أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ (‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة 15 : الغني الحميد
 كلّما تقدمت خطوة في رحلة البحث عمّن هو الله سبحانه كما وصف نفسه في أسمائه الحسنى في كتابه العزيز، إزددت يقينا أنّ الإحاطة بها محال وهو سبحانه شديد المحال، إذ هو من يحيط بكلّ شيء ولا يحيط به شيء سبحانه لأنّه واسع غنيّ حميد. ومن ذا فقد أضطر إلى جمع بعض الأسماء في حلقة واحدة سيّما من الأسماء التي تلازمت عادة في الكتاب العزيز من مثل تلازم إسم الغنى بالحمد. كما أنّ من فقرات منهج بناء هذا الكرّاس : تقديم الأسماء المفردة على المركّبة من جهة وتقديم الأكثر ورودا على غيرها من جهة أخرى.
الله هو الغني الحميد
أصل الفعل : غني يغنى غنى فهو غنيّ. أي قويّ بشيء ما إذ توفّر فيه ذلك الشّيء بكثرة وخصوبة ووجد. هذا غنيّ بماله وذاك غنيّ بسلطانه والآخر غنيّ بعصبته وهكذا يكون الغنى بكلّ ما يجعل الإنسان قويّا مهابا لا يحتاج إلى النّاس إذ هو يقوم بنفسه. 
كما يكون الغنى غنى معنويّا كما قال الإمام الشّافعي «الغنى غنى النّفس» إذ تتردّد الكلمة دوما بين معنيي الحقيقة والمجاز. بدأ هذا الفعل تركيبا بحرف مفخم ( غ) وذلك لتلقي لغة الصّوت ( اللّسان العربي ) في الرّوع بداية أنّ المقصود شيء فخم كبير وكثير وعظيم. ومن أتى هذا اللّسان يفقهه من قرع صوته، فقد هدي إليه بلا عناء فهو لسان صوتيّ لا مرسوم. 
الغنى غير التّرف إذ يكون التّرف وجدا من المال أو القوّة أو السّلطان مصحوبا بالضّرورة بالكبر والأبهة والخيلاء والعدوان والجحود. الغنى يشترك مع الثّراء في شيء ويختلف معه في شيء آخر. الغنى يعطي صاحبه غنى عن النّاس لفرط قوّته من جهة ولفرط أنفته وعزته من جهة أخرى أما الثّراء فهو من جهة وجد مادي مالي فحسب ـ رغم أنّه يحتمل المجاز ـ كما أنّ صاحبه قد يحتاج إلى النّاس لفقره هنا أو لذلّته هناك. الغنى إذن ـ إسم الرّحمان سبحانه ـ هو الأليق بالرّحمان سبحانه فلم يسمّ نفسه ثريّا ولا مترفا . 
من شرط الغنى إذن إستغناء صاحبه عن النّــاس، فإذا كان الله غنيّا فهو الغنيّ عن كلّ شــيء لقولــه سبحانــه :«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(1) . قد يفقر الثريّ والمترف ولكن الغنيّ يظل غنيّا بوجده وبغناه عن غيره.
من مظاهر غنى الله سبحانه ومعانيه
ورد هذا الإسم ( الغنيّ ) معرّفا وغير معرّف ثماني عشرة مرّة في الكتاب العزيز وأكثر مواقع وروده مرتبطة بإسم الحميد. جاء تعقيبا على أنّ من يستنكف عن الإنفاق في سبيل الله سبحانه فإنّ الله عنه غنيّ وحميد أي أنّه لا يحتاج من الإنسان إنفاقا ولكن الإنسان يحتاج إنفاقا لنفسه ولغيره حتّى يؤمّن مكانا له دافئا في الآخرة. وظهر هذا عندما قال بعض المشركين «أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (2) وعندما قال بعض الإسرائيليين «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ » (3) وقال آخرون  « إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ» (4)  وهذا جزء من الإعتقاد أنّ الله غنيّ عن عباده وعن كلّ شيء، فمن ينفق فهو ينفق لنفسه ومن يبخل فلنفسه كذلك. 
كما ورد هذا الإسم تعقيبا على أنّ الله سبحانه غنيّ عن عباده الذين إختاروا الكفر حتّى لا يعتقدوا أنّهم بإيمانهم يمنّون عليه أو على نبيّه عليه السّلام. فهو غنيّ لا تنفعه طاعة مطيع ولا تضرّه معصية عاص. ولذلك أكّد لهم أنّهم هم الفقراء إليه وفي كلّ شيء وأنّه هو وحده الغنيّ عنهم جميعا. وفي هذا السّياق نسب إلى نفسه الغنى بصيغة الفعل وذلك في سورة التّغابن المكيّة إذ قال « وَّاسْتَغْنَى اللَّهٌ»(5) وهو كذلك يفعل في العادة إذ يتقلّد سبحانه الصّفة فعلا وإسما حتّى يحتكرها فلا يظنّن عبد أنّ له منها شيئا إلاّ تمثّلا كما سيأتي في عقب هذه الحلقة. 
كما يعقب بأنّه سبحانه الغنيّ لتعميق الأمل في صدور العاملين أنّه سبحانه لن يترهم أعمالهم، فهو الغنيّ الشّكور الذي يعوّضهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب واحد منهم. ويرد التّعقيب أحيانا مظهرا من مظاهر غناه سبحانه أنّه يملك السّماوات والأرض وما بينهما وما فيهما.
