قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة يوسف عليه السلام(2) (يوسف في إمتحان الرّق والعبودية)
 أنجى الله يوسف بتدبير ذكي من أخيه الشّقيق الذي علّمنا به القرآن الكريم أن تحمّل الضّرر الأدنى لا بدّ منه لدفع الضّرر الأكبر وأنّ للزّمن كفلا مكفولا من ثمن النّهضة. ولو أمسك هذا الرّجل الوحيد المستضعف رأيه نائيا بنفسه لقتل يوسف. الآن جبّ آخر جديد من بعد جبّ الإخوة الحسدة. هو جبّ الرّق إذ جاءت قافلة يطلب واردها الماء من الجبّ الذي فيه هذا الطفل الصغير. صاح الوارد فرحا بصيد ثمين، فهو بشر لطيف ظريف يبحث له عن مكان في البضاعة التي تجوب الأرض يومها بين فلسطين ومصر حيث بيع فيها يوسف عبدا بثمن بخس غير مأسوف عليه وأبت أقدار المدبّر الأعظم سبحانه إلاّ أن يكون المشتري سيّد مصر الذي دفع بعبده إلى إمرأته. عبيد صغير بثمن بخس يمكن أن يكون ولدا أو رقيقا ساعيا في حاجة سيّدته. 
ظلّ يوسف في قصر الحكم يطلع على شؤون الناس ومشكلات البلاد من النّافذة الصّحيحة ويتربّى بمثل ما سيتربّى أخوه من بعده موسى عليه السّلام : عيش رغيد ومعرفة ضافية وحياة كريمة. بلغ أشدّه وبدت عليه ملامح الوسامة ومظاهر الجمال خلقا وخلقا فأغريت به سيدته إغراء جنسيّا وظلّ يقاوم دون الفحشاء والسّوء بلسانه واعظا حتّى واتته فرصة إفلات فلم يفلتها، ولكنّ الثّورة الجنسيّة في سيّدته كانت على أشدّها حتى إنّها أمسكت بتلابيب قميصه إمّا لترغمه على وطرها أو لتحول دونه ودون الإعلام بذلك. وفي تلك الآونة ذاتها فتح الملك باب بيته ليكون شاهدا على جانب من المشهد ويستمع إلى روايتين متناقضتين يحكّم فيهما رجل من أهل النّظر من آل الملكة ويأتي القميص مرّة أخرى شاهدا على براءة يوسف وذنب سيّدته. وهو القيمص الذي لم تتخلّف شهادته على براءة الذّئب. ذلك القميص الذي يلازم يوسف شاهدا له لا عليه حتّى عندما يراد له أن يكون شاهدا عليه.
العبرة الأولى : معايير الأرض خطّاءة وليس عليها التّعويل
بيننا وبين هذه الأحداث اليوم ما لا يقلّ عن ثلاثين قرنا أي ثلاثة آلاف عام أي عشرة أضعاف المدّة التي قضّاها أصحاب الكهف في الكهف فكانت كافية لتحوّل المجتمع الذي هجروه خوفا عليه من صدام داخلي مدمّر وعلى دينهم وأنفسهم إلى مجتمع يختار أطلالهم مسجدا. هل كانت هذه المدّة الساحقة العريقة كافية ليكفّ النّاس في عصور العلم والمعرفة و«غزو الفضاء» بالتّعبير الغربي المادّي عن بيع البشر والإتّجار بهم وبأعضائهم رقيقا؟ أبدا. بل إنّنا انحدرنا إلى ما هو أسوأ، إذ أنّنا اليوم نبقر البطون لبيع ما فيها من أجهزة بشريّة في حين أنّ أسلافنا الذين نعيّرهم بالرّق يحفظون العبيد أحياء سالمين ليبيعوهم أحياء سالمين. أيّ الجاهليات أضرّ بالإنسان؟
هذا الطفل الصّغير الذي تتقاذفه الأجباب من بئر عميقة إلى رقيق يباع في أرض أخرى بعيدة ثمّ يراد له أن يكون فاحشا صاحب سوء. لو نظر المرء إلى المشاهد الأولى من حياته لما خطر بباله أنّه سيكون يوما نبيّا ووزيرا موقرا يدير الإقتصاد التّجاري في منطقة الشّرق الأوسط كلّها بحكمة وعدل. لم يكن له في الأرض أيّ قيمة وقد حيل بينه وبين أبيه وأرض طفولته. معايير النّاس في الأرض خطّاءة لا تعويل عليها ولا بد من إكتمال المشهد كلّه حتى يكون الحكم صحيحا.
