أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تطوّر نظريّات الحركة الحلقة الأولى: في البدء كانت السّماء
 تمهيد
في البدء كانت السّماء، ولم يكن أحد يتصوّر أنّ السّماء ملهمة الشّعراء، ستكون هي أيضا المعمل الرّبّاني الذي سيستخرج منه بنو الإنسان علومهم الطّبيعيّة والرّياضيّة التي بها سيطيّرون الطّائرات، ويُطلقون الصّواريخ والأقمار الصّناعيّة في الفضاء، ويجرون بها السّفن على الماء، بل وسيخرجون بها المارد من قمقمه المتمثّل في معرفة نظريّات الحركة، والتي ستمكّنهم من دراسة كلّ شيء متحرّك. في هذا الصّدد أتذكّر قول اللّه عزّ وجلّ «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ»(1).
 وفي القرن السّادس عشر الميلادي كانت هموم العلماء هي نمذجة الطّبيعة بمعنى كتابة دساتير «معادلات رياضيّة» لحركة الأجسام السّماويّة تمكّنهم من تتبّع حركتها والتّنبؤ بمواقعها بدقّة، خدمة لأنشطة كثيرة منها تيسير حركة السّفن في البحار والمحيطات بحيث لا تضلّ الطّريق، وخدمة التّجارة بين المدن والدّول، فكان من ثمرة ذلك مثلا تتويجا لولادة حساب التّفاضل والتّكامل على أيدي علماء كبار مثل «نيوتن» و«لايبنتز» وكلاهما كانا يعملان في المرصد الفلكي بأنجلترا، وغيرهما كثير ممّن سبقوهما ومهدوا لهما الطريق، وعندما تمّ التّوسع في دراسة حركة الكواكب ورسم مداراتها تمّ ابتكار طرق جديدة في المعادلات التّفاضليّة على أيدي «برنوللي» و«لاجرانج» و«أويلر» خصوصا في دراسة الأخيرين لرسم مدار كوكب المشتري الذي من أجله تمّ ابتكار طريقة تغيير الباراميترات، وهي طريقة معروفة لحلّ بعض المعادلات التّفاضليّة، لكن معملها التي ابتكرت الطّريقة فيه هو كوكب المشتري. 
من جمع البيانات السّماويّة إلى النّمذجة
تعلّق النّاس دومًا بالسّماء، ففي أوائل القرن الرّابع عشر قبل الميلاد رسم الصّينيّون القدماء خرائط للنّجوم، وسجّلوا كسوف الشّمس وخسوف القمر، بينما تمكّن البابليّون في عام 700 قبل الميلاد تقريبًا من استنباط أوقات تكون فيها الكواكب أقلّ اقترابًا، وأقصى ابتعادًا عن الشّمس. كما استنبطوا أيضًا متى يمكن رؤية الأجرام السّماويّة المختلفة لأوّل مرّة أو آخر مرّة في العام. وحدّد قدماء المصريّين بداية الرّبيع بملاحظة موقع نجم الشِّعْرَى اليمانيّة، ألمع نجوم السّماء. كما استخدموا معلوماتهم الفلكيّة في بناء معابد ذات حوائط متّجهة إلى أجرام سماويّة بعينها مثل ما هو موجود في معابد المصريّين القدماء.
طوّر علماء الإغريق وفلاسفتهم عددًا من الأفكار الفلكيّة، فاعتقد «فيثاغورث» الذي عاش في القرن السّادس قبل الميلاد أنّ الأرض كرويّة الشّكل، وحاول أيضًا شرح طبيعة الكون وتركيبه ككل، وبذلك طوّر نظامًا أو نموذجا كونيّاً في وقت مبكّر. وفي نحو عام 370 قبل الميلاد صمّم «يودوكسوس أوف كنيدوس» نظامًا ميكانيكيًّا لشرح حركات الكواكب. ونادى «يودوكسوس» بأنّ الكواكب والشّمس والقمر والنّجوم تدور حول الأرض. وفي القرن الرّابع قبل الميلاد أدخل «أرسطو» هذه النّظريّة الهندسيّة، «نظريّة مركزيّة الأرض»، في نظامه الفلسفي.
