بالمناسبة

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
نظرة الغرب للحج
 تمهيد لابدّ منه
يقول القاضي عبدالجبار بن أحمد (969 م - 1025 م) «إن النّصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما، ولكن تروّمت المسيحيّة»[1]، أي أنّه تمّ تسيس الفكرة الرّوحية للمسيحيّة ممّا أفسدها فسادا عظيما حتّى قال نيتشة «إنّ آخر مسيحي مات على الصليب»، وهو يقصد المسيح عليه السّلام، وقد أدّى ذلك إلى خروج الغرب عن سلطان الكنيسة وابتدأ مساره العلماني اللاّديني مع الثورة الفرنسيّة التي كان من شعاراتها «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس». وبدأ الغرب يؤسّس دولته الحديثة على المادّية المجرّدة والمتمثّلة في مبدأ عبادة القوّة وقد صنعوا له امتدادات ميتافيزيقيّة من خلال تطبيق مبدأ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في المراقبة والمعاقبة، ببث سلطات لا يمكن الاستدلال عليها ماديًا أوحتى معنويًا، فصارت كالأيدي الخفيّة تحكم وتقنن وتشرّع وتثيب وتعاقب. تطورت الدّولة الحديثة في نهاية المطاف إلى «الدّولة التّنين» أو «الدّولة الإله» كما يقول المسيري رحمه الله، وفيها تحلّ الدّولة عبر بسط سيطرتها بالقوّة محلّ الدّين الذي يدوره يبسط سيطرته في النفوس بالحبّ. ومن هنا كان حتما إنتاج المواطن الصّالح وليس العبد الصّالح والفارق كبير، ففي حالة المواطن على الآباء أن ينتجوا الأبناء وعلى الدولة تربيتهم (راجع المدينة الفاضلة لأفلاطون) وفق المذهب البشري الذي تتخذه الدّولة دستورا ولذلك قيل إنّ الفلسفة الغربيّة الحديثة ماهي إلاّ حواشي على كلام أفلاطون والتي عرف من خلال مخطوطاته التي جمعت بين الفلسفة والشعر والفنّ أو أنّها حاشية على قصيدة بارمنيدس (أستاذ أفلاطون) في الوجود، أمّا في الثّانية فالأب والأم والعائلة والمعبد والمجتمع هم من يربّون أولادهم وفق المعتقد الدّيني والقانون الرّباني.. من هذه الزاوية فالنّظام الغربي متأهب جدّا ضدّ أي شئ داخلي أو خارجي يهدّد مفهوم أو كيان الدّولة وخصوصا إذا كانت له جذور غيبية «ميتافيزيقية»، وفي نفس الوقت يترك أمر الدّين إجمالا للحرّية الفرديّة فلا يراقب أحدا في عبادته ولكنّه يراقب بشكل مستمر العبادات الجماعيّة كالصّلاة ويبيح لنفسه أن يتنصّت على هواتف أئمّة المساجد ومتابعة رسائلهم ويرى هذا من صميم حقّ السّلطة خوفا من تحرّك الحشود وخروجها عن إطار نظريّة المواطن الصّالح. من هنا نستطيع تفسير مقولات أحد السّاسة الغربييّن التي تكشف ما يدور داخل أدمغتهم عن فريضة الحج «ويل للمسلمين إذا لم يعرفوا معنى الحجّ، وويل لأعداء الإسلام إذا أدرك المسلمون معنى الحجّ». ونستطيع فهم مدى التوتر والارتباك الذي يثيره الحج كعبادة جماعيّة في كتابات المستشرقين والمنصرين فهم يعلمون علم اليقين بأن الحجّ عبادة مخيفة للغرب وخطيرة على كيانه لو أسقطت على الواقع، ومقولة أحد المنصرين المستشرقين عن جدوى التّنصير في بلاد الإسلام تكشف ذلك «سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطّم عليها سفن التّنصير والنّصرانية ما دام للإسلام هذه الدّعائم من القرآن واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحجّ السّنوي» إنّه الهاجس من تأثير العبادات الجماعيّة على الجمهور بالإيجابيّة ناحية الدّين وبالسّلبية تجاه تأليه الدّولة.
