نقاط على الحروف

بقلم
عبد الله البوعلاوي
حقيقة الهجرة
 لقد كان من توفيق الله تعالى أن وَفَّقَ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أن اختار حدث الهجرة ليكون تأريخا للمسلمين، رغم وجودِ مناسبات عديدة، كمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو يومِ نزول ملكِ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إحدى غزوات النبي عليه السلام، أو فتحِ مكة أو غيرها لتبقى أفواجُ المسلمين مهاجرةً إلى الله تعالى في كل وقت وحين بأن يعبدوه سبحانه ولا يشركوا به شيئا، وأن يقوموا بما أمرهُم به ويجتنبوا ما نهاهم عنه وذلك حقُّ الله عليهم. «فالهجرة الحقيقية أن تهاجر بقلبك إلى الله تعالى ورسوله، فتهاجر يقلبك من محبة غير الله إلى محبته، ومن العبودية لغيره إلى العبودية له، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوعِ له والذلِ والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذلِ له والاستكانةِ له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه»[1]  قال الله تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ»، فالهجرة مخالفةُ النفسِ مما تدعو إليه من الأهواء واتباعٍ لمرضاة الله، ولا يتحول عنها إلى أن يلقَى الله تعالى.
 إن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أنّه يأمره بالهجرة إليه ليحيا بأحكامه وأن يعيش في هدايته، ويجد أن الهجرة إلى الله تنبني على تزكية النفس والتضحية بالغالي والنفيس، وتتطلب القوةَ في الإيمان بالله والمحبة لرسوله، وتتطلبُ الصبرَ في إبلاغ رسالته. 
لقد أعلن الناس هجرتهم إلى الله منذ أن  قالوا لا إله إلا الله محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركوا أموالهم وديارهم فرارا بدينهم، وبايعوا الله ورسوله على السمع والطاعة في المنشط والمكره وفي حال اليسر والعسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن فعل ذلك فهُوَ المهاجر إلى الله ورسوله، وأما من يحتفل بالهجرة وهو يخالف أحكام الله ورسوله ولا يرضاها وربما ينفق أمواله ليصد عن هدي الله ورسوله  فهذا وأمثاله  مهاجر إلى هوى نفسه والشيطان.
فلا قيمة لحياة الإنسان ووجوده ما لم يهاجر إلى الله تعالى ورسوله، يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا»[2]. فقد يدعي الإنسان أنه مؤمن، وقد يقوم بجميع الواجبات، وإذا ما تحدث عن الإسلام تجده يُعَظِّمُ من شأنه ومن قيمته، لكنه في الوقت نفسه يحارب أحكامَ الله بأفعاله،  ويصد عن الحق ويرتكب الموبقات، تراه سلبيا تُجاه الدين عديمَ الحركة إلى دعوة الله وإلى نصرة الله ورسوله والمؤمنين. إنه في حقيقة الأمر مهاجرٌ إلى هوى نفسه وإلى الشيطان وليس إلى الله ورسوله. إن هذا الدين عباد الله لا يُنصر بالمعجزة وإنما يُنصر بالدعوة إليه والتضحية والبذل والعطاء من أجله.
حين يرفُض الإنسان الحقَ ويستعصي عليه القيامَ به ويرُدُّ بعض أحكام الله تعالى، وينصر الظلم وأهله ويؤثر دنياه على آخرته ويوالي أعداء الله ويقوي شوكتهم ويُقَدِّمُ كلَ طاقاته العقلية والبدنية من أجلهم يبتغي الدنيا والمال على الآخرة، ويحارب الله ورسوله والمسلمين ويحارب بلده بعدم الوفاء بمسؤوليته ويستنزف خيراتِها ومقدراتِها وينهب أموالَها ويضرُّ بأهلها، فهل هذا مهاجرٌ إلى الله وأمثالُه ممن يسخر كل ذكائه لإضعاف دينه وبلده؟  إنه بلا شك لم يستوعب المقصود من الهجرة، لأن الهجرة استسلام لأمر الله تعالى في النبة والعمل.  
