أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تفكيك لغز الأبعاد من الهندسة صحيحة البعد إلى الهندسة كسرية البعد(4/5)
 الاختلاف والتّشابه
يعمل العقل على ضمّ المتشابهات في صفّ واحد، وإن بدت في الظّاهر مختلفة، فأحيانا ننظر إلى الأشكال الهندسيّة مثل المثلّثات والمربّعات والأشكال الخماسيّة أو المضلّعات عموما وغيرها، فنراها مختلفة في الظّاهر لكن مع إمعان النّظر قليلا ندرك علاقات التّشابه مع بعضها، فنضع المثلّثات المتشابهة مع بعضها في صفّ ونميّزها عن غير المتشابهة، والمتخصّص في الرّياضيات يمعن أكثر وأكثر في هذا الاتجاه فالمتخصّص في التّوبولوجي مثلا يضع الكرة المصمتة [1] والمكعّب المصمت والاسطوانة المصمتة، بل وكل جسم مصمت، وفي نفس الأبعاد في صفّ واحد، لأنّه يمكن تشكيل أيّ منها من الآخر بعلاقات الشدّ والطيّ بشرط عدم تمزيقه أو إحداث فجوات بداخله أو فجوات تخترقه. فالقدرة على التّحليل والتّركيب وإدراك العلاقات بين الأشياء تكاد تكون صفة بشريّة محضة ولا يختص بها العالم الطّبيعي أو الرّياضي فقط، فأحيانا تجد الفنانين وخصوصا الرّسامين يسبقون العلم بخطوات، ففي لوحات وتصميمات «بروس جوف» و«فرانك لويد رايت» ومن قبلهم فنانو العمارة الإسلاميّة الذين لم يهتمّوا برسم لوحات لهم بل كانوا يثبتون تصميماتهم على جدران المساجد والقصور، وقد ظهر كلّ ذلك للوجود بعد أن برع العلماء المسلمون الأوائل في العلوم الرّياضيّة والهندسيّة، فأعمال أبي عبد اللّه محمد بن موسى الخوارزمي وغياث الدّين أبو الفتح عمر الخيام في الجبر لا ينكرها إلاّ مكابر، وهو ما انعكس بدوره على المنهج المتّبع في مختلف الفنون الإسلاميّة آنذاك، خاصّة في تشكيل الزّخارف الهندسيّة مثل أشكال «الأطباق النّجميّة» وأشكال التّوريق العربي المعروف بالأرابيسك. 
يؤيّد ذلك أيضا انصراف الفنانين المسلمين إلى اتقان أنواع هذه الزّخرفة، بعيدًا عن تجسيم الطّبيعة الحيّة أو تصويرها، وذلك بوضعها في إطار محكم يجمع بين الرّؤية الفنّية والعلوم الرّياضيّة والهندسيّة، باستخدام خاصّية «التّكوين عبر التّكرار»ضمن إطار فنّي يجمع بين النّاحية التّعبيريّة الرّمزيّة والتّشكيلية الجماليّة والوظيفيّة الإنشائيّة للعناصر المعماريّة والزّخرفيّة المستخدمة في عمليّة التّشكيل العام، حيث جاء التّكرار على سبيل المثال في تكوين مجموعة «المقرنصات» كقيمة جماليّة وإنشائيّة للتّعبير عن مساريج السّماء التي تحمل في نهايتها قبّة السّماء[2]. 
كان الجميع يستوحون أعمالهم من الطّبيعة التي تتجسّد فيها فكرة التّشابه الذّاتي الممتدّ بلا حدود والمصغّرة في آن واحد ليعطي بذلك انطباعا أنّ التّشابه من حيث التّصغير أو التّكبير ممتدّ إلى اللاّنهاية من طرفيها، وليأتي بعد ذلك بقرون عديدة الباحث «جيمس جلايك» 1987 ويقرّر أنّ الكسوريّات وسيلة لرؤية اللاّنهاية [3]. إدراك اللاّنهاية هو الآخر صفة يتميّز بها الإنسان وحده دون الكائنات الأخرى وهو وجه آخر لإدراك المصير ومن ثمّ أنسنة العمارة.
