في الصميم

بقلم
محمد بن نصر
حرّيتا التفكير والتعبير
  كم هي عديدة المناسبات والمنابر الفكرية وغير الفكرية التي استمعت فيها لكلمات التمجيد والاحترام بل والالتزام بالدّفاع عن حرّية التّفكير وحرّية التّعبير عنه، وفي كلّ مرّة يشفع الكلام الجميل بـ «ولكن»، تأتي مدوّية لتنسف كل ّما تقدّم، تأتي لتقول إنّ حرية التّفكير لها حدود يقرّرها العقل والدّين والقانون، وتتّسع هذه الحدود عند التّطبيق لتصبح فرعا ممتدّا ومتّسعا أفقيّا وعموديّا وأكثر اتساعا من الأصل، ويقع الخلط عمدا بين آداب التّعبير عن الرّأي وبين ضوابط التّعبير عنه .
وتصبح الضّوابط قيودا صارمة، وتختنق الحرّية في مضايق الولاء حتّى يخيّل إليك أنّه في المحصلة النّهائيّة ليس هناك فرقا يذكر بين المدافعين عنها وبين المتحفّظين عليها. لازلت أذكر الشّعار الذي كان يرفع في أروقة الجامعة التّونسية «لا حرّية لأعداء الحرّية»، ولازلت أذكر أنّ بعضا ممّن كانوا يوصفون بأنّهم من أعداء الحرّيّة فكّروا في ممارسة الأسلوب نفسه مع من كانوا يصفونهم بأعداء الحرّية، وأذكر أنّني كنت أردّد مع من آمنوا بأنّ الحرّية حقّ لا يقبل القسمة أو التحيّز.
إنّ الفكرة الفاسدة يحييها القمع وتقتلها الحرّية، لأنّ فضاء الحرّية يجعلها تحت المجهر العقلي، أمّا القمع فيعطيها فرصة النّمو في الغموض واكتساب الكثير من التّعاطف والقليل من النّظر. ولو سمحنا لأنفسنا بتوسيع دائرة النّظر وتساءلنا، ألا يعتبر إبليس الذي يلعنه المؤمنون زعيم الرّأي الآخر والوسواس الأكبر لما يعتبره البعض أفكارا هدّامة، لقد بدأ بمعصية اللّه قبل أن يولّي نفسه مسؤوليّة الإفساد في الأرض والدّعوة إليه؟ ألم يكن اللّه عزّ وجلّ وعلا قادرا أن ينهي وجوده أصلا؟ ولكن سبحانه شاء أن يعطي لإبليس عهد الأمان إلى يوم القيامة بعد أن حاوره فأطلق له اليد واللّسان: «قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿14﴾قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴿15﴾ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شمائلهم وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾»(1).
 إنّه لأمر عجيب أن ترى البلاد الإسلاميّة تمنع التّبشير بالأديان الأخرى في حين تطالب بحرّية التّعبير في البلاد اللّيبراليّة ذات الغالبيّة المسيحيّة، بل طالب البعض وهو يظنّ أنّه بذلك يحلّ مشكلة الصّراع الطّائفي والمذهبي داخل الملّة الواحدة بامتناع أتباع كلّ مذهب عن الدّعوة إلى مذهبهم وإقناع النّاس به، فعوض أن نطوّر أساليب الحوار نجتثّ الحوار من أساسه، ونحوّل العالم الإسلامي إلى غيتوهات ثقافيّة، فينغلق كلّ مذهب على نفسه مختزلا الحقيقة فيما يعتقد، فيشتدّ الاحتقان الطّائفي حتّى إذا انفجر يأتي على الأخضر و اليابس. هذا المنطق الذي حكمته قاعدة سدّ الذّرائع بدعوى التّحصين السّالب للأمّة يقوم على فكرة المنع، ثمّ استحكمت فيها حالة الانطواء على النّفس والخوف من التّعدّد والتّنوع بالدّعوة إلى قتل المرتدّ. منطق، فضلا على فساده لم يعد يُجدي نفعا في زمن انفتح فيه كلّ شيء على كل شيء. إنّ الذين يخافون على الأمّة أن تتأثّر بالأفكار المنحرفة عليهم أن يسألوا أنفسهم عن أسباب هذه الهشاشة الفكريّة التي ألمّت بالأمّة؟ وعن هذه القابليّة لتقبّل ما تفه من أفكار الآخرين، أليسوا مسؤولين عن جزء منها على الأقل؟
 الإجابة عن هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى للتّحصين الإيجابي. والقفز عنها واللّجوء إلى التّكفير الذي يعكس في عمقه العجز عن التّفكير، وقد غاب عن أولئك الذين يلجؤون إلى إشهار التّكفير سلاحا في وجه مخالفيهم أنّهم يقدّمون لهم خدمة مجانيّة، فعوض أن يتمّ التّعامل مع فكرهم بموضوعيّة، يُتعامل معهم على أساس أنّهم ضحايا الاستبداد الدّيني.
