الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
مستقر الشمس «الجزء الثالث»
 تصوّر أنّ لك منزلا مساحته 200 متر مربّع وارتفاعه 3 أمتار فكم يكون حجمه؟ الإجابة سهلة ولا تتطلّب إلاّ معرفة تلميذ في السّنة الرّابعة ابتدائي. إنّه 600 متر مكعّب. لكن هل يمكن أن تتصّور أنّ أحد البيوت يمكن أن يتضاعف حجمه ملايين المرّات بدون أن يتغيّر حجم المنزل أي أن يصير مثلا 600 مليون متر مكعّب وقد كان 60 مترا مكعّبا فقط. بالطّبع لا. هذا أمر لا قبل لك ولا لنا أيضا تخيله. إنّ ذلك يعني أنّ فضاء البيت تمدّد أمّا فضاء المنزل فلم يتغير. تصوّر الآن أنّ هناك كرسيّين فقط في ذلك البيت، فهل يمكن أن تتوقّع ماذا يمكن أن يحدث لهما بعد ذلك التمدّد؟ وإن قلت لك أنّ الفضاء المتمدّد سيبعدهما عن بعضهما مسافة هائلة ستستغرب من قولي هذا لأنّ خبرتك اليوميّة ستقول لك بأنّ الكرسييّن سيبقيان في موضعهما فلا قدرة للفضاء حملهما حتى وإن صدقنا جدلا بإمكانيّة توسّعه. لكن ما علاقة مستقر الشّمس بهذه الاحداث التي لا يمكن تصديق وقوعها؟ فلنعد لصلب الموضوع ونرى.
لقد عرضنا في الجزأين الأوّلين من هذا المقال بعض التّفاسير القديمة والحديثة والتي نعتبر أنّها عيّنة ممثّلة لما قيل في الآية 38 من سورة يس موضوع البحث. وقد لاحظنا فيها إمّا تقيّدا بمستوى المعارف السّائدة زمن التّفاسير القديمة أو ابتعادا عن المعاني الأصلية للألفاظ المستعملة والحقيقة العلميّة. سنسعى في هذا الجزء الثّالث الى الاقتراب من المعنى الذي يمكن أن يكون المراد الإلهي من آية المستقرّ وذلك من خلال فحص دقيق للمعارف العلميّة بعلاقة بالظّاهرة موضوع الآية مع الالتزام بما يقتضيه اللّسان العربي سواء على مستوى المعنى أو المبنى. وقبل ذلك نذكّر بأنّ الذي يثير الدّهشة في التّفاسير الحديثة هو، وكما رأينا، قولها باتجاه ظاهري للشّمس على أنّه مستقر أو قولها بمستقرّات متعدّدة عوض عن مستقر واحد وكلاهما لا يعير للمنهج العلمي في التزامه بمرجع لتحديد الحركة أي اهتمام وهو ما يجعل من المستقرّات المزعومة لا علاقة لها بمكان أو/وزمان القرار بمعنى الثّبات والسّكون وما يلازم ذلك من برودة.