الحفاظ على الكيان بهدم الآخر
في الوقت الذي يحرص فيه الغربيون على الحفاظ على وحدة دولهم وبناء التكتلات [2] نجدهم جاهدين منذ القدم في تفكيك التكتلات الإسلاميّة وآخرها الدولة العثمانية التي تمّ تفكيكها عبر «سايكس بيكو» أسوأ اتفاقية في التاريخ الحديث، وتأتي فريضة الحجّ لتكون جرس إنذارسنوي عالمي يحيي في نفوس المسلمين آمال الوحدة ومعلنا أن الأمة المفتتة ليست أمّة ميتة. يغرس الحجّ في الأمة فكرة مفادها أن اتفاق الملايين القادمة من كل فج عميق في المظهر والحركة والغاية لابدّ وأن يؤدي إلى الوحدة في الواقع. تطبيق عملي لوحدة الاعتقاد يأبي مبدأ التقسيم القطري الذي يحارب من أجله الغرب لتبقي دولنا مفتتة ويؤكّد أنّ الدّين له أعظم الأثر في النفوس من القيم التي يسعى الغرب إلى ترسيخها كالمواطنة والقومية والقبلية والعرقية، مع أن الدين لا ينافيها ابتداء بل جاء ليهذبها. ويؤكد كلام المستشرق الأمريكي لوثروب ستودارد هذه النزعة الغربية إذ قال: «لم أكن أظنّ أن فريضة الحجّ تحتل في الضمير الأوروبي هذا الهاجس المفزع، وهذا الكابوس المخيف، إلا عندما قرأت رأي بعض حكمائهم في هذه الفريضة عندما كان يحذر قومه، وبني عقيدته من عوامل القوّة في دين الإسلام، ويتباحث معهم في اقتراح الأساليب الناجحة للقضاء على تلك العوامل، وفي الواقع ليس من دين في الدّنيا جامع لأبنائه بعضهم مع بعض، موحّد لشعورهم، دافع بهم نحو الجامعة العامّة، والاستمساك بعروتها كدين الإسلام. وعلى اختلاف أجناس المسلمين واتساع آفاق بلادهم، لم نسمع قطّ أنّ شعباً قليلاً أو كثيراً اعتنق الإسلام ديناً ثم ارتدَّ عنه (...) إن الوحدة الإسلامية قائمة على ركنين هما أساساها ولا ثالث لهما: الحج إلى بيت الله الحرام، والخلافة» [3].
لم يكن هذا الحشد العظيم ليغيب عن صانعي القرار السّياسي في الغرب، فهاجس الوحدة العظمى للمسلمين كابوس مؤلم يقضّ مضاجعهم فقاموا بإرسال مستشرقيهم لدراسة هذه العبادة وأثرها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثمّ اقتراح الخطط المناسبة لإعاقة مثل هذه التجمعات الدّاعية للوحدة. ومن هؤلاء نذكر المستشرق الهولندي «سنوك» الذي سافر إلى مكّة وأعدّ رسالة للدكتوراه عن الحجّ، وعلى أساسها وضعت هولندا استراتيجيتها في جنوب شرق آسيا، لاسيما ما يخصّ سيطرتها الاستعمارية على إندونيسيا وما حولها. لقد اتبع المستعمر حرباً نفسيّة للحدّ من إقبال النّاس على الحجّ، فعمد إلى تخويفهم من الأمراض عبر بثّ الشّائعات عن انتشارها في مكّة، وتخويفهم من خطورة الطريق إلى الحجّ، بل وتشجيع القرصنة وقطع الطريق على الحجّاج، ممّا دفع البعض إلى الإفتاء بتوقّف الفريضة، بسبب الأضرار التي يصاب بها الحجّاج، حتّى إنها توقفت بالفعل في بعض المناطق.
