من الذاكرة

بقلم
محمد بن نصر
من خواطر رحلة الاتجاه المعاكس
 انشغل الرّكاب بالاستماع إلى المضيّف يشرح بيانات السّلامة الجويّة، وانشغلت بالنّظر في جواز سفري أحادثه ويحادثني. غاب عنّي زمنا طويلا، ثلاثة عقود أو تزيد، وعاد بعد يوم واحد من سقوط المخلوع. يومها قلت فيه ما يلي: «صبيحة هذا اليوم الخامس عشر من جانفي 2011، ذهبت إلى القنصليّة التونسيّة بباريس، لأطلب جواز سفري بعد أن حُرمت منه طيلة ثلاثين سنة وثلاثة أشهر. نظرت في تاريخ الإصدار، فوجدته الخامس عشر من هذا الشّهر، أو قل غرّة العهد الجديد الذي صنعه أبطال الانتفاضة التّونسيّة المباركة. شعرت وكأنّ كلّ شيء من حولي يرفع النّشيد الوطني، نشيد العزّة، حماة الحمى، وشعرت وكأنّ الجواز قد ختم بدم الشّهداء، وعذابات السّجناء، وجراحات المظلومين، وأشواق المنفيين. ثمّ مرّت أمامي صورة البطل محمد بوعزيزي الذي قلت فيه يوم توفّي « رحمه اللّه و غفر له، قتله الظالمون بظلمهم، وقتلناه حيّا بصمتنا، فأراد أن يحيينا بموته، فما خاب ظنّه فينا، وإن شاء اللّه نكون خير عزاء لأهله حين نشدّ على أيدينا، ونعمل جميعا من أجل حياة كريمة، نتعلّق بها لفعل الخير ولا يكون فيها لليأس موطئ قدم بيننا»
قرأت في الختم: اعلم أنّ هذا الجواز هو ملك للأحرار، هو جواز الحرّية، فحذار أن يكون ختما للقلب عن تبصّر الحقّ وعقدة في اللّسان عن النّطق به. خرجت من هناك يغمرني شعور بأنّ الأمانة صارت أكبر وأنّ الحمل صار أثقل، نسأل اللّه الثّبات على الحقّ ما حيينا» 
هكذا أصبحت العودة للوطن والاستقرار الدّائم فيه أمرا ممكنا بعد أن كانت حلما بعيدا. بعد أسبوع من نجاح الثّورة المباركة وجدتني في تونس وقلت في نفسي، الآن وقد انقضى من العمر ما انقضى في الغربة، فإنّ من حقّ بلدنا علينا أن نخدمه ما بقى من العمر بقيّة. وجاءت انتخابات 23 أكتوبر وهاتفني البروفسير أبويعرب يحثّني على العودة النّهائيّة، طالبا منّي أن أعاضده في مهامه التي عُهدت له في رئاسة الحكومة، وبعد تردّد عقدت العزم على اللّحاق به في العاشر من شهر أوت 2012. يوم دخولي لرئاسة الحكومة، استبشر البعض من رفقاء الدّرب الطّويل بقدومي وبعض آخر حيّاني متسائلا، ولا يكاد يفصح: «الوجه ليس غريبا عنّا ولكن من أيّ درب جاء، لم نره في الدّروب التي سرنا فيها، ولم نره أمام الأبواب التي وقفنا عندها»؟ عملتُ بضعة أشهر مع أبي يعرب، فكان نعم الأستاذ الوزير، ونعم الصّديق، ثمّ عزم على الاستقالة، فحاولت أن أثنيه عن ذلك وأقنعه بما لست به مقتنعا، فلم أفلح. طلب منّي رئيس الحكومة الجديد أن أخلفه في مهمّته، فاستجبت حتّى جاء أمر الرّباعي فخرجنا. تجربة نترك الحديث فيها لوقت لا حق ولكنّها كانت بحقّ معاناة، معاناة الصّراع الدّائم بين الالتزام بالمبادئ وإكراهات السّياسة الواقعيّة، معاناة القادر العاجز، معاناة نصف الغربة ونصف العودة، ومع ذلك تأتيك من حين لآخر صفعة من صفعات الأقوال الجارحة، فتسّرها في نفسك: «تنعّمتم في الغرب، وجئتم تقاسموننا لقمة عيشنا»،«تتهافتون على الكراسي تهافت الذّباب على العسل». بعد خروجنا من الحكومة التحقت بمركز الدّراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعندما تُسأل عن عملك الآن، فتجيب مركز البحوث، فُيقال لك مباشرة «عفو عام»، حتّى يخيّل لك أنّ العفو العام أصبح مجالا من مجالات البحث في المركز، أصبح العفو العام «لعنة تلاحقك حيثما حللت». سامح اللّه الجميع، فلو علموا ضيق عيشنا في أوروبا، ما تفوّهوا بما قالوا، ولو علموا إسهاماتنا العلميّة لما اسكتثروا علينا العمل في مركز علمي، وبعض المعترضين لا يستطيع أن يكتب دراسة علميّة في مجلة محكّمة.
عزاؤنا الوحيد في هذه المعاناة دموع المعذّبين التي كففناها، والكسور التي جبرناها، واستشارات ترضي العقل والضّمير قدّمناها، ومعرفة معادن من النّاس في رئاسة الحكومة وفي المركز تأسفنا كثيرا على الزّمن الذي ضاع دون معرفتهم. 
في زمن الاستبداد، كانت رحلاتنا رحلات المخاطر والمخاطرة، ولكنّ الأمل كان أكبر من آلامنا، واليوم نرحل آمنين ولكنّ الفؤاد فارغ والنّفس كئيبة للحالة التي أصبح عليها ثوّار الأمس.
تركنا الوطن ولن نبرح همومه، تركناه يخوض في حديث القوائم الانتخابيّة، تركناه وقد أصبحت الثّورة نسيا منسيّا، وعدنا إلى حيث كنّا وما كنّا، عدنا إلى الغربة والاغتراب بعد أن ذقنا من الغربة في بلدنا ما ذقنا، رحم اللّه أبا حيان، مازال نصّه حول الغربة تحفة نادرة.