﴿ والشمس تجري لمستقرّ لها ﴾. إنّه خبر إلهي واضح. فهل يمكن للآية أن تقرأ على ضوء ما يقوله العلم الحديث بعلاقة بحركة الشّمس وبالوسط الذي تتحرّك فيه والآلية التي تحكم كلّ ذلك؟ إنّ افتراض أنّ الآية ذات مصدر إلهي يعني ضرورة أنّ لها القدرة على استيعاب الحقائق التي لم تكن معلومة زمن الوحي. فهل يمكن قراءة الآية وكأنّها تنزل اليوم زمن النّسبية العامّة و«النسيج الزّمكاني» المتمدد و«المتموّج» والأجرام الضّخمة المتحرّكة فيه والمتفاعلة فيما بينهما؟ 
الجاذبية وامواج الثقالة
غيّرت مجموعة من المعارف الجديدة في علم الفلك ونظريّة الجسيمات والجاذبيّة الطّريقة التي نتصوّر بها الكون. في سنة 1915 قدّم اينشتين نظريّته المشهورة «النّسبية العامّة». تتعلّق النّظرية بتصوّر جديد للجاذبيّة الثّقالية والفضاء والزّمان كذلك. والجاذبية، كما نعلم، هي القوّة التي تشدّنا الى الأرض حتّى لا نهيم في الفضاء وهي التي تجعل الأرض تدور حول الشّمس والقمر يدور حول الأرض والنّجوم بالمليارات كلّ في مدار حول مركز المجرّة. الجديد والثّوري في هذا التّصور هو نفي أن تكون الجاذبيّة قوّة تتبادلها الأجسام كما كان في التّصور النّيوتوني الذي ساد حوالي 250 سنة بل هي انحناءات وتضاريس في الفراغ الذي أصبح يتصوّر على أنّه نسيجا مخفيّا وأعطي إسما جديدا هو الزّمكان. والفراغ يعني، في العلم الحديث، ما يتبقّى عندما نفرغ حيزا فضائيّا من كلّ الجسيمات المادّية ومن كلّ فوتونات الطّاقة. والذي سيبقى له طبيعة غريبة وتقضي النّسبية وميكانيكا الكمّ بضرورته ويتمثّل في خواء يمثل مسرحا تظهر فيه جزيئات سرعان ما تختفي في مقياس زمني قصير جدّا لكي يتمّ قياسها أطلق عليها اسم «جزيئات افتراضيّة». 
توقّعت النّسبية العامّة، ووقع التحقّق من ذلك رصديّا، أنّ الكتل الضّخمة (النّجوم مثلا) تحدث في خواء الفضاء المحيط بها منخفضات ثقاليّة في بعد رابع لا قبل لعقلنا تصوّره. وبما أنّ الشّمس نجم فهو لا يشذّ عن القاعدة. تحدث كتلة الشّمس (2X1030  كغ أي 330000 ضعف كتلة الأرض) منخفضا ثقاليّا يجعل الأرض تتحرّك في الحافة العليا لمنحدره في فلك (مسلك دائري) حولها يمكن أن يستقرّ على تلك الحالة لملايين السّنين. وهكذا الأمر بالنّسبة للمنظومة أرض-قمر. فالقمر يتحرّك في فلك حول الأرض رسمته كتلتها. 
إنّ في الفضاء تضاريس تتحرك فيها الأجرام السّماوية، هكذا قالت النّسبية العامّة وهذا ما بيّنت الأرصاد صدقه، فارتقى الى مستوى الحقيقة الفيزيائيّة. فالكتل هي التي تخلق تضاريس في النّسيج الزّمكاني والتّضاريس تفرض على الأجرام المسارات التي تتحرّك فيها في ذلك النّسيج. هكذا تصف النّسبية العامّة العلاقة بين الكتل والفضاء وهكذا تصف أفلاك النّجوم والكواكب والأقمار.  
ليست تلك التّضاريس دائما ساكنة بل يمكن أن تكون متحرّكة. أدرك «اينشتين» أنّ الفضاء القادر على الانحناء هو قادر أيضا على الانضغاط والتمدّد. وهو أمر غاية في الغرابة إذ يكفي تصوّر جسم قادر على تحريك ذلك النّسيج حتّى ينشأ عن ذلك تموّجا ينتشر بسرعة الضّوء مبتعدا عنه في كلّ الاتجاهات شبيها بالتموّجات التي يحدثها سقوط حجارة على سطح ماء راكد. أطلق على ذلك التّموج أمواجا جاذبيّة أو أمواج ثقالة وهي ظاهرة توقع حدوثها في إطار التّصور الجديد للثّقالة والفضاء والتّفاعل بينهما وانتظرت مائة سنة حتّى يقع التحقّق من وجودها تجريبيّا وهو ما أنجز فعليّا سنة 2015. ليس بمقدور أيّ حدث في الكون أن يولّد امواجا ثقالية الا أن يكون ذا طاقة عالية جدّا مثل دوران نجمان نابضان حول بعضهما البعض أو انصهارهما أو انصهار ثقبان أسودان أو انفجارات نجميّة هائلة. 
