من وحي الحدث

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
المشهد الليبي في 2020
 مراجعة العشريّة السّابقة في ليبيا
مع استهلال العشريّة الثّالثة في القرن الحادي والعشرين، تبدو الألغاز في المشهد السياسي  اللّيبي أكثر تعقيدا وتشابكا، فما ‏يظهر للعلن لا يقاس بما هو مخفيّ، لذلك فإنّ تحليل هذا المشهد يصبح غاية في الإرباك.  فمنذ ‏اندلاع الثّورة اللّيبية، دخل النّاتو بشكل مفضوح في اللّعبة السّياسيّة، حتّى أسماها البعض «ثورة الناتو»، وأصبح واضحا للجميع أنّ ‏سقوط القذافي كان من الثّمرات «الألغام» التي وضعها الناتو في طريق الثّورة، الهدف منها خلق مشهد متعدّد الأقطاب، حتّى ‏رأينا ثلاث حكومات متعاقبة مع دعم قوّات اللّواء المتقاعد خليفة حفتر البالغ من العمر ‏‎71‎‏ عاما والذي عرفته صحيفة الجارديان ‏على أنّه عميل سابق ‏CIA‏ ولديه الجنسيّة الأمريكيّة، ويتلقى الدّعم من دول غربيّة وإقليميّة كثيرة، وبالتّالي ستنعته أجهزة إعلاميّة ‏بالبطل القومي وأجهزة أخرى بمجرم الحرب. ثمّة طرف أخير وهو الميليشيّات المسلّحة التي تلعب مع كلّ الأطراف وتزيد الوضع ‏تعقيدا وارتباكا. 
كان أول لغم هو تشكيل حكومتين «مختلفتي التّوجه» في ليبيا في شهر واحد، الأولى انبثقت عن برلمان طبرق يرأسها عبد الله الثني ومركزها مدينة البيضاء شرق ليبيا، وهي حكومة ‏متحالفة مع قوات خليفة حفتر، والثّانية حكومة الإنقاذ في مدينة طرابلس بغرب ليبيا، يرأسها ‏خليفة الغويل، وهي حكومة انبثقت عن المؤتمر الوطني العام اللّيبي في أوت ‏‎2014‎، وقد حظيت بدعم أوروبّي، لكن مسيرتها تعثّرت بعد ‏الخسارة التي منيت بها في الانتخابات، وبعد فشلها في كسب اعتراف دولي رغم تمكّنها من السّيطرة على أجزاء واسعة من غرب ‏وجنوب ليبيا نهاية ‏‎2014‎‏ وبداية ‏‎2016‎‏ بدعم مجموعات إسلاميّة كمجلس شورى ثوّار بنغازي‎.‎‏ أمّا الحكومة الثالثة فهي حكومة ‏الوفاق الوطني، التي تشكّلت في فيفري ‏‎2016‎‏ بموجب اتفاق «الصّخيرات»‏‎[1]‎‏، الذي تحوّل إلى اتفاق دولي برعاية الأمم المتحدة، وقبلت به أمريكا «على الورق طبعا».
وبعد ظهور حكومة الوفاق الوطني التي حظيت بالاعتراف الدولي في السّاحة اللّيبية، أعلنت حكومة الإنقاذ عن انسحابها ومغادرتها ‏السّلطة في ‏‎5‎‏ أفريل ‏‎2016‎، وتسليم زمام الحكم إلى «فايز السّراج»، ولكن هذا التّسليم لم يدم طويلا، ففي ‏‎14‎‏ أكتوبر ‏‎2016‎‏ ‏سيطرت حكومة الإنقاذ على مقرّات المجلس الأعلى للدّولة في طرابلس العاصمة، وأعلن رئيسها «خليفة الغويل» من جديد أنّ حكومته ‏هي الحكومة الشّرعيّة المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام، ووجّه دعوة مباشرة إلى «عبد الله الثني» رئيس حكومة طبرق إلى تشكيل ‏حكومة وحدة وطنيّة ومن دون وساطة أجنبيّة في وقت كانت حكومة طبرق قد أعلنت فيه موقفها المعارض لحكومة السّراج منذ ‏الإعلان عنها‎.‎
الحرب على الإرهاب ورقة الاعتماد الدولي