كذلك اقترح «هيراقليطس أوف بونتس»، خلال القرن الرّابع  قبل الميلاد، أنّ الحركة الظّاهريّة للأجرام السّماويّة ناحية الغرب راجعة في الحقيقة إلى دوران الأرض حول محورها في اتجاه الشّرق. كما اعتقد أنّ كوكبي عطارد والزّهرة يدوران حول الشّمس وليس حول الأرض. وخلال القرن الثّالث قبل الميلاد ذهب «أريستاركوس أوف ساموس» لأبعد من ذلك، فاقترح دوران الكواكب بما فيها الأرض حول الشّمس ودوران الأرض حول محورها. وكان كلّ من «هيراقليدس» و«أريستاركوس» سابقين زمانهما، ومع ذلك لم تستطع أفكارهما أن تحلّ محل نظريّة مركزيّة الأرض، وستكون أفكارهما النّواة الحقيقيّة بما سيسمّى فيما بعد بثورة «كوبرنيكوس».
ثورة كوبرنيكوس
ظلّت نظريّة «بطليموس» عن مركزيّة الأرض سائدة لنحو 1500 عام. وتقبّل الفلكيّون جزءًا من أفكاره وجداوله التي وضعها مسبقًا للكواكب. وخلال معظم هذه الفترة أولى الأوربيّون قليلاً من الاهتمام بعلم الفلك. هذا في الوقت الذي واصل فيه الفلكيّون العرب رصد السّماء وتنقيح ما جاء في كتابات «بطليموس» والمحافظة عليها. لكن جاءت الطّفرة في فهم الكون عام 1543م مع نشر كتاب حول دوران الكرة السّماويّة للفلكي البولندي «نيكولاس كوبرنيكوس». اختلفت الأفكار التي قدمها «كوبرنيكوس» في كتابه كثيرًا عن النّظرية التّقليديّة لبطليموس لدرجة جعلت المؤرّخين العلميّين يتحدّثون عمّا أسموه «ثورة كوبرنيكوس».
اقترح «كوبرنيكوس» أن تكون الشّمس في وسط الكون، وتدور الأرض وبقيّة الكواكب حولها. وقد استطاعت نظريّة مركزيّة الشّمس تفسير الحركات المرصودة للكواكب، في الوقت الذي تتطلّب فيه نظريّة بطليموس لمركزيّة الأرض نظامًا معقّدًا لتفسير وجود إزاحة تقهقريّة أحيانًا للكواكب بالنّسبة للنّجوم. وقد علّل «كوبرنيكوس» هذه الحركة بأنّها ليست راجعة إلى حركة حقيقيّة للكواكب، وأنّ الكواكب تظهر متحرّكة على هذا النّحو بسبب حركة الأرض ذاتها حول الشّمس. وبالرّغم من ذلك لم يستطع نظام «كوبرنيكوس» إعطاء تحديد مسبق دقيق لمواقع الكواكب.
وفي أواخر القرن السّادس عشر الميلادي قام الفلكي الدنماركي «تيكو براهي Tycho Brahe» برصد حركات الكواكب بدقّة أكبر ممّا تمّ من قبل برغم بساطة آلة الرّبع التي رصد بها الكواكب. وأظهرت أرصاده، وخصوصًا لكوكب المريخ، عدم دقّة جداول مواقع الكواكب المستخدمة في ذلك الوقت. وبوفاة «تيكو براهي» عام 1601م عكف مساعده «يوهانس كبلر Johannes Kepler»  على تحليل أرصاده. ومن أرصاد «براهي» اكتشف «كبلر» أنّ الكواكب تدور حول الشّمس في قطاعات ناقصيّة (إهليليجيّة). وحتّى هذا الوقت كان الجميع، حتّى مؤيدي نظريّة مركزيّة الشّمس، يفترضون وجود مسارات دائريّة. وبالإضافة إلى ذلك اكتشف «كبلر» مبدأين آخرين يتحكّمان في سرعة الكوكب في مداره. وقد حسّنت اكتشافات «كبلر» دقّة حسابات مواقع الكواكب، وبالتّالي أتاحت التّأييد لنظريّة «كوبرنيكوس». ويؤكّد «سارتون» أنّ بحوث المسلمين في الفلك هي التي أوحت لكبلر أن يكتشف القانون الأوّل من قوانينه الثّلاثة الشّهيرة وهي إهليليجيّة فلك الكواكب. وجدير بالتّنبيه أنّ «كبلر» لم يستنبط قوانينه الثلاثة من نموذج رياضي وإنّما من تحليل أرصاد «تيكو براهي». وفيما يلي القوانين الثلاثة لكبلر:(2) 
القانون الأول: تتحرك الكواكب في مدارات على شكل قطاعات ناقصيّة تقع الشّمس في إحدى بؤرها
القانون الثّاني: يمسح المستقيم الواصل بين الشّمس والكوكب مساحات متساوية في أزمنة  متساوية
القانون الثالث: مكعب نصف القطر الأكبر لمسار أي كوكب يتناسب مع مربع الزمن الدوري له، ومعامل التناسب ثابت لكل كواكب المجموعة الشمسية. 
