها عميقا في الوشاح وفق مبدأ الأجسام الطّافية. ومع تقدّم عمليّة الإزالة لتضاريسها تميل إذا القشرة الأرضيّة تدريجيّا الى الارتفاع كشكل من أشكال الاستجابة التّوازنيّة لتقلّص حجمها.  وعندما تسوّى الجبال بالأرض تصبح الصّخور التي كانت في أعماق كبيرة داخل الأرض متكشّفة على السّطح (أنظر النّقطة الحمراء في الشّكل). 
 يبيّن الشّكل الأول في الأعلى كيف ينتصب الجبل بازدياد سمك القشرة بسبب الضّغط الأفقي المسلّط عليها، كما يشير السّهمان المتقاربان. وتمثّل النّقطة الحمراء معادن دفنت في أعماق كبيرة نتيجة انغراز القشرة في الوشاح. أمّا الشّكل الثّاني والثّالث فيظهر كيف تصعد المعادن (النّقطة الحمراء) تدريجيّا الى السّطح بارتفاع القشرة للأعلى كاستجابة توازنيه لزوال الكتلة الجبليّة بالدّحو من جهة وانخفاض ارتفاعاتها بفعل تمدّدها أفقيّا (السّهمان المتباعدان) نتيجة لحرارة الصّخور المدفونة وتصرّفها كالسّوائل من جهة. 
لقد ساهمت هذه الآليّة في تطوّر التّنوع في معدنيّة الأرض عبر الدهور إذ «ظهرت مئات المعادن أوّل مرّة على سطح الأرض عندما رفعت القوى الباطنيّة مناطق من صخور عميقة وكشفتها وما تحويه من معادن مميّزة تكوّنت تحت ضغط عال من مثل معدن جاديت وهو واحد من معدنين يعرفان بشكل أفضل باسم الحجر الكريم «جاد» Jade»ا(4). 
 يوجد معدن «الجاد» بعدة ألوان في الطبيعة بما في ذلك الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأرجواني والبني والأزرق والأسود والوردي، وعديم اللون.
وكما تشكّل معدن الجاديت بعمليّة ديناميّة قشرة الأرض، فقد وجد العلماء معادن أخرى متكشّفة على سطح الأرض تولّدت بنفس الآليّة. تعود هذه المعادن في الأصل الى مكوّنات القشرة القارّيّة العميقة وقد تحوّلت تحت الضّغط الشّديد الذي كانت عليه تحت الجبال القديمة قبل أن تصعد الى السّطح وفق مبدأ الأجسام الطّافية إثر إزالة تلك الجبال. وبما أنّ مثل هذه الظّاهرة لا يمكن دراستها في النّطاقات الجبليّة الحديثة مثل جبال الألب الغربيّة أو جبال الهيمالايا أو الأنديز لأنّها تقع هناك على عمق كبير ولا يمكن الوصول إليها من خلال المراقبة المباشرة فقد تركّزت الدّراسات على السّلاسل الجبليّة القديمة والمتآكلة إلى حدّ كبير. ومن بين المناطق الجبليّة القديمة التي وقعت دراستها نذكر مثال المرتفعات الفرنسيّة الوسطى (Massif central français).  لقد تشكّلت الجبال التي تطوّرت لتعطي تلك المرتفعات منذ ما قبل 300 إلى 400 مليون سنة إثر سلسلة من الاصطدامات بين الكتل القارّيّة التي شاركت في تكوين آخر قارّة عملاقة المسمّاة Pangea. 
الصّخور المتكشّفة في المرتفعات الفرنسيّة الوسطى
تتكوّن الصّخور المتكشّفة في المرتفعات الفرنسيّة الوسطى بشكل أساسي من الجنيس والجرانيت والميجماتيت(migmatites). فما هي صخرة الميجماتيت وعلى ماذا تؤشّر؟ لم نتساءل عن الجنيس والجرانيت لأنّنا سبق وأن قلنا إنّهما المكوّنان الرّئيسيّان للقشرة القارّية. وقد رأينا أنّ الصّخور الجرانيتيّة هي أصل القشرة القارّيّة وأنّها تتحوّل وتصبح صخورًا متحوّلة مثل الجنيس(gneiss) عندما يزداد سمك القشرة القارية(6). ومع هذا، يمكن للجنيس أيضا أن يذوب جزئيًا إذا تجاوز عمقه الثّلاثين كيلومتر (أي تحت الجبال)، وهو متوسّط سمك القشرة تحت السّهول، ليعطي كمّية من الصّهارة تشكل، بعد أن تبرد، مع المعادن غير المتحولة والمتحولة صخورا أطلق عليها اسم الميجماتيت باعتبار أنّها خليطا اذ يعود أصل هذا اللّفظ الى اللّغة الإغريقيّة وهو يعني حرفيّا «خليط».  أمّا إذا كان الانصهار كاملا وهو ما يحدث في أعماق أكبر فعندها تعطي الصّهارة بعد أن تبرّد معدنا يسمّى جرانيت الانصهار granite d’anatexie. وكلّ ذلك لا يتوفّر الاّ عند انتصاب السّلاسل الجبليّة لما ينتج عن وزنها الضّخم من ضغط عال وحرارة مرتفعة في الأسفل. لذلك فإنّ وجود صخر الميجماتيت في السّطح وهو المكوّن من خليط من جرانيت الانصهار وما تبقّى من بنية الجنيس يمثّل مؤشّرا صخريّا يشهد على تحوّل الجنيس بسبب تغيّر في ظروف درجة الحرارة والضّغط النّاجمين عن الدّفن العميق في الأرض ممّا يشهد على سماكة مرتبطة بقصر سمك قشرة قارّية في سلسلة جبليّة. إنّه يؤشّر على وجود الجذر تحت السّلاسل الجبليّة لما يتطلّب وجوده من ضغط وحرارة لا توجد الاّ هناك كما يؤكّد أيضا ظاهرة الطّفويّة التي أتت به الى سطح الأرض بعد أن كان مدفونا في أعماق تتجاوز بكثير 35 كم
خاتمة
تتشكّل الجبال أساسا من صخور القشرة الأرضيّة النّارية مع قليل من الصّخور الرّسوبيّة في الأعلى. تتميّز القشرة القارّية تحت السّلاسل الجبليّة عن القشرة القارّية تحت الأراضي المنبسطة بجذور ممتدّة عميقا في الأسفل.