ولكي نقرّب لأذهاننا البعد الذي تمثّله التّضاريس في النّسيج الزّمكاني ونفهم ما يحدث عند مرور موجة ثقالة، لا بدّ من أن نذكّر بما وقع اكتشافه عام 1929 من طرف الفلكي «هابل». فقد بيّنت له الأرصاد التي قام بها أنّ المجرّات البعيدة تتحرّك هاربة منّا في كلّ الاتجاهات بسرعة تتناسب طردا مع المسافة. لم يكن بمقدور فهم الاكتشاف في إطار التّصور السّائد للفضاء. فقد كان يعتقد أنّ الفضاء ساكن وأزلي، لانهائي ومظلم وفارغ وأنّ الأجرام السّماوية مثل الأرض والقمر والكواكب والنّجوم والمجرّات تتحرّك فيه بدون أيّ تفاعل بينها وبينه وأنّه لو انعدمت كلّ تلك الأجرام فسيبقى الفضاء الى الأبد. لم يكن إذا ممكنا تفسير الاكتشاف الجديد الاّ بافتراض أنّ الفضاء بين المجرّات يتمدّد أي أنّ التّمدّد هو المسؤول عن ابتعاد المجرّات عن بعضها البعض بما يعني بالضّرورة أنّ المجرّات عالقة بالفضاء ولا تتحرّك بالنّسبة اليه بل هو الذي يزداد حجمه (لنتذكر المقدمة) وهذا يعطي نتيجة ستغيّر للأبد تصوّرنا للكون. 
إن افتراض أنّ الفضاء يتمدّد يعني بالضّرورة أنّ حجمه كان في الماضي أصغر وأنّه بالرّجوع الى الماضي أكثر فأكثر فإنّ مآله الحتمي هو الاختفاء في نقطة لا حجم لها أي أنّه يصير عدما، نقطة تصير فيها كلّ المقادير الفيزيائيّة لا نهائيّة كالحرارة والضّغط والكتلة وهي حالة يعبر عنها اليوم بمصطلح «الانفجار العظيم». كان ذلك الاكتشاف أساس التّصور الجديد لتاريخ الكون الذي أصبح له بداية بعد أن كان أزليّا ولا بدّ له من نهاية بعدما كان أبديّا. 
لقد أصبح تمدّد الفضاء حقيقة ونمتلك جهازا نظريّا يصفه، إنّها معادلات النّسبية العامّة. إنّ الفضاء يتمدّد ويتقلّص. لم يكن الكون موجودا قبل 13,8 مليار سنة، لقد كان العدم. لم يكن شيئا ثم انبثق كلّ شيء من العدم. لقد كان الكون في حجم نقطة ثم كبر حجمه ليصبح قطره 90 مليار سنة ضوئية الآن. فهل يعني هذا أنّ النّقطة كانت في فضاء آخر وتوسّعت فيه أو على حسابه؟ الإجابة بالحسم، حتما لا. لم يكن شيئا ثم كان الوجود ولنتذكّر مرّة ثانية المقدّمة.
لنعد الى سؤال: ماذا يحدث عند مرور موجة ثقالة؟ إنّها ستقوم بضغط وتمطيط الفضاء المتمدّد أصلا لكن بمقدار صغير جدّا لا يتجاوز جزءا من قطر ذرّة. لذلك تطلّب أمر التقاطها مائة سنة. فكما أن الفضاء يتمدّد على المستوى الكبير فإنّ مرور موجة ثقالة يعني أن ذلك التّمدّد يزداد محلّيا وينقص أي أنّ الفضاء يكبر محلّيا وليس على حساب الفضاء السّابق مثل الكون المتمدّد ولا خارج له. هذا ما يقوله العلم وهذه مفاهيمه. وعلى كلّ حال فإنّ ما يهمّنا في موضوع أمواج الثّقالة أنّها حقيقة فيزيائيّة تعتري الفضاء عند تحرّك الأجسام الثّقيلة فيه. لقد تنبّأت معدّلات النّسبية العامّة بأمواج الثّقالة منذ قرن والان ومنذ 2015 تعدّدت الأرصاد التي التقطتها حيث بلغت خمسة أحداث أوّلها انصهار ثقبين أسودين يبتعدان عنّا حوالي مليار سنة ضوئية.