أمثلة من زيارات الغربيين إلى مكة
قبل سقوط الأندلس بقليل واكتشاف أميركا كان الأوروبيّون يسيحون في الأرض وخصوصا في أرض المسلمين يصوّرون كلّ شئ ويكتبون عن كلّ شئ، يطبعون كلّ شئ في هذه البلاد وكان هذا كلّه هو الزّاد لفكرة التوسّع الأوروبي الاستعماري وكان لابدّ وأن يتعرّفوا على مكّة المكرّمة. وصل إلى مكة المكرمة «جون كابوت» عام 1480م وبعده بقليل في عام 1503م دخل الإيطالي «لودفيجودي فارتيما» مكة بوصفه جندياً في حرس المماليك، وانتحل اسم «يونس المصري». ووصف «فارتيما» أن مكّة لم تكن مسوّرة، لأن أسوارها هي الجبال الطبيعية التي تحيط بها، ولها أربعة مداخل، ويقول عن كثرة الحجّاج إنّه لم يجد مطلقاً، من قبل، مثل هذا العدد من النّاس يجتمع في بقعة واحدة من الأرض، يؤدون نفس المناسك في سكون عجيب وتراحم مذهل. وفي عام 1680م حضر الشاب الإنجليزي «جوزيف بيتس» موسم الحجّ ووصف في مذكراته صعود الحجّاج على جبل عرفات بأنّه مشهد «يخلِبُ اللُّبّ حقاً أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرّد من ملذّات الدّنيا برؤوسهم العارية وقد بلّلت الدّموع وَجَناتهم، وأن تسمع تضرُّعاتهم طالبين الغفران والصّفح لبدء حياة جديدة». وتحدث «بيتس» عن مقابلته لأحد الإيرلنديين الذي اعتنق الإسلام ورفض الارتداد عنه رغم الـمُغرِيات التي وُضعت أمامه قائلا: «إن الله قد منّ عليّ بالإسلام والجنّة بدلاً من جهنّم أوروبا». 
وفي عام 1807م وصل الأسباني «دومنجكو باديا ليبليج» إلى الحجاز وانتحل اسماً ونسباً عربياً (علي بك العبّاسي). وقد تضاربت الآراء في حقيقة هذا الرّجل، فمنهم من قال إنّه كان عميلاً للفرنسيّين أو البرتغاليّين أو الإنجليز، ومنهم من قال إنّه من أحفاد المسلمين الذين نجَوا بدينهم من التعصُّب النّصراني الأعمى، ومن محاكم التّفتيش في إسبانيا. وقد كتب في مذكراته: «إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكوِّن فكرة عن ذلك المنظر المهيب الذي يبدو في مناسك الحجِّ بصورة عامَّة إلا بعد الوقوف على جبل عرفات؛ فهناك حشد من الرجال الذين لا يُحصى لهم عدد، وهم من جميع الأمم، ومن جميع الألوان، وقد أتَوْا من أركان المعمورة على الرغْم من المخاطر والأهوال لعبادة الله، فالقفقاسي يمد يده للحبشي أو الإفريقي أو الهندي أو العجمي، ويشعر بشعور الأخوة مع الرجال من البرابرة من سواحل مراكش، وكلهم يعُدُّون أنفسهم إخواناً أو أعضاء في أسرة واحدة».
وفي عام 1814م قام السويسري «جون لويس بيركهارت» وهو من أشهر رحالة القرن التاسع عشربزيارة إلى الحجّ، متخفّياً تحت اسم مستعار وهو (الشيخ إبراهيم)، ووصل الى جدّة وسار منها إلى الطّائف لمقابلة الخديوي محمد علي باشا، ثم قصد مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ. وفي عام 1853م، وصل البريطاني «السير ريتشارد فرنسيس بيرتون» متنكراً باسم (الحاج عبداللّه) إلى المدينة المنورة ليعدّ هو الآخر أحد أبرز الرحّالة الأوروبيين الذين قدموا الى الشرق ودرسوا عادات أهله وثقافتهم، وفي طريقه كان «بيرتون» يعمل على إتقان دوره كمسلم في تفاصيل الحياة اليومية، منتحلاً شخصيات مختلفة، وكتب بانبهار عن تشكيلات خدم الحرم النّبوي في المدينة المنوّرة، وقال عن مكّة المكرّمة حينما وصلها لأوّل مرّة إنّه على الرّغم من أنّه لم يجد فيها ذلك الجمال الرّشيق المتناسق الذي يتجلّى في آثار اليونان وإيطاليا، ولا الفخامة المعروفة في أبنية الهند، إلاّ أنّه «لم ير مثل هذه المهابة في أي مكان آخر». أما الفنان التّصويري «جيل جرفيه كورتلمون» فقد ذهب إلي مكة في عام 1894م تحت اسم مستعار هو (عبد الله بن البشير)، في مهمّة تمّ تكليفه بها من قِبَل الحكومة الفرنسية، وتتعلق بدراسة الأثر الرّوحي الذي يُحدثه الحج في نفوس الحجّاج المغاربة القادمين من مناطق السّيطرة الفرنسيّة .يقول في كتابه «رحلتي إلى مكّة» واصفاً صلاة المغرب بالحرم «عشرون ألف مؤمن يتراصّون في صفوف منتظمة، يقفون في ثبات وسكون: «بسم الله...» فعمّ الحرم الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالإيمان في صمت، «الله أكبر...» فيردّ الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: «الله أكبر». 