أصبح مصطلح الحرب على الإرهاب هو الصّك الذي يدخل به من يريد الانقضاض على السّلطة، وخصوصا عندما ‏يُراد بالإرهابيّين فئات معيّنة ليس من بينهم أولئك المتعاضدين مع دول غربيّة كبيرة. ومن هذا الباب قدم حفتر أوراق اعتماده للمجتمع الدّولي «أمريكا» مدعوما ببعض وسائل الإعلام العربيّة، رافعا شعار «محاربة الإرهاب» ومصنفا لبعض المجموعات الثّورية كفجر ليبيا التي تدعمها ‏تركيا وقطر، والإسلامية كأنصار الشّريعة بأنّها مجموعات إرهابيّة. بدأ حفتر هجماته بقوات الزّنتان الموالية له على المؤتمر ‏الوطني العام في محاولة لاعتقال ممثّليه وحلّه بالقوّة، في المقابل هاجمت قوات فجر ليبيا كتيبتي القعقاع والصواعق التّابعتين ‏لحفتر، والمتمركزتين منذ سنوات في مطار طرابلس الدّولي وانتزعته منهما، واستمر الاقتتال بين الطّرفين يهدأ تارة وينفجر تارة ‏أخرى‎.‎‏ وقد لعبت المليشيات دورًا مهمّاً في دعم الحكومات الثّلاث وقوّات حفتر في ليبيا، فقد ساندت كتائب ‏مصراتة، وكتائب تيار الإسلام السياسي حكومتي السراج والإنقاذ، وساندت بقايا الجيش اللّيبي بالإضافة إلى كتائب الزنتان قوّات حفتر، فيما استمرت الكتائب ‏الإسلاميّة الجهادّية في قتالها من أجل تثبيت «حكم إسلامي» في البلاد عارضه التّيار الليبرالي والأحزاب العلمانيّة وبقايا نظام ‏القذافي فضلا عن قوات خليفة حفتر بشدّة‎.‎
حفتر يتمدّد
قبلت أمريكا باتفاق الصّخيرات «على الورق»، والدّليل على ذلك استمرارها في دعم حفتر سياسيّا وعسكريّا حيث ساعدت ‏قواته في السّيطرة على منطقة الهلال النّفطي في ‏‎12‎‏ سبتمبر ‏‎2016‎، التي تشمل مينائي السّدرة ورأس لانوف، ثمّ ميناء الزّويتينة، إلاّ أنّ تحرّكات الأوروبيّين خاصّة بعد محاولات المصالحة بين حفتر وعقيلة ‏صالح رئيس مجلس نواب طبرق في شرق البلاد وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق في غرب البلاد أربكت هذه التّحركات ‏الأمريكية.‏‎ لكنّ الأمريكان عادوا من الباب الخلفي مستعينين بالدّول الأقليميّة الدّاعمة لحفتر واستطاعوا بورقة الضّغط المخيفة ‏وهي استمرار حالة الحرب والاقتتال داخل ليبيا إلى ما لا نهاية، من فرض اسم حفتر في أيّ اتفاق سياسي يجرى مستقبلا في ليبيا، ‏وتسليمه الملف الأمني والعسكري في أيّ حكومة ممكنة قادمة، وهكذا كسبت أمريكا نقاطا أمام منافسيها الأوروبيّين، تلا ذلك ‏دخول فرنسا من النّافذة الخلفيّة أيضا بتأييد سياسي للنّظام الشّرعي القائم «حكومة السّراج» وفي نفس الوقت بدعم عسكري لحفتر بشكل كبير، حيث كشفت ‏صحيفة لومند الفرنسيّة في سنة ‏‎2015‎‏ عن وجود قوّات فرنسيّة تقاتل إلى جانب قوّات حفتر ببنغازي، هذا التّواجد أقرّه ‏اعتراف فرنسا بمقتل جنود لها هناك بعد ذلك بأشهر قليلة‎.‎‏ أمّا إيطاليا، مستعمر ليبيا القديم، ومن أجل الحفاظ على مصالحها، وفي نفس الوقت عدم ‏إغضاب أمريكا فقد تراجعت عن اتهاماتها لحفتر سابقا بزعزعة الاستقرار، وأعلنت عن ضرورة البحث له عن موقع في الاتفاق ‏السّياسي. 