إنسانية العمارة:  يا وطنا يسكننا قبل أن نسكنه
حين تكون العمارة إنسانيّة، فإنّ الأوطان تسكننا قبل أن نسكنها، وحتّى وإن لم نسكنها، لأنّ الأجداد كانوا يعملون أعمالا يزيدها الزّمن جمالا وقيمة، وكانوا يراعون في أعمالهم الاحتياجات الرّوحيّة والمادّية للإنسان، ويعملون ويعلمون أنّه بهذه الأعمال ينمو بعد هامّ جدّا داخل أولادهم. أمّا اليوم، فغالب عمل النّاس لا يكاد يوفي بالجانب المادّي، فقد استعبدت أنظمة العمل الحديثة الإنسان، وصيّرته كترس في ماكينة، عندما يصدأ ويكون غير قادر على العمل يتمّ فكّه واستبداله بغيره وإلقاؤه في سلّة المهملات ليُنسي تماما مع الزّمن. 
صرنا نبني بيوتنا كمكعّبات فارغة، ترسيمات هندسيّة إقليديّة نمطيّة فارغة من الحياة، لأنّ الأحياء التي بداخلها ليس لهم همّ غير الاحتياجات البيولوجيّة للحياة، وكنت أتمني أن نعلم أبناءنا في المدارس أنّ الإنسان لا ينتمي للمملكة الحيوانيّة، بل له مملكة لوحده أسمّيها أنا المملكة الإنسانيّة تختلف عن كلّ الحيوانات الأخرى في أهمّ ما يميّز الإنسان وهي الاحتياجات الرّوحيّة. ولا يهمّ هنا فخامة التّصميم أو تعقيده، فقد يكون بسيطا جدّا لكنّه موح إلى حدّ بعيد[4].
حي جاردن سيتي - القاهرة   Garden City District - Cairo 
تمّ تصميم هذا الحيّ في وسط القاهرة في 1906، لكنّ نواة الاهتمام بهذه المنطقة بدأت مبكّرا في العصر المملوكي حيث حوّل النّاصر «محمد بن قلاوون» هذا المكان من برك ومستنقعات إلى حدائق وميدان لسباق الخيل، ثمّ تحوّل مرّة أخرى إلى مقلب للقمامة في بداية أسرة «محمد علي»، لكنّ «الخديوي عباس» كلّف المهندس الإيطالي المشهور وقتها «أنطونيو لاشار» ليضع تصوّرا لبناء حيّ تسكنه الطّبقة فوق المتوسّطة والطّبقة الارستقراطيّة، فصمّم «لاشار» بالاشتراك مع مهندسين فرنسيّين وانجليز الحيّ على هيئة حديقة ووفق العمارة الأوروبيّة في عصر النّهضة، وأنشأ به مجموعة من القصور مثل قصر النّيل والقصر العالي (مجمع التّحرير حاليا) وقصر الدّوبارة الذي كان يسكنه المعتمدون البريطانيّون مثل «كرومر». ويكاد الحي بكامله يتبع نمطا كسوريّا بامتياز، فكلّ شارع به يتفرع إلى شارعين، وهكذا تتفرّع الشّوارع الفرعيّة بدورها إلى نهاية الحيّ، وأظن أنّه استمد اسمه كحديقة مكوّنة من أشجار تتفرّع وتتفرّع إلى نهاية الغابة. 
في مثل تلك الأحياء - وبصرف النّظر عن من كان يسكنها- يشعر الإنسان بقيمة الجوار الإنساني، والمشاركة الوجدانيّة والاطمئنان، بينما تشعر في عمارة «الكوزموبوليتان» المبثوثة في كلّ المدن الجديدة الحديثة بالاغتراب والوحدة والخوف. كانوا يبنون مجتمعات من خلال تراث يعيشونه وليس من خلال نظريّات تفرض عليهم، والتي تختزل الإنسان وعلاقته بالفراغ في قوالب جامدة وعلاقات رياضيّة ليست مرنة، مع وجود علاقات في الرّياضيّات تسمح بالمرونة مثل الكسوريّات والتي تعمل على عدم تحييز العمران، حيث لا يهمل فيها أيّ بعد حتى ولو كان صغيرا. 
