فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
في معنى حضور الأجل وأنّ الأعمار بيد الله
 قال اللّه تعالى: « وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(1) صدق اللّه العظيم.
يظنّ أغلب النّاس في مجتمعاتنا الإسلاميّة، استنادا إلى هذه الآية وشبيهاتها، أنّ عمر الإنسان مقرّر سلفا في الغيب على معنى أنّه مهما خالف سنن الطّبيعة والتّاريخ والعمران البشري، أو تعرّض لحوادث حتّى وإن كانت من جنس الحوادث المميتة في الغالب، فإنّه لن يموت إلاّ في عمر وفي يوم ولحظة مقرّرة من اللّه سلفا بطريقة منفصلة تماما عن نظام الكون وسنن الحياة وقواعد العمران البشري. بمعنى أنّ اللّه سبحانه وتعالى قد قرّر، لحكمة لا علاقة لها بالحكمة التي يؤتيها بعضا من عباده، كالأنبياء والعلماء والحكماء، بما سخّر لهم من سبل تحصيل الفهم والحكمة، أن يمنح لزيد عمرا بثمانين عاما، ولعمرو عمرا بستّة وثلاثين عاما، وأن يموت فلان وهو في سنّ الطّفولة، وعلاّن في سنّ الشّيخوخة....الخ.
هذا الفهم لمسألة الأجل وأعمار الناس المقدّرة في كتاب يغلب عليه الغلط والوهم، إن لم يكن غالطا وواهما بالكامل، وإنّما استثنيت منه ضمنيّا قدرا يسيرا من الصّحة، تركته للحالات وللمتغيّرات فائقة التّعقيد التي تتطلّب علما قد لا يحصل عليه البشر في هذا الزّمان.
قبل أن أبسط للقارئ ما أراه فهما سليما لمسألة الأجل، أضعه أمام هذا المأزق الفكري الكلامي (في صلة بالعقائد): ماذا نقول عن شخص قتل شخصا آخرا عمدا وظلما؟ هل له أن يتحجّج على اللّه بأنّ اللّه قد قدّر أن يموت القتيل في يوم كذا وفي ساعة كذا على يده، بحيث يكون قدر اللّه المُبرم وإرادته التي لا رادّ لها قد سبقا إرادة القاتل في جرمه، وأن إرادة العبد هي من إرادة اللّه، فارتفعت مسؤوليّة الجرم عن المجرم؟
أي أنّنا هنا إزاء مسألة معروفة ومسلّم بها تقريبا لدى الجميع وهي مسألة العدالة الإلهيّة. فإنّه يمتنع في حقّ اللّه أن يعذّب عبدا له ظلما، وأن يجبره بقضاء وقدر سابق على فعل أمر منكر ثمّ يحاسبه عليه. ماذا يحضر بداهة في الحسّ السّليم أمام هذه الوضعيّة المربكة؟ يحضر فيه أنّه قد سبق في علم اللّه حصول موت فلان بقتل علاّنٍ له، في ساعة كذا من يوم كذا، وأنّ هذا هو معنى القضاء والقدر في هذه الحالة، لا أنّ اللّه قد حتّم على علاّن قتل فلان. هذا تأويل صحيح، ولكنّه ناقص. والنّقص الذي فيه أمر بسيط إدراكه، وهو أنّ القتل قد تمّ وفق مقادير محسوبة في الفعل من جسم القاتل وردّة الفعل من جسم القتيل (بالقوّة، والذي سيصبح بعد قليل مقتولا بالفعل) بحيث لا تؤدّي تلك المقادير وحيثياتها إلاّ إلى حصول موت المعتدى عليه. وهذه المقادير، من مقادير اللّه. أي قوانين الطّبيعة التي عملت في اتجاه تحقيق نيّة القاتل في القتل.
أعود الآن لطرح الموضوع بطريقة أكثر منهجيّة.