ومع تمدّد التّدخل الأمريكي وهرولة بعض الدّول الأوروبية لخطب ودّها، كان على روسيا أن تبحث لها هي الأخرى عن ‏موطئ سكّين يمتدّ للكعكة اللّيبية الدّسمة، ولم يكن ثمّة طريق إلاّ دعم حفتر، ومجلس النّواب المتحالف معه، حيث تمّ استقبال حفتر في موسكو ‏أكثر من مرّة، وظهر على متن حاملة طائرات روسيّة عند مرورها في المياه الإقليميّة بمحاذاة ليبيا، كما استقبلت رئيس ‏البرلمان المتحالف معه عقيلة صالح المحسوب على نظام القذّافي، وإن كانت استقبلت «ذرا للرّماد في العيون» قيادات عسكريّة تنتمي لمصراتة وتتبع ‏حكومة الوفاق. أمّا عسكريّا فقد تواجد الرّوس من خلال «مقاتلي شركة فاجنر» التي تقاتل جنبا إلى جنب مع عسكر حفتر‎.‎‏ 
ولولا هذا الدعم الخارجي، لما تمكن حفتر من البقاء ‏صامدا في السّاحة اللّيبية فضلا عن التمدّد. وبتحالفه مع رئيس البرلمان عقيلة صالح المحسوب على نظام القذافي استطاع ‏أنصار النّظام السّابق أن يرفعوا أصواتهم في عدّة مناطق على رأسها طبرق وبنغازي للمطالبة بإطلاق سراح نجل القذّافي سيف ‏الإسلام، وكذلك رموز نظام القذافي الذين يحاكمون في غرب ليبيا بدعوى أنّهم من الشّخصيات الوطنيّة، وانتهت تلك الدّعوات ‏بإطلاق سراح سيف الإسلام بالفعل في جوان ‏‎2017‎‏ في ظروف أقلّ ما يقال عنها أنّها غامضة ليطوى معها سجل جرائمه ‏بصمت، ولتتجلّى ملامح التّأثير العميق لرجالات القذّافي الباقين بعد سقوط رأس النّظام في الصّراع اللّيبي‎.‎
محاولة احتواء الانفجار
لا يشكّ عاقل أنّ فرض الرّأي بالقوّة ابتداء، وكتم أنفاس الحرّية لدى النّاس، في أيّ دولة ذات تأثير في محيطها بالقوّة ‏يجعل الأقليم يغلي من الدّاخل ومرشّحا للانفجار في أي لحظة. خصوصا وأنّ ليبيا تشترك مع ما يقرب من ثمانية دول حدوديّا، ‏وهي الدّولة العربية المطلّة على روما بوّابة أوروبا في الهجرة غير الشّرعية، مع ما لديها من ثروة نفطيّة جبّارة يجعل كلّ من ‏لديه مصلحة فيها أن يحافظ على استقرارها، لكن تضارب المصالح المفضوح يجعل هذا الاستقرار حذرا ومحفوفا ‏بالمخاطر، لذلك سعت تركيا الدّولة الديموقراطية الإقليميّة «الأقرب إلى الديموقراطية الحقيقيّة منها إلى المجازيّة» إلى نزع فتيل الحرب ومنع ‏سيطرة فريق على السّلطة دون شرعيّة شعبيّة، فقادت تحرّكا واسعا وسريعا يعيد إلى الأذهان مساندتها الكاملة والمطلقة لقطر ‏سياسيّا واقتصاديّا وعسكريًّا [2]‎‏.‏‎
‎شمل هذا التّحرك دول المغرب العربي وقطر والسّودان، والكلّ على اتفاق أنّ التّدخل العسكري على الأرض يزيد الطّين ‏بلّة، ليس داخل الأراضي اللّيبية فحسب بل ربّما مغاربيّا أيضا، فوجود قوّات عسكريّة مغربيّة مثلا داخل الأراضي اللّيبية بالقطع ‏لن توافق عليه الجزائر التي تحاول استعادة حيويتها في الإقليم، بسبب المشاكل الحدوديّة التي لم تحل بين المغرب والجزائر إلى ‏الآن، ومع ذلك الكلّ يدرك أنّ انتصار حفتر سيؤدّي إلى كارثة إنسانيّة في ليبيا، فمن يأتون على ظهور الدّبابات، مصير مخالفيهم ‏معروف غالبا، ودول المغرب العربي تخشى من تدفّق آلاف اللاّجئين على أراضيها وهي التي لم تتعاف من مشاكل إقتصاديّة عويصة بعد، ناهيك عن المشاكل الأمنيّة والحدوديّة التي ستحدث. 