العبرة الثانية : الغريزة الجنسية والتديّن المغشوش
يظن بعض المتديّنين أنّ الحديث عن الغريزة الجنسيّة ليس له سبب بالدّين متين. مقام المشيخة لا يناسب الحديث عنها. لا يساورني ريب في أنّ أغذيتنا القيمية ليس مصدرها الدّين المعصوم من الكتاب والسّنة إلّا قليلا، أمّا الكثرة الغالبة فمصدرها العادات والتّقاليد والأعراف وما ألفه النّاس. كما لا يساورني ريب في أنّ أعتى سجن يمكن أن يدخله الإنسان راضيا مرضيّا لا يبغي عنه حولا إنّما هو سجن الإلف والعادة ولذلك كانت المعركة الأولى في مكّة بين الوحي وبين المشركين معركة حول إرث الآباء وليس حول الفكرة نفسها، ولذلك السّبب ذاته لم يتمكّن من التحرّر من ذلك السّجن الخفيّ عدا عشرات قليلات من النّاس على إمتداد عقد كامل وأزيد. الذين نجحوا في تأطير كثير من الدّين ضمن أطره النّفسية والإجتماعيّة والعمرانية والحضارية الصّحيحة هم الذين تحرّروا من سجون الإلف وأحباس العادة، أمّا التّدين التّقليدي ـ والسّلفي المشوّه له صنو ـ فحسبه اعتبار الدّين قهرا نزل من السّماء عقوبة لا مناص من تحمّلها، وشتّان بين تديّن يتحرّر به صاحبه وتديّن يزيد صاحبه ذلاّ وهوانا. بأثر من ذلك التّفكير التّقليدي الذي تنسجه الأعراف لا تكاد تلفى «مفسرا» واحدا يقدّم على نسبة الهمّ الجنسي ليوسف حتّى لو كان بعضهم يرى ذلك. الغالب على النّاس هو خوفهم من بعضهم بعضا سيّما في الدّائرة الدّينية وليس يغلب عليهم خوفهم من السّلطان وسيفه إلاّ قليلا. إنبساط السّلطان الدّيني إجتماعيّا سلاح ذو حدين فهو نافع في إتجاه وضارّ في إتجاه آخر. عندما أخبرنا سبحانه أنّ يوسف همّ بالمرأة بمثل ما همّت به بالصّناعة اللّسانيّة نفسها وبما يحمله الهمّ الجنسي عندها فإنّه يريد أن يحقننا بحقنة الواقعيّة الإسلاميّة تناسبا مع إتجاهه الوسطيّ المعتدل المتوازن. الذين يريدون تبرئة يوسف من ذلك الهمّ يخيّل إليهم أنّ معنى الهمّ هو المباشرة وليس مجرد الهمّ. الذين يريدون تبرئته من ذلك الهمّ الذي أثبته له ربّه ـ وبعضهم لا يكون وفيّا عقديّا لمنزع الإثبات في صفات الله سبحانه فهو يثبت هناك و يمحو هنا ـ إنّما يلتقون مع بني إسرائيل الذين وصموا نبيّهم موسى عليه السّلام بأنّه أدرأ أي به عاهة جنسيّة وهو مناسبة نزول قوله سبحانه : «لا تكونوا كالذين آذوا موسى».هل هناك في الدّنيا بشر واحد لا يهمّ بإمرأة؟ ما معنى أنّه سبحانه يعدنا بمغفرة الهمّ في الحديث الصّحيح : «من همّ بسيئة فلم يعملها ..» إلى آخر الحديث المعروف؟ أليس مهمّة البيان التّمييز بين مساحات الدّلالة، فليس الهمّ فعلا ولكنّه خاطر لا بدّ منه وإلاّ لما تحرّكت شهوة جنسيّة ولما تنفّذت إرادة الله سبحانه في الأرض وفي الإنسان؟ هل نحن محاسبون على الهمّ؟ أبدا. ودليلي قوله لمن يعلم مناسبة النّزول في آخر أيات البقرة ولكن يضيق المجال هنا عن الإنبساط فيها.
