تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (2)
 انطلق البحث والتّنقيب على صفحات الفيسبوك لمعرفة سبب غبطة صديقتنا «بسمة» صباح ذلك اليوم في محطّة القطار. ورغم شحّ المعلومات المتوفّرة عنها على الشّبكة العنكبوتيّة، لقلة تفاعلها مع ما يتمّ تداوله وتناقله من أخبار على المواقع الاجتماعيّة، ولأنّها من أولئك الذين يدخلون الأبواب المفتوحة دون استئذان، ولا يتركون أثرا لا بالتّعليق الإيجابي ولا السّلبي، بل يستكثرون النّقر حتّى على أيقونة «لايك» أو «ديسلايك»، إلاّ أنّ الجميع أصبح يعلم الخبر السّار الذي ملأ «بسمة» غبطة، كتمتها في أحشائها ذلك اليوم إلى أن يظهره اللّه بفضله، ولم تنبس بشيء منه إلّا بما فاض من عينيها.  
«بسمة» شابّة من مدينة القلعة الكبرى، تعمل موظّفة بتونس العاصمة. تزوّجت مباشرة بعد الثّورة من شاب عاطل، لم يجد ما يناسب شهادته العلميّة من أعمال يشغلها، ممّا دفع ببسمة بأن تتمسّك بالوظيفة التي لم تكن لتظفر بها لو لم تشارك في اعتصام المعطّلين أصحاب الشهائد العليا، ولو لم تتحمّل عناء السّفر اليومي عبر القطار بين مقرّ سكناها وموقع عملها على مسافة المائة وأربعين كيلومتر.
مرّ على زواجها سبع سنوات عجاف، لم تتفتّق فيها بذرة ولم ينبت فيها برعم. ولم يمر عليها يوسف خلال تلك السّنوات لينبِّئها بسنة اليسر والحمل، بل تراكم عليها ضغط السّؤال الذي بقي دون جواب، وأصبحت حياتها مثقلة بالهموم والنّكد اليومي.
قد ترى على السّطح آثار القحط والجفاف، وعلى الوجوه الفقر والحرمان، أمّا الشّقاء والتّعاسة آثارها عميقة، تكبر عقدها تحت السّطح، فيزيد ضغطها اليومي إلى الانفجار.
انفجر الفرح من عيني «بسمة» قبل أن يستفحل ذلك السّرطان الذي تحوّلت عقده إلى درنات خصيبة، فأنبتت أخيرا وأينعت ورقاتها من عينيها، لتفضحها بعد سنوات القحط والجفاف. 
توقّفت السّيارة أمام باب قسم الولادة، وفتحت أبوابها دفعة واحدة، ونزل منها رجلان، انطلقا مسرعين نحو الدّاخل، ليخرج من سبق بعد لحظات يدفع أمامه كرسيّا متحرّكا، ويجرّ وراءه رفيقه الذي تخلّف. اقتربا من باب السّيارة من حيث نزلت امرأة أولى، استدارت لتنحني داخل السّيارة، وتساعد امرأة ثانية في ثياب منزليّة يبدو أنّها مريضة. إنّها «بسمة». لمّا وقفت على ساقيها، تبيّن حملها، بل تبيّن مخاضها من تقطّب وجهها، وقد عضّت على شفتها السّفلى لتكتم أنينها الذي غلبها، وقد أسدلت يديها تحتضنان بطنها وكأنّها تخشى أن يسقط منها. أسرعت حينها امرأة ثالثة، نزلت من الباب الخلفي من الجانب الأيسر، وأسرعت تأخذ مكانها تحاذي بسمة المثقلة مثلما فعلت المرأة الأولى. 