إنّ الإنسان يولد وله استعدادات طبيعيّة في الحياة، من تنفّس، ودقّات قلب، وجريان الدّم في العروق، واستجابات مختلفة في عمل الدّماغ والأعضاء، إمّا لحاجات وظيفيّة مستمرة طول حياة الإنسان، أو لمثيرات تفد عليه من محيطه الخارجي. عدد دقّات القلب ومقدار قدرة الدّماغ القصوى على النّشاط، وسائر الخصائص الحيويّة الأساسيّة للجسم، كلّها مضبوطة بمقادير مسجّلة في كتاب هو نسخة مطابقة للأصل من كتاب اللّه في الخلق، وهو البرنامج الوراثي لكلّ كائن حيّ. وفيه خصائص يشترك فيها مع كلّ أفراد النّوع الذي ينتمي إليه، وفيها خصائص يشترك فيها مع بعضهم فقط، مثل بعض الأقارب، كالوالدين، أو أحدهما، بشكل مهيمن أو كامن، وفيها ما يتميّز به عن كلّ الآخرين، مثل البصمات وغيرها، وربّما يكون لكلّ قلب إنسان بصمة، أي شحنة معيّنة مضبوطة للعمل لمدّة كذا سنوات وكذا أيّام وساعات ودقائق وثوان وأجزاء من الثّواني...كلّ هذا المسجّل في البرنامج الوراثي للإنسان الفرد، هو أجله، أي رصيده الأقصى، الذي لو حافظ عليه، ولم يفسد عليه أمره بشرب الكحول وأكل الميتة والإفراط في تناول الموادّ الدّسمة أو الحلوة أو المالحة أو المقليّة وغيرها...وتجنب أقصى ما يمكن من الغضب والإجهاد وقلّة النّوم...وتجنب أقصى ما يمكن من الفيروسات والجراثيم التي لا يقوى بدنه على مقاومتها....وأن ينجو من الحوادث الخطيرة ومن حالات الحزن الشّديد والضّغط النّفسي القويّ...الخ، فإنّه بإمكانه أن يتمتّع بكلّ رصيد الحياة المخول له جينيّا. ومن هنا جاءت نظم الصّحة والأكل والعلاج...الخ. ولكن ما يحدث في الواقع هو أنّ كلّ النّاس تقريبا يُنتقص من رصيدهم الحيوي بطريقة أو بأخرى. وقد جاء الوحي بمنهج حياة متكامل وشامل في كتاب يتوافق مع أقصى ما يمكن أن يعيشه الإنسان وفق كتابه الحيوي الجيني، حياة هنيئة طيّبة. فنهى عما نهى عنه وأمر بما أمر به، لطفا بالإنسان ورحمة من اللّه واهب الحياة به ومودّة له منه.
ولكن هذا التّطابق الكامل بين كتاب الحياة البيولوجيّة والنّفسيّة وسيرة الإنسان في حياته ضمن الجماعة، تحول بينه وبين تحقّقه عوائق كما أسلفنا، ومنها أيضا الفقر والظّلم والقهر، فيلزم هنا تطابق كتاب آخر مع كتاب الحياة الممتلئة السّويّة هو كتاب العدالة وكتاب الشّرائع والقوانين والبرامج والخيارات التّربوية والاقتصاديّة والاجتماعيّة للدّولة...الخ.
ولذا، فإنّ كلّ ظلم ترتكبه الدّولة لمواطنيها وكلّ حرمان لهم متعمّد من حقوقهم المادّية والمعنويّة هي جرائم ترتكب في حقّهم وتنقص من حياتهم.
خلاصة القول هو أنّ الأفراد في المجتمعات المتخلّفة وفي الدّول الفقيرة ومع الحكومات المستبدّة، أفراد محكوم عليهم سلفا بأن يكون مقطوعا عنهم أجلهم، كما يقطع المجرم عن قتيله أجله، فلا يستمتعون بما وهبهم اللّه لهم من إمكانيّة قصوى للحياة.
في هذا الإطار الشّامل تصبح مسألة العدوى بالفيروسات الخطيرة وكيفية التّعامل معها مسألة جزئيّة واضحة، ولا مجال للكلام فيها بمنطق «ما تموت كان بأجلك» إلاّ من باب عدم الاستيعاب الكامل لكلّ حيثيّات الموت والنّجاة منه، وإلاّ من باب إصدار حكم طبّي احتمالي قويّ، بحسب درجة تغلغل الفيروس في جسم المصاب، وعمره، وقوّة مناعة جسمه وكيفيّة وسرعة مواجهته...الخ. وليس من باب التّسليم الأعمى والجاهل لمفاعيل غيبويّة عمياء.
أضيف من باب دعم ما سلف فكرة ومثالا.
الفكرة تتمثّل في واقعة التقاء سلاسل سببيّة، بعضها أقوى تأثيرا من بعض في حسم مصير الإنسان. البرنامج الوراثي للإنسان يندرج ضمن سلسلة سببيّة، مثل زواج أمه من أبيه، والخاصّيات الجينيّة لكلّ واحد منهما....وما يحدث له في حياته يندرج ضمن سلاسل سببيّة أخرى تتقاطع مع السّلسلة السّببيّة الجينيّة، فتؤثّر فيها إن قليلا أو كثيرا في مستوى الحصيلة الصّحيّة البدنيّة والنّفسيّة للفرد.
المثال هو أن تقتني جهازا من أعلى طراز وجودة به ضمان صلوحيّة لكذا سنوات. هذا الجهاز لو تمّ استخدامه بطريقة سليمة، فإنّه سيعيش بالفعل السّنوات المحدّدة له على أقلّ تقدير، ولكن لو تعرّض لصدمة قويّة أو لصعق كهربائي أكثر من قدرته على التّحمّل، فسيتحطّم في الحالة الأولى، وسيحترق في الحالة الثّانية (ديكارت يعتبر جسم الإنسان آلة. آلة فائقة التّعقيد). فما هو ذنب المهندس الذي صمّم الجهاز إذا ما جاء شخص آخر وحطّمه؟ لا ذنب له. وكلّ يتحمّل مسؤوليته في حدود تقديره وتصميمه وفعله.