تأملات

بقلم
عبد الحق التويول
الاحتباس الأخلاقي وأثره على الأرض ويوم العرض ‏
 في الوقت الذي تجنّدت فيه المنظّمات والهيئات والجمعيّات لتدقّ ناقوس الخطر ولتصرخ ‏بصوت عال في كلّ الملتقيات والنّدوات التي تعقدها مذكّرة ومنبّهة إلى خطورة «الاحتباس ‏الحراري» الذي أصبح يهدّد وجود البشريّة فوق الأرض والنّاتج – كما يقول المختصّون في أمور الكون ‏والبيئة - عن الارتفاع التّدريجي لدرجة الحرارة في الطّبقة السّفلى للغلاف الجويّ بسبب ارتفاع ‏الانبعاثات الغازيّة الدّفيئة (ثاني أكسيد الكاربون والميثان و......) الشّيء الذي أدّى وسيؤدّي إلى ‏تغيّرات محسوسة وملموسة على مستوى مناخ كوكب الأرض (هطول أمطار غير منتظمة ، ‏وهبوب عواصف ونشاط تيّارات المحيطات المدمّرة ..) بشكل سيجعل الحياة صعبة على هذا ‏الكوكب وربّما قد تصبح مستحيلة .‏
نتيجة لهذا نجد دول العالم قد بدأت تنهج سياسات لطيفة تُجاه البيئة (ترشيد استعمال الطّاقة ، ‏الاقتصاد في الموارد الطّاقيّة ، ابتكار مصانع وآلات بديلة غير ملوثة ...) وكلّ ذلك لمحاولة ‏كسب ودّها وجعلها ترضى عنها لتعطيها فرصة أكبر لتحيا فوق ظهرها مدّة أطول .‏
وفي المقابل لا نجد المنظّمات ولا الهيئات ولا الجمعيّات تدقّ ناقوس الخطر، بل لا نكاد  نسمع ‏لها ولو همسا، محذّرة من الاحتباس الأخطر والأفظع، وهو «الاحتباس الأخلاقي» الذي أصبح ‏يهدّد وجودنا فوق الأرض ونجاتنا يوم العرض.‏
نعم إنّ كوكب الأرض ليس مهدّدا بالاحتباس الحراري وحسب، بل هو مهدّد باحتباس أخلاقيّ شامل هو في الحقيقة السّبب الخفيّ في ذالك الاحتباس الذي ‏يتحدّثون عنه ويتخوّفون منه، وقد بدأت أعراض هذا الاحتباس تظهر إبّان التمرّد على القيم ‏والمبادئ، الشّيء الذي أدّى إلى «ارتفاع محسوس» في درجة المعصية في الكون  متسبّبة في  إحداث «‏ثقب في طبقة القيم» التي تعتبر بمثابة غلاف واق يحول دون تسرّب «أشعّة الشّر»، ممّا يسهّل الحياة ‏فوق كوكبنا .‏
إنّ التّوسع المستمر لـ «ثقب القيم» مؤذّن بضلال الإنسان المؤذّن بدوره بخراب وضياع العمران، ‏وهو التوسّع النّاتج كما قلنا عن التمرّد على القيم والمبادئ وانتشار «مصانع» الرذائل والفجور ‏وما ينبعث منها من سموم تؤذي كلّ الكائنات، فضلا عن كونه ينتج أيضا بسبب اختفاء «‏مساحات التّعايش والتّفاهم» الخضراء واجتثاث «أشجار» الودّ والمحبة والسّلام التي تعتبر بمثابة ‏آلة طبيعيّة لتنقية الجوّ وتلطيفه وتسهيل الحياة على وجه هذا الكوكب المنهك . ‏
أمام ازدياد هذا التوسّع تنبئ المؤشّرات أنّ «براكينًا» من الحقد ستنفجر، و«سيولاً» من العادات ‏والممارسات المشينة ستسود، وستتبخّر معها مياه أنهار ومحيطات السّلام، وستعمّ «فيضانات» ‏من الحروب الجارفة التي ستأتي على الأخضر واليابس في مناطق معينة من جغرافيّة أرضنا‏، في حين ستسود باقي المناطق الأخرى موجة من الجفاف على مستوى علاقات النّاس فيما ‏بينهم مخلّفة شحًّا في منسوب الخير والمعروف ممّا سيؤدّي في الأخير إلى مجاعة شاملة سيأكل ‏فيها القويّ الضّعيف والغنيّ الفقير .‏
ولا شكّ أنّ هذا سيؤدّي إلى حالة من الفوضى والاختناق التي لا محالة ستدخل النّاس في ‏غيبوبة، سيفقدون معها الشّعور وستختلط عليهم مقاييس الخير والشّر والضرّ والنّفع فتنقلب ‏الموازين في أعينهم لدرجة ستجعلهم يعرفون الخير خيرا لكنّهم يعرضون عنه ويعرفون الشرّ ‏شرّا فيقبلون عليه.
