قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصّة يوسف عليه السّلام ( 6) يوسف يكشف عن هويّته
 الآن يدخل عليه إخوته للمرّة الثّالثة قادمين من فلسطين يقاومون السّنوات العجاف. دخلوا عليه لأوّل مرّة وهو فوق عرش الحكم فإشترط عليهم الإتيان بأخ لهم من أبيهم حتّى يستلموا بضاعة جديدة. ثم دخلوا عليه للمرّة الثّانية ومعهم أخوهم ـ وهو أخوه الشقيق الذي إستبقاه يعقوب لنفسه خوفا عليه أن يغيّب عنه بمثل ما غيّب يوسف عنه ـ وتحيّل يوسف هذه المرّة على إخوته ليستبقي أخاه المتّهم بالسّرقة. ثم يدخلون عليه الآن للمرّة الثّالثة وهم في حالة إنكسار وذلّة. دعنا من هذا الآن ولنعد إلى بعض الأحداث السّالفة. لماذا تحيّل يوسف على أخيه الشّقيق بالذّات فاتّهمه بالسّرقة؟ كان يمكن له أن يستبقي أي واحد منهم. لا. عنوان الخطّة التي رسمها يوسف يأبى ذلك إذ هو يريد أن « يفجع» أباه في أخيه الآخر الشقيق فيستبقيه عنده بدعوى أنّه سارق وبذا يضمن يوسف لوعة من أبيه الفجيع تسوقه إلى أرض مصر سوقا حادبا لا رجعة فيه ولو أخذ مكانه أيّ واحد منهم لما كانت الخطّة لتنال نجاحها المطلوب. 
هي معركة الذّكاء والحيل والمراودات في هذه القصّة العجيبة. كما وشت لنا القصّة في هذا الطّور منها أن إخوة يوسف أنفسهم ليسوا على درجة واحدة من الخبث إذ أنّ كبيرهم إستعظم أن يفيئ إلى أبيه فارغ الوطاب من أخيه الذي استؤمنوا عليه : فلمّا آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل. 
وبعد فشل المفاوضات مع يوسف أن يأخذ أيّ واحد منهم رهينة عدا هذا الولد الذي له أب شيخ كبير أعلن كبيرهم رباطه في الأرض هناك حتّى يحكم  الله له أو يأذن له أبوه بفيئة. قوله : وما شهدنا إلاّ بما علّمنا توحي إليّ أن كبيرهم هذا ـ ربّما هو كبيرهم ذكاء إذ القصّة معركة ذكاء وتحيّل ـ ليس مطمئنا إلى مسرحيّة السّرقة ولكن ليس له أيّ دليل يدفعه إلى إعادة البحث أو التّحقيق. ويفجع يعقوب الوالد الشّيخ الكبير للمرّة الثّانية في أحد إبنائه ولكن أمله غير المحدود في الرّب الواحد المعبود يجعله والغا في الثّقة قائلا : «عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ». ثمّ عمي لشدّة الكرب الذي يلقاه. لك أن تتصوّر معي الآن والدا شيخا كبيرا هرما يفجع في إبنه الأول وإذا ما أرسل للبحث عنه يفجع في الثّاني منهم بل في كبيرهم الذي فرض على نفسه الإقامة الجبريّة أو السّجن الإختياري. لك أن تتصوّر المشهد إذا كنت والدا فإذا لم تكن فادّخر ذلك حتّى تكونه. أدعك مع تفاصيل القصّة المثبتة في السّورة
العبرة الأولى : 
لا تنظر إلى النّاس بالجملة بل بالتّفصيل
يعلّمنا القرآن الكريم دوما خلق الموضوعيّة الذي يسمّيه العدل وهو خلق الإنصاف وذلك عندما يستخدم مرّات كثيرات أدوات التّبعيض من مثل : من النّاس ومن أهل الكتاب إلخ... أي أنّه يدعونا إلى عدم حشر النّاس كلّهم مهما كان دينهم في سلّة واحدة ليحكم عليهم بالطيب جملة أو بالخبث جملة. 
هذا كبير الإخوة الذي لم نسمع له ركزا عندما كان يوسف على وشك القتل أو الرّمي به في جبّ ولكنّه الآن يتّخذ الموقف النّبيل إذ يحتجّ على إخوته تفريطهم في أخيهم المتّهم بالسّرقة ويبدأ بنفسه فيفرض عليها الإبعاد الإختياري. 