وفي أوائل القرن السّابع عشر الميلادي كان الإيطالي «جاليليو» أوّل من استخدم تليسكوبًا لرصد السّماء. وقد ساعدت أرصاد «جاليليو» في تأكيد نظرّية «كوبرنيكوس». فقد اكتشف أربعة أقمار تدور حول المشتري وهي معروفة بالأقمار الجاليليّة. واتضح من ذلك، على عكس نظريّات «أرسطو» و«بطليموس»، أنّ الأجسام لا تدور كلّها حول الأرض.
البداية الحقيقيّة لميلاد نظريّات الحركة
في عام 1642م، أي بعد وفاة «جاليليو» بعام تقريبًا ولد «إسحاق نيوتن Isaac Newton» في إنجلترا وصار أشهر علماء عصره. فقد اكتشف قانون الجاذبيّة الذي ينصّ على أنّ «كلّ جسمين في الكون يتجاذبان مادّيا  بقوّة تتناسب طرديّا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيهما مع مربّع المسافة بينهما». وأوضح تفسير ذلك القانون لحركات الكواكب والمذنّبات والأجسام الثّقيلة على الأرض. وطبقًا لهذا القانون، يجذب كلّ جسم في الكون أيّ جسم آخر. وتعتمد قوّة الجذب بين أيّ جسمين على كتلتيهما والمسافة بينهما. وبعد ذلك تمّ الرّبط العبقري من قبل «نيوتن» بين قانون الجاذبيّة وقانون العطالة (القصور الذّاتي)  الذي ينصّ على: «يظلّ الجسم على حالته من السّكون أو الحركة بسرعة منتظمة ما لم تؤثّر عليه قوّة خارجيّة تغيّر من حالته» وبذلك فتح بابا عظيما في تفسير حركة الكواكب. وقد تمّ تأكيد قوانين «كبلر» من النّاحية الرّياضيّة من خلال اشتقاقها من النّموذج الرّياضي الذي قدّمه «نيوتن».
وبالرّغم من أنّ هذه القوانين الثّلاثة لـ «كبلر» لا تصف بإحكام حركة الكواكب حول الشّمس، لأنّ هذه القوانين تفترض أنّ القوّة الوحيدة المؤثّرة في النّظام هي تلك التي بين كلّ كوكب على حدة والشّمس. ولكنّ قانون الجاذبيّة العام لنيوتن يقرّر أنّ هناك جاذبيّة بين الكواكب فيما بينها أيضا. فالقمر من دورانه حول الأرض تؤثّر عليه جاذبيّة الشّمس بدرجة محسوسة ومعروفة قبل قوانين كبلر باسم الاضطرابات perturbations . والحمد للّه أنّ تأثير الكواكب على بعضها البعض ضعيف إلى حدّ كبير بحيث يمكن إهماله عند صياغتنا لنظريّات حركة لا تشترط فيها الدّقة الكبيرة في الحسابات، ولهذا تنطبق قوانين «كبلر» عليها كتقريب أوّلى لحركتها.
 
الهوامش
(1) سورة الذّاريات - الآية  22 
(2)  C. Murray and S. Dermott, Solar system Dynamics, Cambridge University Press, 2000