وبعد أن قادتاها رويدا رويدا، ليقعداها بالكرسي المتحرّك، أسرعت المرأتان لالتقاط حقيبة من خلف السّيارة، في مشهد مسلّ قلّ ما تراه إلاّ في سرك. إحداهما ظريفة القدّ، وخفيفة الحركة، كانت أسرع إلى الباب الخلفي للسّيارة، وإن نجحت في فتحه، فهي تدرك جيّدا أنّ الحقيبة أكبر وأثقل من أن تقدر على إخراجها، ولكنّها أخذت تزحزحها حتّى أقبلت الأخرى تتهادى بجسمها الضّخم المترجرج، الذي لم يمنعها من المشاركة في سباق غير متكافئ، انتهى في الأخير برسم البسمة على الأفواه البائسة. كلاهما كانت حاضرة للدّور الذي جاءت من أجله والذي لا يتحقّق دونهما. لا يغيب على أحد الحاضرين المستمتعين بالمشهد الطّريف الظّريف الاعتقاد بل القطع إنّ المرأتين لا تكونان إلّا أمّا وحماة. 
عطّلت السّيارة الحركة المروريّة أمام قسم الولادة، ممّا جعل سيارة الإسعاف القادمة في الحال تدوّي صفّارتها، مفزعة كلّ الحاضرين، إلاّ مرافقي «بسمة»، ولم يحرك زوجها سيّارته إلاّ بعد أن أعطى الإشارة إلى مرافقيه لينطلقوا ثلاثتهم بالمريضة، يدفعونها داخل القسم، مسرعين مباشرة إلى مكتب الاستقبال، ليأخذوا مكانهم في آخر الطّابور الذي امتد على عشرة أمتار. 
لم يطل الانتظار في الطّابور، لأنّ مرافقي المريض الواحد عادة ما يكونوا كثر في ساعة متأخّرة أو في ساعة الظّهيرة هذه. ولمّا بلغ ثلاثتهم شبّاك التّسجيل، تبيّن لديهم أنّ دفتر العلاج بقي في حوزة زوج «بسمة» الذي لم يلحق بعد، إذ يعتقد أنّه لم يجد مكانا قريبا لركن السّيارة. وفي انتظار وصوله، كانت «بسمة» التي جاءها الطّلق منذ ساعة، منزوية بعيدا عن الطّابور، قد خفّ عنها الوجع أو أنّها تناسته بانشغالها بأشياء جعلتها تبدو غائبة عمّن حولها، وليست في المكان الذي هي فيه ولا الزّمان الذي تعيشه. أقبل زوجها أخيرا، فاعترضه ثلاثتهم يحثّونه على الاستعجال لتسجيل المريضة.
 أُدخلت الشّابة إلى قاعة الفحص مضطربة، مهزوزة بمشاعر متزامنة ومتضاربة. أهو القلق من عرضها على منصّة الولادة مكشوفة الحال أمام الطّاقم الصّحي من رجال ونساء حولها؟ أو الحشمة من زوجها الذي لم تقدر أن تنظر في عينيه في تلك اللّحظة باعتبار ما قد يدور في خاطره من أفكار؟.
لا ليست «بسمة» التي تقلقها هذه التّفاهة. إنّها تعتقد أنّه يحقّ لها أن ترفع رأسها وتنظر في عيني كلّ النّاس. هي امرأة تقوم بما تقوم به النّساء، هي في حالة الوضع ولا يكون الوضع إلّا على طاولة بين يدي الأخصائي. ولكن ما يشغلها أكثر من ذلك، هو الخوف من المجهول. هذه أوّل مرّة تمرّ «بسمة» خلف هذا الباب بأوجاع الطّلق التي عايشتها من قبل عديد المرّات، ولكن كشاهدة عيان فقط، وكانت في كلّ مرّة يعتريها خوف شديد وشفقة كبيرة، وبعد الدّعاء بالتّسهيل، وبعد الخلاص، تصبح الغيرة غالبة تمزّق أوصالها. ويعود إليها السّؤال: «سأحمل بين يديّ طفلا أو بنتا؟».
كلّ هذا كان يدور في ذهنها دون اهتمام بفحوصات الطّبيبة التي فاجأتها من غيبوبتها بضربات خفيفة على ركبتيها، «لا تخافي ، كلّ شيء على أحسن ما يرام. لم يحن أوان الوضع بعدُ. سيتمّ إيواؤك وإخضاعك للمراقبة المستمرّة إلى يوم الغد». وقيدت من جديد خارج القاعة، تنتظر أن يستكمل مرافقوها الإجراءات لنقلها إلى غرفة المرضى، حيث ستقيم اللّيلة.
«يتبع»