يتكوّن الجذر من صخور القشرة ذاتها وقد تحوّلت بنيتها المعدنيّة بفعل الضّغط والحرارة المرتفعة في الأعماق الى صخور أخرى لها نفس المعادن مع اختلاف في الطّريقة التي ركبت بها. ففي الأعلى يوجد الجرانيت وتحته الجنيس ثمّ الميجماتيت وهو خليط ممّا تبقى من الجنيس وما جدّ من جرانيت الانصهار.
تمثّل صخرة الميجماتيت ذاكرة الصّخرة الأصليّة وتعكس ظاهرتين أساسيّتين مرتبطتين بالجبال وبالضّبط بموضوع الوتد: الأولى تتعلّق بالظّروف القصوى للضّغط والحرارة والتي لا يمكن أن توجد الاّ تحت السّلاسل الجبليّة وبالضّبط في جذورها، أمّا الثّانية وهي معبرة جدّا بالنّسبة لموضوعنا.
إنّ تحوّل الجرانيت الى جنيس ثمّ الى ميجماتيت ناتج عن عمليّة «دق» لمادة القشرة الأرضيّة الى أعماق أكبر فأكبر في الوشاح مثلها مثل عمليّة دقّ الوتد في الأرض. 
يتميّز الجبل إذا بارتفاعه فوق سطح الأرض وانغراسه عميقا في الوشاح وبتركيبة معدنيّة عموديّة مختلفة عن القشرة القاريّة، كما يتميّز أيضا بالتّوزيع الحراري داخله حيث تكون الحرارة فيه أعلى من مثيلاتها في نفس العمق تحت السّهول والمنبسطات. فهل يستحق جسما بهذه الخصائص أن يسمّى وتدا مغروسا في الوشاح؟ 
فاذا كان المعنى الأصلي لكلمة وتد يعني حرفيّا جسما مغروزا بإحكام في الأرض له جزء ظاهر وآخر أكبر منه مخفي، فهل القول بأنّ الجبال أوتادا هو تعبير مجازي أم هو الحقيقة بعينها؟ أليس من تعريفات الحقيقة تطابق الصّورة الذّهنيّة مع الواقع؟
ألا تحيل بنية الجبل كما رأيناها الى صورة الوتد؟ تحيل كلمة وتد بالضّرورة وبكلّ وضوح إلى صورة ذهنيّة بينت العلوم تطابقها مع الواقع. فمن أين للرّسول معرفة تلك الحقيقة؟ 
ولكن، ربّ سائل أن يسأل كيف تنسب هذه الحقيقة للقرآن في حين أنّها مذكورة في الثّقافات الأخرى كما أنّ العرب كانوا يقولون بها؟ سنخصّص في نهاية المقالات المتعلّقة بالجبال بصفة خاصّة والرّواسي بصفة عامّة فقرة نحدّد فيها موقفنا من القول بأنّ القرآن «اقتبس» العديد من المواضيع من الدّيانات والثّقافات السّابقة.
الهوامش
(1) دور التحات في تشكّل الجبال – مجلة العلوم الأمريكية: أغسطس – سبتمبر 1997 / المجلد 13.
(2) مجلة الإصلاح الالكترونية الأعداد: 142/143/144/158.
(3) دور التحات في تشكّل الجبال – مجلة العلوم الأمريكية: أغسطس – سبتمبر 1997 / المجلد 13.
(4) تطوّر المعادن – مجلة العلوم الأمريكية، مارس – أفريل 2010 / المجلد 26.
(6)  الجزء الرابع –  مجلّة الإصلاح، العدد 168، جويليّة 2021