ما معنى «حميد» ؟
لم يدعنا الله ولو مرّة واحدة في الكتاب العزيز إلى حمده بصيغة الحمد لحما ودما، وأقصى ما ورد هنا ثناؤه على الحامدين (التّائبون العابدون الحامدون ) ولكنّه ملأ كتابه العزيز بأنّه أهل الحمد وأنّه حميد. والمعنى هو أنّه لا يحتاج منّا حمدا، فهو الحميد بذاته مستغنيا عنّا بنفسه سبحانه ولذلك رفع الحمد مبتدأ ومستغرقا مرّات له ولكنّه طلب منّا شكره. ومن دقائق المعنى هنا أنّ شكره ممكن ولكنّ حمده محال ولذلك قال عليه السّلام في حقه: «لا أحصي ثناء عليك». 
ورد إسم الحميد سبع عشرة مرّة في الكتاب العزيز أي تقريبا بعدد مرّات الإسم الذي إرتبط به في الأغلب أي : الغنيّ. الحميد على وزن فعيل كعادة الأسماء إذ ترد على أوزان المبالغة وأعلاها : فعيل. هذا الوزن (فعيل) عادة ما يكون مزدوجا أي يطلق على إسم الفاعل وإسم المفعول معا. الله سبحانه حميد بمعنى أنّه أهل الحمد فكلّ شيء يحمده «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (6) وأنّه هو نفسه يحمد لفاعل الخير وللعابد إيّاه عمله وبذلك يرضى العابد، وأنّه محمود سبحانه مبالغة إلى أقصى الحدود بلا حاجة لذلك ولا إفتقارا إليه. الحمد أبلغ من الشّكر ومن الثّناء ولذلك بدأ بحرف حلق ( ح ) هو إلى الفؤاد أدنى ليكون الحمد فعلا قلبيّا قبل أن يلهج بذلك اللّسان، ومن ذلك أنّه إشتقّ لنبيّه محمد عليه السّلام خير أسمائه فسماه أحمد ومحمّدا لأنّه عليه السلام أكثر النّاس حمدا وأصدقهم شكرانا.
تلازم الغنى بالحمد
من معاني ذلك التلازم أن الغني الذي لا يكون حميدا من لدن غيره هو مظنّة جحود فلا يصاب بغناه غيره ولا يفيد من وجده شيء وأنّ ذلك الغنيّ نفسه إذا لم يكن هو نفسه حميدا لغيره بما علم منه فهو مظنّة غنى كاذب. ومن المعاني كذلك أنّ الحميد الذي لا يكون غنيّا غنى لا يطال لا يكون حميدا بصدق وإخلاص بل يكون حميدا باللّسان فحسب خوفا من شرّه أو طمعا في ماله. العلاقة بين الغنى والحمد إذن علاقة حميميّة وطيدة فالغني حقيقة هو الحميد من لدن عباده ومن لدنه هو نفسه والحميد حقيقة هو الغني الذي يطمع فيه النّاس ويهابونه في الآن ذاته. الغنى بلا حمد مظنّة كبر وصلف وقهر والحمد بلا غنى دجل وكذب. الله سبحانه هو الغنيّ الحميد لأنّه يجمع بين الأمرين معا.
ما نصيب الإنسان من إسمي الغني والحميد
المعيار هو أنّ الأسماء التي يحتكرها الله سبحانه لنفسه لا يتسمّى بها الإنسان وهي قليلة منها : «المتكبّر» و«الرّحمان» و«ملك الملوك» وغير ذلك وربما لا تتعدّى عدد أصابع اليدين وما عداها متاح لأن يتسمى بها الإنسان بلا حرج رغم أنّ الأولى أن يتسمّى الإنسان بعبد الحميد بدل الحميد وبعبد الغنيّ بدل الغنيّ. والله يحبّ من عبده الذي تفضّل عليه بغناه أن يرى أثر ذلك عليه فيكون بين النّاس غنيّا سواء غنى نفسيّا وهذا هو الحدّ الأدنى أن يقع فريسة الذّلة والهوان أو غنى ماديّا وهذا مطلوب ولكنّه لا يتاح قدرا مقدورا من الله سبحانه لكلّ أحد حتّى لو سعى إلى ذلك. كما يحبّ سبحانه أن يكون عبده حميدا أي كثير الحمد وصادقه لربّه سبحانه وحميدا بينه وبين النّاس أي يحمد للنّاس شاكرا صنائع الخير منهم ويكون متواضعا على غناه فيحمد إليه النّاس فضله
مقصد هذين الإسمين
عندما يعقتد المرء أنّه يعبد إلها غنيّا فإنّه يطمئن إليه إذ هو يدعو غنيّا لا يعجزه شيء ويعبد ربّا « يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» (7)  فلا ييأس من فقر أصابه أو حاجة ألمّت به وأنّه يهرع إليه وليس إلى أغنياء النّاس يذلّونه وأنّ ما أعده الله الغنيّ للصابرين من كوثر في الآخرة يمدّهم بمزيد من الصّبر والقناعة وعدم إراقة ماء الحياة على قارعات القافرات. وعندما يعتقد المرء أنّه يعبد إلها حميدا فإنّه تسكن نفسه إذ يعلم أنّ الله يحمد له عبادته بمثل ما يحمد هو نفسه لربّه عطاءه وبذا تنشأ العلاقة التي يحبها الله بينه وبين عبده أي علاقة الرّضى  «رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» (8) . هما إسمان يسكبان في النفس الثقة والعزة والطمأنينة وحب الإفتقار إلى الله وحده سبحانه ونعم الغني الحميد
الهوامش
(1) سورة  فاطر - الآية 15
(2) سورة  يس - الآية 47: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» 
(3) سورة  المائدة - الآية 64: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»
(4) سورة  آل عمران - الآية 181: «لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءٍُ»
(5) سورة  التغابن - الآية 6: «ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»
(6) سورة  الإسراء - الآية 44: «يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»
(7) سورة  المائدة - الآية 64: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»
(8) سورة  التوبة - الآية 100: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»