تأملات

بقلم
عادل دمّق
الإنفاق باب التحرّر الحقيقي وبرهان التديّن الخالص.
 مقدمة 
ينشد هذا البحث بيان أهميّة الإنفاق في الإسلام اعتمادا على آية الكرسي وسورة الماعون..
بلَغَ عددُ المرَّات التي جاء فيها ذكر كلمة الإنفاق واشتقاقاتها اللّغوية في القرآن الكريم بِضعاً وسبعين مرّة، وذلك في مواضـع متعدّدة من أوّل وأوسط وآخر القـرآن الكريم، ولو أخذنا على سبيل المثال أطولَ سورةٍ في القرآن الكريم وهي سـورة البقرة، فسنجد أنَّ موضوع الإنفاق من أطول موضوعات السّورة بعد موضوع «بني إسرائيل»، وقد جاءتْ آياتُ الإنفاقِ مجتمعةً في آخِر السّورة من الآية 261 إلى الآية 274، وَتُمثِّل ثُمُنَ الجزءِ عدا الآيات المتفرِّقة في السّورة في الإنفاق، أو الزّكاة أو الصّدقة، فإنّهما من فروع الإنفاق، وكثرة هذه الآيات في هذا الموضوع دليلٌ على أهميتِه والتّأكيدِ عليه . 
أوّلا: الإنفاق من براهين التديّن الخالص
 جاءت سورة الماعون بعد سورة قريش التي تأمر بالعبادة شكرا لله على نعمه: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».تبيّن سورة الماعون العبادة الخالصة المناقضة لعبادة المكذّبين..
أرأيت أنّ التّكذيب في الغالب يكون في القلب، وقد يكون باللّسان ولكنّ الله سبحانه وتعالى هنا يعجب من حال هؤلاء، ويقول للمخاطب: (أرأيت الذي)، يعني: هل تريد أن تعرف ما هي صفات وسمات وملامح وعلامات الذي يكذّب بالدّين؟ وهذا في الحقيقة يعطي السورة بعداً عظيماً ضخماً؛ لأنّ المقام مقام ذكر علامات وأحوال ورسوم الذّي يكذّب بالدّين كيف تعرفه؟ قال الله تعالى: « فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ»  جاء بذلك إشارة إليه، والإشارة إليه تستحضره كأنّه موجود يشار إليه بالبنان أنّ الذي يكذّب بالدّين هو ذلك..
 استفهام يكسّر أفق توقّع السّامعين الخافت والارتقاء به الى مدارات البيّنة والبصيرة :المكذب بالدين هنا ليس من يكفر ويعرض ويعلن رفع شعار « مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ» [1]....المكذّب المعني هنا له اعتقاد وصلاة ولكنّه مفلس... المكذّب بالدّين هو الذي لا أثر لتديّنه في سلوكه..
يقول الإمام ابن عاشور:«لا علاقة لهذه الآية بأحكام السّهو في الصّلاة. وقوله «الذين هم عن صلاتهم ساهون» يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدّون الصّلاة إلاّ رياء فإذا خلوا تركوا الصّلاة . ويجوز أن يكون معناه : الذين يصلّون دون نيّة وإخلاص فهم في حالة الصّلاة بمنزلة السّاهي عما يفعل» [2].
ويروي أبو هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». [3]
وانظر إلى قول الله سبحانه وتعالى: «ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» [4]  وقوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [5]
إلا ليعبدوا الله = حبب إليكم الإيمان ..//مخلصين له الدّين = زينه في قلوبكم ..
حنفاء = كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان..//وذلك دين القيمة =أولئك هم الرّاشدون...
يجب التّذكير : بقوله تعالى:«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» [6] وقوله:«الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون» [7]  
يجب الحذر: بتدبّر الآية الكريمة:«وكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ*وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» [8]
آية كان الغزالي يرددها كثيرا:«وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» [9]
ومن طريف الخطاب القرآني التّعبير عن الأجر والثّواب بالتّجارة لما للتّجارة من هوى مستكن بالطبع:«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» [10] وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» [11] 
فالله سبحانه وتعالى غنيّ عن عبادتنا وإنفاقنا وإخلاصنا، وإنّما الأمر يتعلّق بوعينا وتبصّرنا وهدايتنا (حريّتنا).