عندما ننظر إلى إخوة يوسف في بداية القصّة لا ينقدح في ذهن أي واحد منّا أنّه يمكن أن يكون منهم الرّجل الشّهم الكريم ولكن عندما تدور الأيام وتنضج الأحلام والنهى نكتشف أنّ هذا ـ الكبير ـ يكتنز رصيدا من المروءة يبرز هنا في هذا المشهد. ذلك هو الإنسان قد يجبن هنا ويقدم هناك وقد يبخل هنا ويندى هناك. أولئك هم النّاس يخطئ من يحكم لهم أو عليهم بجرّة قلم مجتمعين لا يميّز بينهم كما يخطئ من يحكم لهم أو عليهم في محطة زمن واحدة ولو آخذنا الله بزلة واحدة لمّا نجا منّا أحد ولكنّه يعالجنا بالنّتيجة النّهائية من بعد عمل حسابي تتدافع فيه الحسنات والسّيئات. وبمثل ذلك يحسن بنا أن نعالج النّاس ومن ذا الذي تصفو مشاربه؟.
العبرة الثانية : 
رأس مال الحياة أمل في الله لا يعرف القنوط
ألا تشده معي لموقف يعقوب الذي لا تزيده المحن المتلاحقة إلاّ يقينا في ربّه سبحانه؟ يفقد الوالد ابنه الأول يوسف فيكون قوله : «فصبر جميل والله المستعان على تصفون». ثم يفقد إبنيه الآخرين معا في رحلة واحدة. الإبن الذي كان شرطا في التّزود بالميرة والإبن الأكبر الذي آثر الغياب على فضيحة إخلاف العهد مع أبيه. ومع الفقد الجديد لا يزيد يعقوب على قوله : «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ». الصّبر الجميل فقرة ثابتة وغذاء راسخ قار لا يفارق الفؤاد. 
والدٌ شيخ كبير يصاب بالعمى لما يلقى من ألم الفراق ولا زال يخاطب بنيه الذين فرّطوا في يوسف وأخيه: يا بنيّ. بهذا النّداء الرّفيق الحبيب. ولذلك يكرمه ربه سبحانه ـ كما أكرم من قبل إمرأة العزيز في هذه القصّة وبلقيس في قصّة سليمان ـ إذ إلتقط حكمة باهرة من حكمه فأثبتها قرآنا يتلى آناء اللّيل وأطــراف النّهــار : «لَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ». هذه الحكمــة سنّة مسنونة وهي قانون مقنّن وناموس منمس ولا ريب في أنّ الكتاب العزيز ـ وعلى غير عادتنا في تناوله ـ قاموس صحيح من قواميس السّنن الكونيّة والاجتماعيّة والعمرانيّة أي أنّه يرسم لنا طريق النّهضة وطريق النّكســة كما يرسم لنا طريق الإعتقاد والعبادة سواء بسواء ولكن تورمت منا هذه وضمرت فينا تلك فتأخّرنـــا. أجل. من يئس من روح الله فقد كفر ولذلك قال العلماء بحقّ كلمة حقّ : الشّرك بالله واليأس من الله صنوان لا يفترقان. ويقول العبد الفقير : لو علم الكافر ما علم المؤمن لآمن. وبذلك يكون طريق الدّعوة عنوانه : إفتح باب الأمـــل أمام النّاس يؤمنوا وأوصد أمامهم أبواب القنوط يسلموا. تلك هي فلسفة الدّعوة في كلمة واحدة
العبرة الثالثة :
يوسف مثال الإنسان الإيجابي في محيطه
لمّا اختلط به صاحبا السّجن إستأمناه على رؤياهما وقالا له :  «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ». ولمّا إنكشف أمر سيدته التي راودته عن نفسه فإستعصم شهدت له قائلة :  «وإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ». ولمّا ذهب إليه رسول الملك يستفتيه في رؤياه قال لـــه : «يوسف أيّها الصدّيق». واليوم عندمــا يدخل عليه إخوته للمرّة الثّالثة يقولـــون له :«يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ». أجمع كلّ من خالطه أنّه رجل شهم كريم فهو محسن مع السّجناء وصادق مع التي رامت مراودته وهو صدّيق في تأويل الأحلام لا يبغي منها جزاء ولا شكورا كما يكذب الدّجالون اليوم باسم الدّين وتأويل أحكامه وحكمه ليأكلوا أموال النّاس بالباطل لهثا وراء الرّهبان شبرا بشبر وذراعا بذراع. وهو عزيز مكين من بعد ما ظلّ لسنوات طويلات عجاف عبدا رقيقا يباع ويشترى بثمن بخس مزهودا فيه. تلك المروءة التي أحاطت بهذا الفتى من كلّ جانب ما كان ليبسطها ربّ العزّة عليه سبحانه لولا خلقه الدّمث مع الظّالم ومع المظلوم ومع المرأة ومع الرّجل ومع السّيد والرّقيق ومع القويّ والضّعيف ومع السّجين والحرّ. تلك هي ثمرة الإيجابيّة والتجرّد بالتّعبير المعاصر.