لم يبق من أمر التّدخل العسكري إلاّ تركيا وقد جهّزت الرّد على ‏المجتمع الدّولي بشأن هدفها في نشاط عسكري في ليبيا بأنّ حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة طلبت منها ‏دعما عسكريّا «برّيا وبحريّا وجويّا» بغية وضع حدّ لهجوم المشير خليفة حفتر. أمّا دخول روسيا على الخطّ فالأمر في أغلب ‏الأحوال سيكون كما تقول «جني جبور» الباحثة‎ ‎في السّياسة الخارجيّة التركيّة من معهد العلوم السّياسيّة في باريس «إنّ الأتراك ‏والرّوس أظهروا حتّى الآن أنّه برغم التّوتر والأزمات التي يمكن أن تشوب العلاقات بينهما، فإنّهما يعرفان كيفيّة تجنّب المواجهة ‏المباشرة».‎‏ بقيت نقطة أخيرة ما الذي سوف تكسبه تركيا من هذا التّدخل.‏
مكاسب تركيا من التدخل
تنبني العلاقات الدّولية على المصالح ابتداء، وليست المصالح محصورة في الاتفاقيّات التّجاريّة والاقتصاديّة المتمثّلة في ‏فتح أسواق جديدة لكلاّ البلدين، المصالح أوسع من ذلك بكثير. لذلك سنبتعد كثيرا عن أولئك الذين يختزلون المشهد في أنّ تحركات ‏تركيا تمثل أحلام وأوهام السّلطنة العثمانيّة، فهذه تحليلات أصغر من أن تقرأ أصلا، خصوصا عندما يعتمدون الدّجل في التّحليلات ‏السّياسية. 
المكسب المادّي الكبير وراء الدّعم التّركي لحكومة الوفاق الوطني يتمثّل ‏في كونها الحكومة الشّرعيّة التي وقعت معها تركيا اتفاقا بحريّا، يتيح للسّلطات التركيّة التّمسك بمطالب سيادتها على مساحات في ‏شرق المتوسط الغنيّ بموارد الطّاقة. ويعدّ هذا الاتفاق الورقة الرّئيسة «وهي ورقة ضخمة فعلا» التي أصبحت في جعبة أنقرة في ‏مواجهة دول متوسطيّة أخرى تسعى وراء هذا الملف‎.‎‏ وهناك أيضا قطاع البناء التي تساهم فيه تركيا بنصيب كبير بعدما ‏تضرّرت البنية التّحتيّة اللّيبية كثيرا بسبب الحرب من ناحية وبسبب إهمالها أساسا في عهد القذافي. ثمّة مكسب سياسي في حال ‏انتصار هذا الحلف، هو التفاف الأتراك أكثر وأكثر حول «أردوغان»، لكنّ المكسب السّياسي الأكبر قد يكون في تكوين حلف قويّ ‏يستطيع أن يساعده في اتخاذ أي قرارات من شأنها الخروج من الفلك الغربي خصوصا «الأمريكي»، يؤيّد ذلك الحضور الرّئيس ‏لتركيا مع دول أخرى فاعلة في الإقليم لمؤتمر ماليزيا ‏‎2019‎‏ وقد نوقشت فيه قضايا هامّة جدّا مثل «التّنمية الوطنيّة والسّيادة؛ ‏والنّزاهة والحكم الرّشيد؛ والثّقافة والهويّة؛ والعدالة والحرّية؛ والأمن؛ والسّلام والدّفاع؛ والتّجارة والاستثمار إلى جانب ‏التكنولوجيا وإدارة الإنترنت».‎
الهوامش
‎[1]‎‏ اتفاق الصخيرات: اتفاق شمل أطراف الصراع في‎ ‎ليبيا‎ ‎وتمّ توقيعه تحت رعاية الأمم المتحدة‎ ‎في ‏مدينة‎ ‎الصّخيرات‎ ‎في‎ ‎المغرب‎ ‎بتاريخ‎ 17 ‎ديسمبر‎ 2015 ‎بإشراف المبعوث الأممي‎» ‎مارتن كوبلر»‎ ‎لإنهاء‎ ‎الحرب الأهليّة ‏اللّيبية الثّانية‎ ‎المندلعة منذ‎ 2014 ‎، وقد بدأ العمل به من معظم القوى الموافقة عليه في‎ 6 ‎أفريل‎ 2016 ‎ . وقّع على هذا الاتفاق ‏‎22‎‏ برلمانيّاً ليبيّاً على رأسهم‎ ‎صالح محمد المخزوم‎ ‎عن طرف‎ ‎المؤتمر الوطني العام الجديد‎ ‎وامحمد علي شعيب‎ ‎عن ‏طرف‎ ‎مجلس النّواب اللّيبي‎.‎
[2]‎‏ كان ذلك في ‏‎2017‎‏ عندما فُرض على قطر الحِصار. فأقامت تركيا جسرا جويًّا لتزويد السّوق القطريّة ‏بما تحتاجه من سلع وبضائع، وتمّ استصدار تشريع يجيز لتركيا نجدة قطر عسكريًّا والوقوف إلى جانبها في محنتها، وتمّ ذلك ‏بالفعل.