همسة

بقلم
عبدالحق معزوز
خطبة الجمعة ومعركة الشبهات
 يحتدم في هذا العصر نقاش طويل وحوار معمّق، حول قضايا ذات صبغة عقديّة وفكريّة، تنذر بإرهاصات لعهود جديدة؛ شديدة الوقع، وخطيرة الأثر، وقوية التّأثير على الحياة الإيمانيّة المستقبليّة لأبناء المسلمين، ويدور قطب رحى تلكم الحوارات والنّقاشات حول الوحيين كتابا وسنّة، تشكيكا وتبخيسا، وتفكيكا وتنقيصا، وتحليلا وتوصيفا، بمنهج يفتقد العلميّة والأمانة، وتحكمه الخلفيّات الإيديولوجيّة المنحرفة والنّيات الفاسدة القاصدة، والتي تستبطن في صدورها أكبر ممّا بدا في أقلامها وإعلامها، قال تعالى: « ... قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (1). 
حوارات ولقاءات تطعن بسيوفها في الهويّة الإسلاميّة والأصالة المعرفيّة والإرث العلمي للأمّة الإسلاميّة حتّى صارت القنوات والفضائيّات ساحات لحروب فكريّة وكلاميّة لا يهدأ أوارها، الخصم فيها حاضر بقوّة وقد أجلب بخيله ورجله، ولم يلق من المواجهة الشّرعيّة ما يفي بتغطية عدد الجبهات وكثرة القنوات التي فتحت الباب لقصف الأمّة بكلّ فكر إلحادي وكلّ قناعة علمانيّة، وكلّ تيار عولمي جارف، ممّا استتبع تيها عقديّا، وتشرذما إيمانيّا، وخلّف شكّا وتشكيكا، ساعد على ذلك غياب حصانة علميّة ورصانة معرفيّة عند كثير من أبناء الإسلام، شبابهم وطلاّبهم ومثقّفيهم ونخبهم مع جرأة متهوّرة على اقتحام حمى هذه الشّبهات وولوج حياض هذه الجبهات، وتصفّح المواقع والصّفحات، واستماع المقاطع و«الفيديوهات»، معرضين في ذلك عن تحذير المولى جلّ جلاله من فوق سبع سماوات: « وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...»(2).حتّى لاح في أذهان هؤلاء بوادر الشّك، وبرزت في تساؤلاتهم أمارات الرّيب، وظهرت في نقاشاتهم بعض علامات الزّيغ، ولا تزال قابلة للتّطور والانحراف أكثر ما دام القوم يتغذّون باستمرار من هذه المواقع والقنوات.
لقد بات جليّا ما تمارسه وسائل الإعلام من ضغط مباشر ترعاه دوائر الفكر الغربي الغالب من دعم للخيار العلماني والتّيار الإلحادي، لفرض نفوذه وتعميق سيطرته، لانتزاع الزّعامة الفكريّة والرّوحيّة مثلما انتزعت الزّعامة العسكريّة والاقتصاديّة، والتّأليب ضدّ كلّ ما له صلة بالإسلام.
إن هذا الوضع القائم، والواقع الصّادم، لا يمكن الانعزال والانطواء عنه، ومن التّقصير والتّفريط أن ينأى الخطيب بخطبه بعيدا عن ساحة العراك، وميدان الصّراع ويعنى بموضوعات لا يشكّك أحد في أهميتها، لكن فريضة الوقت وواجب اللّحظة والسّاعة غير ذلك، خاصّة مع ما نعانيه من فقر إعلامي هادف، وعوز في الفضائيّات النّافعة، يكاد يختفي معه الخطاب الشّرعي فلا يسمع إلاّ من الجمعة إلى الجمعة.
لقد صار من القضايا المهمّة والأمور العظيمة التي ينبغي أن تعالجها خطبة الجمعة تصحيح التّصورات، وتصويب الأفكار والقناعات، ودحض الأباطيل والشّبهات، وربط الأمّة بأصول دينها وأمّهات مصادرها، وترسيخ عقائدها، وتثبيت يقينها، مع بيان أوجه الانحرافات عند أربابها والكرّ عليها بالإبطال.
والنّاظر في كتب العلماء، وتراث المفسّرين والمحدثين والفقهاء، لن تعوزه الحجج، ولن تنقصه الأدلّة نقليّة وعقليّة، وسمعيّة ومنطقيّة، ويبقى مدار الاجتهاد عند هذا الخطيب أو ذاك حسن الانتقاء وجودة الاصطفاء مع رونق العرض وسهولة البسط بما يتناسب وحضور الجمعة لما بينهم من تفاوت معرفي وتراتب ثقافي، وحيث يتعسّر على العوام فهم التّأصيل يلجأ الخطيب إلى التّمثيل، إذ بالمثال يتّضح المقال، وقد ضرب الله الأمثال.
الهوامش
(1) سورة  آل عمران - الآية 118 
(2) سورة  النســــــاء - الآية 140