في الصميم

بقلم
عبدالنّبي العوني
السُّنن و العقل
 خلق الله الخلق وجعل فيهم السّنن والآيات...وجعلهم كمسارات وسياقات ودروب يسير فيها الخلق بانتظام ونظام...تتجلّى هذه السّنن والآيات كقوانين تحكم الخلق كلّه إن كان على المستوى الكوني (بمنظار كسمولوجي) أو على المستوى الجزيئي ( بمنظار تقنية الصغائر أو تقنية النانو)... 
المستوى الكوني العام هو عالم يحتوي على كمّ هائل من المخلوقات من كائنات حيّة وكائنات لاحيّة مترابطة فيما بينها بعدّة علاقات فيها الدائم وفيها المستجدّ وفق التغيّرات الكونيّة وهذه الكائنات في هذا المحدث الكوني أو الحيّز الكوني تؤثّر في بعضها تبادليّا...
خلق الله الإنسان ومنحه قدرة عقليّة تمكّنه من تعقّل الأشياء والعلاقات والأمكنة والأزمنة... وأعطاه متّسعا وقدرة على التّخزين والاسترجاع والتّحليل والتّأليف والتّصور مع مساحة واسعة من الخيال والتّجريد...جعل الله لهذا الإنسان العديد من الوسائط التي تمدّ عقله باحتياجاته الأساسيّة من المعرفة في ظلّ حركته المتناسقة مع حركة الكون وفي فضائها وتتمثّل هذه الوسائط في السمع والأبصار والأفئدة « قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ» (1)... 
وقبل أن يمنح الله هذا الإنسان حرّية التفاعل مع الكون وما فيه ومع كلّ ما يحيط به وما سيحيط به بعد ذلك في ظلّ حركته الدائمة المتطوّرة ( من أصغر جزيء فيه إلى أكبر جزء) داخل الكون المُوسَّع والمتحرّك زوّده وعلّمه ما لم يعلم بل علّمه الأسماء كلّها « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ »(2).«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(3). وهي تعتبر كقرص صلب يحتوي على برنامج معلوماتي أوّلي وأساسي دمج  في بنية العقل البشري من دونه لا يستطيع الإنسان تحقيق تعقّله الإنساني وقبوله الفطري بتحمّل الأمانة التي أبت السّماوات والأرض والجبال حملها « إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(4) ممّا يمكّنه مع الآليات والتقنيات العقليّة والذهنيّة والشعوريّة (تدخل فيها الحواس والأحاسيس بما فيها ملكة الفؤاد) من التفاعل ومواكبة الكون وما فيه ومسايرة حركته بما فيها (حركة كليّة وشاملة للكون وحركات متعدّدة ومتناسقة معه لمكوّنات الكون أجزاء وجزيئات)...
وحركة العقل حركة لا محدودة في الزمان والمكان من مساراتها سبر أغوار ومجاهل الكون ومكوّناته وتساعده للتعرّف على العلاقات الثابتة والمتجدّدة (بالنسبة للعقل الإنساني الذي يسير في عالم الشهادة)  المستودعة فيه (السنن الكونيّة)....وفضاء الحركة والتفاعل لهذا العقل فضاء تفاعلي وتراكمي بمقياس الإنسان الفرد وبمقياس الإنسان- الإنسانيّة جمعاء(مع الأخذ في الإعتبار التواصل التاريخي والجغرافي واللّغويّ...)
هذه الطاقات الجبارة الكامنة والمخزّنة لدى الإنسان الذي يكتسب مشروعيّة استغلالها وتوظيف تسخيرها من أجله على أساس الرقي والمكابدة والمجاهدة للوصول لأعلى المراتب التي يستكشف فيها ما خفي عنه من السنن والقوانين في ذاته وفي الكون الذي يحايثه بالتدريج والمراكمة....وبالقدر الذي تتعلّق همّته وإرادته في سنّة من السنن فإنّه من سنّة التسخير ينالها...وبالقدر الذي ينجح ويوفّق ويُراكِم الاستكشافات ويسير في دروب سبر الأغوار « قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(5)، ويكون انسجامه أكثر وتناسقه أعمق وأنجع في لحظته تلك مع ما استودعه الله في الكون من سنن وآيات ( وهذا يكون بمعيار فردي - يعود على الذات- وبمعيار حضاري يعود على جماعة وبمعيار عالمي - يعود على الإنسانيّة -) وكلّما تقدّم العقل البشري أكثر بمنهجيّة تتبّع السنن في منهجه واستطاع تحقيق انجازات في الكشف عن هذه السنن كلّما كان أقرب إلى الفهم والوعي بالفضاء الكوني العام وبالتالي أقرب للخضوع والتسليم لتوحيد الربوبيّة ولوحدانيّة الخالق التي تيسّر له متى ما أضاف لها الإيمان بالرسل، الخضوع والتسليم لتوحيد الألوهيّة.
ومن خلال فهم السّنن والآيات يسهل على الإنسان العاقل أن يعقل ذاته (جسد وروح وعقل) في رحاب من التّوحيد الخالص التي هي أوسع وأشمل من الكون، توحيد فاعل وديناميكي يعرج بالعقل الإنساني من مقامات التّيه والظّمأ «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(6). إلى مقام التبصـرة والإرتــواء والخشيــة واليقين... « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ*وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (7).
 وكلّما زاد العقل الإنساني من تعقّله للسّنن والآيات زادت معرفته لمقام الربوبيّة...وإذا ما أضاف إليها المعرفة بالآيات والآلاء في كتاب الله الخاتم، الكتاب المقروء والمحفوظ زادت المعرفة لديه بمقام الألوهيّة مع تهذيب تقني وداخلي وتطهير ذاتي (بمفعول الدّيناميكيّة والحركة الفعّالة لآيات الكتاب المكنون في النّقل من الحالــة المحاطــة بالحجـب إلى حالـــة الحريّة الواعية في ظلّ التوحيد الخالص من الشوائب والانحرافات والإنزياحات لعقل يمكن أن يسيح في الكسمولوجيا وهو غـــارق في العبـــادة والخضوع لنزوات ذاته أو لنزوات ذوات أخرى تشبهه...
الهوامش
(1) سورة الملك الآية 23
(2) سورة العلق الآية 1-5
(3) سورة البقرة الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 72
(5) سورة العنكبوت الآية 20
(6) سورة النور الآية 39
(7) سورة فاطر الآية 28