العبرة الرابعة :
 يوسف في لحظة الفتح ويوم النصر
أنظر إلى لسان الذّلة والإنكسار : «مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا». هذا يحيلنا إلى درس سابق في حلقة سابقة عنوانه : «كما تدين تدان». هؤلاء المنكسرون اليوم كانوا بالأمس لا يرقبون في يوسف إلاّ ولاذمّة وهو أخوهم لا جريرة له عدا صغر سنّه وعلامات الذّكاء البادية عليه. طبيعي أن يمسّهم وأهلهم الضرّ لأنّهم فقدوا بعيرين كاملين ـ أي رحلهما بضاعة ـ في مرّة واحدة : بعير الأخ الذي إحتبسه يوسف أنّه سارق وبعير الأخ الأكبر الذي آثر التّشريد على الرّجوع إلى أبيه مفرطا في أخيه وناقضا لوعده معه. طلب الصّدقة ذلّة وأذلّ منها مقايضة بضاعة مزجاة بأخرى أزكى. صدق الصّادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام : «كما تدين تدان». آن أوان الكشف عن هويّته لإخوته. لحظة فتح مبين ويوم نصر ليوسف. وفي يوم الفتح ينتفخ المنتصر ويتراءى له أنّ الأرض لم تعد تتّسع لمن عداه. هذا يوم الملحمة كما قال أحد قوّاده عليه الصّلاة والسّلام في فتح مكّة. يصوبه عليه الصّلاة والسّلام ليقول له : «لا. بل هذا هو يوم المرحمة». 
من مشكاة يوسف المترعة عفوا وصفحا وحلما ينهل محمد عليهما الصّلاة والسّلام جميعا ليقول يوم الفتح: إذهبوا فأنتم الطّلقاء. لم يزد يوسف في يوم النّصر على قوله : « لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ». لا يقنطهم من رحمة الرّحمان سبحانه وينسب الفضل له وحده :  «قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا». اليوم يوم المرحمة وخطاب المرحمة عفو وصفح وحلم ورحمة وليس يوم إنتقام وأثرة وإنتفاخ أوداج. دعني أقل لك : هذا الدّرس هو درس واقعي عملي فإختبر نفسك فيه أمّا تحبيره بالقلم واللّجاج به لسانا فهو أيسر من اليسر
العبرة الخامسة : 
حكمة أخرى على لسان يوسف
دعني أراجعك قولي أنّ هذا الكتاب هو كتاب قوانين النّهضة ونواميس النّكسة أي أنّه دليل حضاري للبشريّة وجواز سفر إلى مراقي التّقدم وليس هو كتاب إعتقاد وعبادة ومعاملة فحسب. عندما أدرك الأوّلون ذلك حلّقوا به عاليا وعندما جهل المتأخّرون ذلك سحقتهم جيوش الأعداء وهم يدعون ببلادة : «اللهم أهلك الظّالمين بالظّالمين وأخرجنا من بينهم سالمين». الحكمة التي إنبجست عنها شفاه يوسف هي : « إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ». قانون آخر يضاف إلى قوانين حوتها هذه القصّة وأخرى مبثوثة في هذا الكتاب. 
الحقيقة أن عنوان قصّة يوسف هو :  «إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . لا يدعك الله في حيرة من أمرك تبحث عن سرّ القصّة بل يذيل بها السّورة لتكون هديّته إليك. إعتلى يوسف مقعد الإحسان من بعد ما تجرع ألم التّقوى وألم الصّبر معا. أجل. هما ألمان متكافلان