ويلجأ آخرون إلى صناعة الاجتهاد في الدّين، وهم يؤمنون في قناعة أنفسهم بتاريخيّة وبشريّة النّصوص المؤسّسة له، وقد ألجأهم الخوف إلى التستّر وعدم الإفصاح عن قناعاتهم خوفا من بطش الذين جعلوا من أنفسهم ناطقين رسميّين باسم الدّين.
مجتمعاتنا في حاجة إلى ملحد مؤمن حقّ الإيمان بإلحاده، يملك من الشّجاعة والاحترام لنفسه ما يملك إبليس، ومؤمن واثق من صحّة ما يعتقد وقادر على الدّفاع عنه بقوّة الحجّة لا بقوّة العضلات. أسوأ ما تصاب به أمّة من الأمم علمانيّ يختزل مهمّته في الوجود على استئصال المؤمنين، ومؤمن لا همّ له إلاّ النّظر في عقائد الآخرين وإلصاق تهمة الكفر بهم. الأوّل يتخلّى عن ليبراليته ليتحالف مع أنظمة فاقدة لكلّ أنواع الشّرعيّة، والثّاني يتخلّى عن سماحة دينه ليستأسد وهو الضّعيف بالفتاوى الإستئصاليّة. ورحم اللّه الشيخ ابن تيميّة، فقد كان ذا نباهة ثاقبة حين قال: «أكثر ما يفسد الدّنيا نصف متكلّم ونصف متفقّه ونصف متطبّب ونصف نحويّ، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللّسان»(2) ويمكن أن نضيف إلى ما قال: نصف ليبرالي يفسد الليبراليّة ونصف متحرّر يفسد الحرّية، ونصف موحّد يفسد التّوحيد، كلاهما تحكمه مجموعة من القطعيّات والثّنائيّات المتقابلة، وهذا ما أفقد الواقع الإسلامي الحراك الإيجابي ونما فيه الحراك التّآكلي الذي يحكمه منطق أنا أو الدّمار.
مأساتنا تتلخّص في أنّه من حقّنا أن نفكّر بحرّية تامّة ولكن قبل أن نتكلّم أو نكتب. فإذا قرّرنا أن نكتب أو أن نتكلّم علينا أن نستحضر الضّرورات الثّلاث: لا نثير حفيظة أصحاب الشّوكة، ولا نخالف أصحاب الرّأسمال المادّي والرّمزي، ولا نضع رزق عيالنا على ظهر كفّ عفريت. ويلوذ بعضنا بالصّمت ونسي أنّ الصّمت لم يعد مقبولا عند الذين لا يفهمون لغة الإشارة، فقد قال لهم خدمتهم من أصحاب القلم إنّ الصمت لغة. ولأنّ الصّمت موقف يصبح أخطر من الكلام، فتأويل الكلام يبقى في النّهاية خاضع لجملة من الاعتبارات، ولكن تأويل الصّمت ليس له مقاييس معينة.
هل يمكن بعد ذلك أن يكون المفكّر مبدعا مع هذه الكوكبة من الكوابح الذّاتية والموضوعيّة؟ ومع ذلك لا يمكن أن نحلم بغد أفضل طالما أنّ المستبدّ حين يطلّ من باب قصره يرى طوابير من المثقّفين المستعدّين لتقديم خدماتهم.
الهوامش
(1) سورة الأعراف - من الآية 14 إلى الآية 17
(2) ابن تيمية في كتابه الحموية الكبرى (مجموع الفتاوى 5/ 118)