العبرة الثالثة : لسانك سيفك فلا تغمده أن تؤاخذ بغير جرم
يوسف العبد وهو بين سيّده وسيّدته في مشهد مفاجئ وقميصه مقدود، لم يتأخر عن الإنتصار لنفسه بكلمة واحدة شديدة الأدب، شديدة الإختصار : «هي راودتني عن نفسي». كلّ الظّروف المحيطة كانت تعلن الصّمت وتفرض السّكوت. من يصدّق عبدا يكذّب سيّدته وجها لوجه وفي حضرة الرّجل الذي يتقمّص قميصي الملك والزّوجية؟ لا يحتاج المظلوم ـ فردا أو شعبا بأسره ـ إلى حمل السّلاح دفاعا عن نفسه عندما يكون لسانه كافيا وزيادة وربّ كلمة أسّست للعدل وربّ سيف حفر للجور خدودا غائرة. لم يتأخر عن النّباهة والفطنة وسرعة البديهة وإستخدام لسانه وليس له سلاح غيره ولكن بكلمات قصيرات مؤدّبات. درس بليغ ينتفع به المظلوم عندما يكون في حالات مشابهة بل تنتفع به الشّعوب التي لا تفرط في حقوقها وحرماتها وكراماتها وربّ حقّ يضيع بأثر من إستدراج المحقوق لصاحب الحقّ إلى سوء إستخدام الوسيلة المناسبة، فينقلب من صاحب حقّ إلى مجرم.
العبرة الرابعة : 
القضاء العادل دعامة الدّولة وكفالة التّقدم
ليس من مصلحة القصر أن تنشر هذه القضية بعيدا عنه ليعلم بها الناس وتكون أحاديث الرّكبان ولذلك أحيلت إلى جهاز قضائي داخلي وهو جهاز جامع بين القوّة والأمانة، إذ إعتمد القرينة وهي القميص هنا، فأصدر حكمه بناء عليها وليس بناء على قرابته من الملكة وقال قولته : «إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت» .. بدأ بإفتراض صدقها جبرا لخاطرها وسعيا لترميم ملك ربّما تكون هذه الحادثة به عاصفة. القرينة واضحة جليّة وعليها عمدة القضاء وكان القميص مقدودا من دبره ولا يمكن لرجل أن يقدّ قيمصه من دبر حتّى يباشر إمرأة ولو قدّ من قبل لكان ذلك قرينة على جريمة يوسف. قدّ القميص من دبر يعني أنّ الرّجل في حالة هرب وإفلات. درس يعلّمنا أن القضاء العادل شرط من شروط التّحضر والرّقي والنّهضة ومن عدل القضاء تقديمه للقرائن لا للقرابات.
العبرة الخامسة : التّدين في النّفس الإنسانيّة أصيل ولكن المعالجات تفسد
ألا تستعجب معي في أطوار هذه المرأة التي همّت بعبدها ثم حولت همّها إلى محاولة إرغام على المباشرة الجنسيّة حتى قدّت قميصه قدّا غائرا أصبح قرينة لقضاء عادل، ولما إفتضح أمرها سوّلت لها نفسها الكذب فكذبت وخانها كذبها ولما شاع الخبر خارج الدّائرة الملكيّة طوّعت كيدها لتبرئة نفسها معترفة بذنبها؟ ألا ترى معي أنّ المرأة المطعونة في كبريائها لا تبالي أن تقتحم جبال الإعتراف وما أعسرها من جبال؟ خانها كذبها إذ  قدّمت السّجن على العذاب ولو كانت لا تحبّه أو كانت غير متورّطة في محاولة المراودة لما سبق  الأدنى منها الأكبر، أي لما سبق السّجن العذاب. ألا ترى أنّ السّجن هنا مقابل للجبّ هناك؟ يوسف ترعاه عين الله التي سترعى موسى من بعده، فمع مكر إخوته حسدا يقيض له أخا يدير المعركة على أساس أدنى المفاسد ومع مكر سيدته يقيضها له ليكون سجنه بدلا عن تعذيبه. هذه المرأة التي نراها زانية فاسدة عاهرة نكيل لها السّوء كلّه هي إمرأة توّابة رجّاعة ثوّابة أوّابة وسيظهر ذلك أكثر في جولة أخرى. نحن نحكم على العهر الجنسي بأشدّ من حكمنا على العهر الفكري وما ذلك سوى لبضاعتنا المزجاة في علم الحياة وفقه المعالجات أي إضطراب سلّم الأولويّات وغلبة الجانب المظهري علينا وعدم سبر الأغوار.