وكتب «جرمانوس» وهو أحد مستشرقي الحداثة بعد زيارته الأماكن المقدسة في مكة والمدينة عام 1935م «إنّي وأنا الرّجل الأوروبّي الذي لم يجد في بيته إلاّ عبادة الذّهب والقوّة والسّطوة الميكانيكيّة تأثّرت أعمق التأثّر ببساطة الإسلام وعظمة سيطرته على نفوس معتنقيه. إنّ الشّرق الإسلامي سيبقى مستوليا على لبي بروحانيته ومثله العالية، والإسلام حافظ دائماً على مبادئه الدّاعية إلى الحرّية والإخاء والمساواة بين أبناء الجنس البشري.» وممّا كتب أيضا «وقد سما الإسلام بالأفراد من وحدة الحيوانيّة إلى آفاق إنسانية فسيحة وأنّي لأؤمل بل أتوقّع أن يكون الإسلام قادرا مرّة أخرى على تحقيق هذه المعجزة في الوقت الذي تحيط بنا فيه ظلمات كثيفة». أما «مالكولم إكس» المناضل ضدّ العنصرية، فقد كتب إلى زوجته بعد زيارة الأراضي المقدسة في عام 1964 م قائلا: « أثناء رحلاتي في العالم الإسلامي التقيت وتحدثت بل وأكلت مع أناس كانوا سيعتبرون «بيضاً» في أميركا. ولكن دين الإسلام في قلوبهم أزال «البياض بمعني العنصرية» من عقولهم، فراحوا يمارسون أخوّة حقيقية وصادقة مع النّاس الآخرين أياً يكن لونهم. إنّ الإسلام الحقيقي يزيل العنصريّة لأنّ النّاس من شتّى الألوان والأعراق الذين قبلوا مبادئه الدينية ويعبدون إلها واحدا هو الله عزّ وجل، يقبلون أيضاً وتلقائياً واحدهم الآخر بوصفهم إخوة وأخوات بغض النّظر عن اختلافهم في المظهر. هذا هو الدّين الوحيد الذي يمحو مشكلة العرق من مجتمعها».
خاتمة 
هذا غيض من فيض، فقائمة الغربيين الذين زاروا مكّة المكرّمة مع نهايات القرن الخامس عشر الميلادي إلى الآن طويلة جدّا، وسواء أوصلوا ملاحظاتهم بشكل سليم أم مغلوط، بحيادية الباحث أم بتحريف الجواسيس، فإنّ ملاحظات هؤلاء شكّلت النّواة الحقيقيّة لدى الغرب للتّعرف على فريضة الحجّ والاستفادة من تلك الملاحظات في وضع خطط الهيمنة ومنع أي محاولة للوحدة الإسلاميّة. وعلى المسلمين جميعا الاستفادة   مما فعله هؤلاء المستشرقين من حيث مبدأ دراسة فريضة الحج لكن بطريقة معاكسة من حيث الهدف فكم نحن في حاجة ماسّة إلى دراسة عميقة لهذا الركن الأساسي في ديننا الحنيف دراسة تتجاوز الجانب الشعائري لتستخرج ما يكتنزه هذا الركن من طاقات ومقاصد كالوحدة والصبر والعمل الجادّ والمساواة والاستفادة من التنوع الكبير في أعراق المسلمين لتحقيق البعد العالمي والانساني لهذا الدّين.
 الهوامش
[1]عبد الغني عبود، «المسلمون وتحديات العصر» الكتاب (15) من سلسلة الإسلام وتحديات العصر ـ ط1 ـ القاهرة ـ دار الفكر ـ 1985م، ص 189..
[2] الاتحاد الأوروبي كمثال ومن قبله توحيد قارة أمريكا الشّمالية في دولة واحدة تقريبا 
[3]  لوثروب ستودارد «حاضر العالم الإسلامي»  ترجمة عجاج نويهض.