تأمّل مثلا المدن الحديثة المترامية الأطراف، حيث تحتاج لأكثر من يوم للتّنقل بين أطرافها حيث الشّوارع مخيفة باتساعها، كأنّها رسالة مشفرة بين ساكنيها، أنا لا أراك وأنت لا تراني، أنت لا تمثّل شيئا بالنّسبة لي وأنا كذلك بالنّسبة لك، أنا وأنت ذرّتين تائهتين في خضم المجهول وليس بيننا ثمّة روابط. وكذلك المدن المليونيّة والقزمية من حيث الحجم في آن واحد، حيث الشّوارع النّوويّة الضّيقة جدّا والمخيفة جدّا حيث يتجسّد التّعدّي السّافر على الخصوصيّة وكأنّنا حيوانات تعيش في حظيرة، إماتة لكلّ ما هو إنساني في  الطّرفين، والتّوسّط مفقود في العالمين. هذه أبعاد خفيّة ينبغي أن تؤخذ في العمارة وبناء المدن، فالأبعاد الكسوريّة تبدي وتخفي الأشياء في أوقات متباينة كأنّما تعبّر عن حقيقة الإنسان.
المتحف المصري الكبير 
يجري تصميم المتحف المصري الكبير بمنطقة أهرامات الجيزة بمصر، منذ أكثر من 15 عاما وكان متوقّع أن يفتتح في 2020 م. ويتمّ التّصميم وفقا للتّصميمات الأثريّة المنتشرة بالمنطقة، حيث تنتشر بها الأهرامات وأهمّها الأهرامات الثّلاثة، وبالتّالي استلهم المصمّم الشّكل الهرميّ للمتحف أيضا، وتمّ تصميم واجهات المتحف مستلهمين في ذلك كسوريّات «سيربنسكي». حيث تمّ تكرار نمط مثلث «سيربنسكي» على مساحة 750 مترا طولا في ارتفاع 46 مترا. تمّ تصميم المتحف ليكون أكبر متحف للآثار في العالم؛ إذ تبلغ مساحته 500000 متر مربع، وسيحوي أكثر من 150 ألف قطعة أثريّة من العصور الفرعونيّة واليونانيّة والرّومانيّة، ويتوقّع أن يزوره سنوياً أكثر من 5 ملايين زائر، وسوف يضمّ المتحف عدداً من المباني الخدميّة التّجاريّة والتّرفيهيّة، ومركزاً لعلوم المواد القديمة والتّرميم، وحديقة متحفيّة ستزرع بها الأشجار التي عرفتها مصر القديمة.
متحف فيكتوريا وألبرت
عند تصميم متحف «فيكتوريا وألبرت» بلندن استخدم المعماري «دانيال ليبسكيند» ما أسماه البلاطة الكسوريّة، حيث تغطّي هذه البلاطات طول الحائط اللّولبي للمتحف، لتضيف إليه بعدا يوحي للمشاهد أنّ المتحف في حالة حركة دائمة وأنّه لم يكتمل بعد بل في تطوّر مستمر[5]، وذلك خلاف لمعظم الأثريين الذين ينظرون للسّجلات الأثريّة على أنّها صور ساكنة «وربّما ميتة» من ديناميكا الحضارات القديمة، ممّا دفع بعض الأثريّين والرّياضيّين إلى التفكير باستخدام نماذج كسوريّة لتحليل السّجلات الأثريّة للوقوف على معرفة ديناميكا المجتمعات التي أنتجت تلك الحضارة، لتعرض فيما بعد وكأنّما دبّت الحياة فيها من جديد.
المراجع 
[1]  جسم مصمت (مصمتة): كلّ جسم بدون فجوات بداخله أو فجوات تخترقه. 
[2] مي محمد حسين محمد، (2020) «دور هندسة الفراكتال في استدامة المباني» رسالة ماجستير، قسم العمارة، كلية هندسة المطرية، جامعة حلوان، مصر.
[3]  Gleick, James (1987): Chaos. New York: Penguin Books.
[4] أنظـر مساكن المايــا القديمـة، تجد الوحدات الكسوريّـة ممتدّة داخــل المواقع المحلّيــة وحتّى كامل الإقليم                    Brown, C.T., and Witschey, W.R.T. (2003). The fractal geometry 
of ancient Maya settlement. Journal of Archaeological Science 30: 1619–1632
[5] Binford, L. R. (1981). Behavioral archaeology and the “Pompeii premise.” Journal of Anthropological Research 37(3): 195–208.