ثانيا : الانفاق والتحرر الحقيقي
آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، يجلّها المسلمون ويتبرّكون بتلاوتها وكتابتها...وتتجلّى قيمتها أكثر حين نتأمّل موقعها في السّياق :جاءت بعد دعوة للإنفاق فموقعها يدلّ على أهمّية الإنفاق. وذكر اسمين من أسمائه الحسنى ( الحي والقيوم ) إشارة إلى أنّ في الإنفاق حياة وقيما ..بعد آية الكرسي بشارة باهرة: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..».بشارة عامة أتت في سياق الأمر بالإنفاق إشارة الى أن الإنفاق يحرّر الفاني من ظلمات البخل والشّح..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (*) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (*) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (*)اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » [12]
نلاحظ أنّ الخطاب عامّ ولكنّه منطلق من سلوك محدّد يرسم سعيا في مجال الإنفاق. ولكن لماذا ذكر الله تعالى من أسمائه الحسنى «الحيّ» و«القيوم»؟
ذكر الحيّ لأنّ في الإستجابة لله حياة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»[13]وذكر القيوم لأنّ المال يقيم شؤون الإنسان: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا»[14] وقياما تعني «أنها تقويم عظيم لأحوال النّاس» [15].
الانفاق يحرّر الانسان من الهوى مدخل الشيطان الى النّفس البشرّية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ » [16].
ويتكرّر نفس النسق في سورتي الحديد والطلاق. ففي سورة الحديد نقرأ قوله تعالى : «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (*) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (*) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (*)» [17]
وفي سورة الطلاق نقرأ قوله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (*) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (*) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (*) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (*) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (*) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا» [18]
إنّ مداخل الشيطان أكثرها خفيّ (لا شعوري)، ففي سورة الهمزة بيان صريح لسلطان اللاّشعور على الإنسان: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ »[19]
يَحْسَبُ : «يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله» [20].فجمع المال يغذّي هوى الخلد....ذلك الباب الذي طرقه الشّيطان ليغرّ بأبينا آدم:«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ»[21] وقوله تعالى: «فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ»[22]
ولحجة الإسلام نصّ مثير جدير بالدّراسة والرّواج:«وفي الطّباع أمر عجيب وراء هذا وهو حبّ جمع الأموال وكنز الكنوز وادّخار الذّخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات..ويكاد يظنّ أنّ ذلك جهل فإنّه حبّ لما لا فائدة فيه لا في الدّنيا ولا في الآخرة.فنقول: نعم هذا الحبّ لا تنفكّ عنه القلوب. وله سببان : أحدهما: جليّ تدركه الكافّة والآخر خفيّ وهو أعظم السّببين ولكنّه أدّقهما وأخفاهما ....وذلك لاستمداده من عرق خفيّ في النّفس وطبيعة مستكنة في الطّبع لا يكاد يقف عليها إلاّ الغواصون.
فأمّا السّبب الأول: فهو دفع ألم الخوف، لأنّ الشّفيق بسوء الظّن مولع، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنّه طويل الأمل ويخطر بباله أنّ المال فيه كفايته ربّما يتلف فيحتاج إلى غيره...
وأما السّبب الثاني وهو الأقوى: لأنّه أمر رباني، به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه «ويسألونك عن الروح قل الرّوح من أمر ربّي» أو معنى كونه ربانيّاً أنّه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنّك قبل معرفة ذلك تعلم أنّ للقلب ميلاً إلى صفات بهيميّة كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعيّة كالقتل والضّرب والإيذاء؛ وإلى صفات شيطانيّة كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبيّة كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء
فإذن معنى الرّبوبية التّفرد بالوجود وهو الكمال. وكلّ إنسان فإنّه بطبعه محبّ لأن يكون هو المنفرد بالكمال، ولذلك قال بعض مشايخ الصّوفية: ما من إنسان إلاّ وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله «أنا ربّكم الأعلى» ولكنّه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال، فإنّ العبودية قهر على النّفس. والرّبوبية محبوبة بالطبع وذلك للنّسبة الرّبانية التي أومأ إليها قوله تعالى «قل الروح من أمر ربي» ولكن لمّا عجزت النّفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال، وإنّما الكمال بعد أن يسلم التّفرد بالوجود في الاستيلاء على كلّ الموجودات؛ فإنّ أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك إن تكون مستولياً عليه، فصار الاستيلاء على الكلّ محبوباً بالطّبع، لأنه نوع كمال»[23]
الخاتمة
 لا يمثل الإنفاق بابا من أبواب الإيمان والبرّ فقط وإنّما هو إعداد لتحرير النفس من أعراض الأهـواء الكامنة التي تمنعها من التزكيّة والإخلاص .