سيدرك  البشر المعصية وخطورتها ورغم ذلك سيغلقون أعينهم ‏وسيرتمون في أحضانها، وسيعرفون الطّاعة وقيمتها ورغم ذلك سيغلقون أعينهم في وجهها، ‏وسيزداد إقبالهم على مصانع الرّذيلة وسينخرطون معها في إعادة تدوير المعاصي وتزيينها ثمّ نشرها بكلّ ما أوتوا من جهد وقوّة ترويجيّة إشهاريّة حتّى لا يذروا  بيتا ولا قرية ولا مدينة إلاّ ‏وكان لها نصيب منها.
ستُفتح شهيّة النّاس للقيم المادّية المعلبة الرّخيصة وفي المقابل ‏سيضربون عن كلّ ما هو قيمي طبيعي ونبيل، ولا يزالون كذلك غير مبالين بما سينتج عن ‏ذلك من سرطانات وأمراض حتّى يلفظوا قيمهم الأخيرة وتباغتهم المنيّة، فيكونوا قد فوتوا على ‏أنفسهم فرصة ذهبيّة ليحيوا حياة سعيدة هانئة وانقلبوا إلى ربهم خاسرين، قد أوتوا سيئة في الدّنيا ‏وأخرى في الآخرة ووقعوا في عذاب النّـار.‏
وأمام هذه الحال، لا نملك – نحن المسلمين - إلاّ أن ننبّه إلى خطورة ظاهرة «احتباس الأخـــلاق» ‏و«تصحّر القيم» و«انجراف المبادئ» وفي هذا الإطار، علينا أن نبادر إلى عقد المؤتمرات والنّدوات للتّحسيس وللرّفع  من ‏منسوب الوعي والمسؤوليّة لدى الجميع، مذكّرين بوصايا ربّ العالمين وبرحمة النّبي الأمــين ‏عليه أزكى الصّلاة والتّسليم  وما حثوا عليه من قيم مثلى تلطف الجوّ وتنشر نسائم المحبّة ونبذ الكراهيّة ، والسّلام عوضا عن الحرب، والإصلاح بدل الإفساد، والقناعة وعدم اللّهفة، والتواضع ‏وعدم الكبر، والاجتماع  وعدم الفرقة.
علينا أن نكون يدا واحدة على الظّالم ضدّ المظلوم ، ‏وبلسما شافيا لكلّ مجروح ومكلوم، بعيدا عن النّزاعات والمصالح المادّية الفرديّة التي تهدم ‏أكثر ممّا تبني، محاولين بذلك صنع جسور من التّعاون وتشييد قناطر من التّكامل التي تمكّننا ‏من العبور بسلام إلى الضّفة الأخرى وشعارنا في ذلك « رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» .
لنكن حريصين كلّ الحرص على تشجير أرواحنا المنهكة بفسائل الخير ‏والتّفاؤل، متعهّدين إيّاها بالسّقي بماء الحبّ، متوسّمين بكلّ ذلك قطف ثمار التّعايش في أمن ‏وسلام بعيدا عن أيّ احتباس .