الهجرة إلى الله ورسوله تدبيرٌ وتخطيط وبذل وعطاء نحو دين الله وهدايته، الهجرة نقلة من الشك إلى اليقين، الهجرة معاداةٌ للباطل ونصرةٌ للحق، الهجرة انتقالٌ من الضَعف إلى القوة، الهجرة تعبير عن قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله، الهجرة عبوديةٌ وخضوعٌ وامتثالٌ لله ورسوله ومحاربةٌ للشيطان وأعوانِه، يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: «الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان، وأفضلُهما هجرةُ الإثم والعدوان؛ لما فيها من إرضاء الرحمن وإرغام النّفس والشّيطان». يقول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه [3]. وإذا كانت الهجرة قد أٌغلِقَت لقول  النبي عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح»[4] ، فإن هجرة المسلم إلى الله ورسوله في زمن الفتن والابتلاءات وحيرة المفاهيم وتقلبات التصورات حيث يُكذَّب الصادق ويُصدُّ الكاذب الخائن كجهرة إلى رسوله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عبادة في الهرج كهجرة إليّ»[5]. بل سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ»[6]. الهجرة هجرة إلى الله كما جاء على  لسان ابراهيم عليه السلام: «وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي»[7]، رغم وجود المُعَوقات. الهجرة الحقيقيّة إلى ما ينصّ عليه كتابُ الله وسنّةُ رسوله بالكمال والتّمامِّ وليس بما تهوى الأنفس. الهجرة نقلة من السّلبية إلى الفعاليّة بالدّعوة إلى الله وليست بالتّفرج على نقض عرى الإسلام. الهجرة شعور بالاعتزاز إلى الدّين والدفاع عنه «إن تنصروا الله ينصركم». الهجرة صبر على الالتزامِ بالحقّ والإصلاح في الأرض ودفعٌ للشّر والفساد. 
يقول الله تعالى: «وَمَن يخْرُجْ مْن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ»[8]. إنها دعوة إلى جنب الله تعالى وهدايته والأنسِ بجواره والتلذّذ بطاعته وعبادته، وهجرةِ كلِ ما يُشغِلُك عن ذكره وسؤاله من رذائل الأخلاق في النّفس والأعمال. إنّها هجرةٌ بمقدور كلِ إنسان في أن يعْزِم على هَجْرِ السّيئات، وهجرِ ما نهى الله عنه في النّية والقول والعمل، فيهجرُ الإنسانُ خطاياه ويتوب منها، فالهجرة تفك أسْرَ الأنفُسِ من هواها فتنطلقُ إلى بناء الحضارة الإنسانية، وتُعيدُ للإنسان إنسانيته وتُضَمَّدُ جراحاتِ الأمة وتدفعُ عنها آلامَها وتُكسِّر شوكة الأعداء، وَتُعيدُ لها مجدها وعزتها. فالأملُ والنصرُ محققٌ وممكنٌ في العودة إلى الدين والتّمسك به، فلقد أجمعت قبائلُ قريش لقتل النبي وأصحابه الذين هاجروا إلى الله وآمنوا برسوله بقلّة عددهم فحقّق اللهُ النصرَ على أيديهم وانتشر الإسلام.
ما أحوجنا إلى التفقّه في ديننا لنَعْلَمَ ما يلزمُنا منه لنرقى بأنفسنا وأمّتنا وبلدنا إلى ما يحبّه الله ويرضاه، فالقوّة في قرآننا وفي سنّة نبينا، قال النّبي صلّى الله عليه وسلم: «ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ اللّيل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدر و لا وبر إلاّ أدخله الله هذا الدّين بعزّ عزيز أو بذُل ذليل، عِزّا يُعزّ الله به الإسلام وذُلاّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر. فكن ممّن يشارك في دعوة الله ونصرة الدّين تَفُز بالعزّ والخير والتّمكين ولا تكن ممّن قال فيهم الله: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم» [9] ، فتكون من أهل الذّلة والصغار.
الهوامش
[1] الرسالة التبوكية لابن القيم الجوزية ص: 16
[2] سورة الأنفال الآية 72
[3] متفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
[4] متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس
[5]  مسلم والترمذي عن معقل  بن يسار
[6]  رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني
[7]  سورة العنكبوت الآية 26
[8]  سورة النساء الآية 100
[9]  سورة محمد الآية 38