تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (6)
 كبرت «رجولة» ابنة «بسمة»، واليوم عمرها ستّة أعوام، وتستعد للالتحاق بقاعات الدّراسة في سنتها الأولى. لقد فقدت العودة المدرسيّة رونقها ونكهتها لتلاميذ الأقسام الأولى باعتبارهم قضوا ثلاث أو أربع سنوات مرّوا من خلالها بالمحضنة، ثم برياض الأطفال، فالسّنة التّحضيريّة التي لا تختلف أقسامها عن أقسام السّنوات الابتدائيّة.
بالنسبة للبنت «نوفل» فالأمر يختلف. فهي لم تُتْرك إلى محضنة، ولم تذهب مثل أندادها إلى رياض الأطفال، بل بقيت عند أمّها طالما لم تتمكّن من قضاء حاجتها دون مساعدة. فأمّها «بسمة» حرصت كلّ الحرص على أن لا أحد من النّساء، لا من قريب ولا من بعيد، ولا من الرّجال أن يتكشّف على صغيرتها. وهكذا بقيت البنت بنتا في أعين الجميع.
«نوفل»، هكذا سمّتها أمّها بعد أن استمعت إلى الأخصائيّة النفسانيّة. هل اقتنعت الأم أم رضخت للأمر الجلل؟ وهل استطاعت إلاّ أن تقبل الواقع وهي التي عرفت لدى أصدقائها وصديقاتها بمناهضتها الشّرسة للمجتمعات الذّكوريّة وما تحمله من أفكار متكلّسة. بل كانت ومازالت تعتقد مطلقا أن ابنتها محظوظة، وهذا ما ختمت به كلامها مع الطّاقم الطّبي وإقامتها بالمشفى.
ولقد زادت إلى ذلك أنّها اختارت لوليدها اسم «رجولة» لاعتقادها أنّ هذه الكلمة ليس لها مرادف مؤنّث، وأولى أن تسحب الرّجولة على النّساء إذا ما نسبت إلى كلّ ذكر من الرّجال وأشباه الرّجال.
«بسمة» لا تريد أن تتشبّه بالرّجل، ولكنّها تريد أن تكون امرأة تقوم بما يقوم به «رجلة» الرّجال. وهكذا تريد أبنتها التي في أعين النّاس أنثى «واللّه أعلم بما وضعت». 
البنت «نوفل» مازالت طفلا لم تظهر عليها بعدُ العلامات، وتتعايش مع أصدقائها وصديقاتها بكلّ عفويّة ممّا جعلها صديقة الجميع.
 «نوفل» لم يشتك منها أحد، وتبدو لديهم كلّهم منسجمة خفيفة الرّوح. تعرف أسرار البنات اللاّتي تعتقدنها خاصّة بهنّ دون الأولاد، وتعرف أسرار الأولاد وما يتهامسون به خيفة وحشمة أمام البنات. وفي كلّ الحالات هي محلّ ثقة، فلا تنقل حديث هؤلاء الى الأخريات ولا العكس كذلك. وهي تساعد أصدقاءها وصديقاتها ولا تخفي عنهم تمارينها حتّى يوم الامتحان، متحدّية حرص المعلم. وقد عرفها أصدقاؤها بمواقفها حتّى أصبحوا في سياق حديثهم عنها، لا يتردّدون كلّما ذكروا اسمها أن يلحقوه «برُجْلة» من غير أن يعلموا أنّ هذه تسميتها منذ الولادة.
كبرت «نوفل» ومن سنة الى أخرى تكبر علاقاتها بصديقاتها وأصدقائها. بدأت تكتشف من هنا ومن هناك الأسرار الحقيقيّة للبنات اللاّتي تنتظرنها أمهاتهن بكلّ يقظة، لأنّ البنت تزيد في كلّ ليلة قمحة. وبين هؤلاء وهؤلاء تتكدّس على «نوفل» أسئلة عدّة تأتيها ممّا تستنتجه من  الحوارات الحميميّة بين صديقاتها البنات وما تسترقه من أحاديث من مغامرات أصدقائها الأولاد. ولا تجد نفسها معنيّة لا بما تعبّر عنه البنات من رغبة وأحاسيس، ولا بما يتبادله الأولاد من أسرارهم المفضوحة، وتعتقد دائما أنّ نموّ المشاعر يتأخّر أحيانا ولا يساير النّمو الجسدي، أو هذا ما تحاول «بسمة» أن تقنعها به حتّى تكبر وتصبح قادرة على فهم نفسها بنفسها.
وكم حذّرتها من مغبّة خلع ثيابها أمام إحدى صديقاتها، فما بالك بالأصدقاء، وكم حرصت «بسمة» على ألاّ تخالط «نوفل» الأطفال حتّى لا يتسنّى لها رؤيتهم عريا، فحرمتها من الحمّام ومن السّباحة في البحر وحتّى في أحواض السّباحة العموميّة و الخاصّة. 
ولكنّ الأمر بالنّسبة لنوفل أصبح واضحا وجليّا في عامها الثّاني بالمدرسة لمّا انزاد لبسمة مولودة جديدة انتظرتها بفارغ الصّبر بعد التّجربة المريرة التي تحوّلت معاناتها تدريجيّا الى بكرتها «رجولة» البنت الأكبر. ذلك اليوم سجلته في ذاكرتها قبل يوم ميلادها الذي لا تتذكّر منه شيئا، ولكنّ هذا اليوم لم يُنس منه شيء.
اكتشفت فيه نفسها مقارنة بأنفس الآخرين التي يحفظونها ويسترونها ولا يتركون مجالا لكشفها. لقد فهمت منذ ذلك اليوم أنّها مطالبة بأكثر حذرا وحرصا على حفظ سرّها الذي انتقل إليها من أمّها «بسمة» وما أثقله من عبء وياله من إرث بيولوجي. لقد فهمت أن ما تخفي في سروالها مختلف عن ما يخفي الآخرون والأخريات.لقد فهمت معنى « استر روحك» التي كانت تكرّرها عليها أمها مثل كلّ الأمّهات، ولكن بأكثر شدّة وغلظة كلّما اقترب العري من المقصود بروحها.
هل تفهم يوما لماذا تناديها أمها «رجولة»؟
وجدت نوفل نفسها تحاورها وتجادلها فيما بينهما لا ثاني لهما. سألتها في سنّ العاشرة عن البيكيني ولماذا لا يستر من الجسد كلّه إلاّ روحها ذلك الجزء الصّغير منه، ولماذا تستتر النّساء؟  ولماذا يجب على المرأة أن تخفي جمالها أو قبحها؟ وما هو الجميل والقبيح؟ 
شغلتها نفسها بأسئلة لا تطرح على معلّم ولا على أستاذ. إنّها مسائل شخصيّة يجب التّعامل معها بفلسفة وحكمة. فاهتدت إلى البحث عن الأجوبة للأسئلة العالقة في الكتب والمجلاّت المختصّة، كما أصبحت تلتهم القصص والرّوايات ذات الأبعاد الاجتماعيّة بحثا عن إحداثيات لموقعها في هذا الزّمن.
هكذا أصبحت «نوفل» سابقة عمرها، تعالج لوحدها مسائل شائكة ومعقّدة ليست من اهتمام أندادها ولا الأكبر منها سنّا. هل أنساها ذلك اختلافها أو غيّر من نظرة الآخرين اليها؟ لا ولن تنسى ذلك اليوم عندما بهتت وشهقت «إنّها مختلفة عنّا ! ليس لها زيزي مثلي»