القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماوات والأرض
 نسعى فـــي هذا المقــال إلى محاولــة فهم الآيـــات 9, 10, 11 و 12 من سورة «فصلت» وخاصّة مسالة خلق السّماوات والأرض من خلال التّساؤل أوّلا عن المعاني اللّغوية التي تحيل إليها تلك الآيات في علاقة خاصّة بـ «الأرض» و«الرواسي» و«اليوم» و«السماء» و«السماوات» و«الدخان» من جهة وما يقوله العلم الحديث في كلّ ذلك من جهة أخرى. 
ومن أساسيّات المنهج الذي سنعتمده هو الانطلاق من فرضيّة المصدر الإلهي للنّص القرآني وهي فرضيّة لن تكون عائقا في التّعامل العقلي مع الآيات كما يبدو للوهلة الأولى، بل ستفتح أفاقا أرحب للتّعامل مع القرآن. ستبدو المسألة للكثيرين وكأنّها مفارقة، إذ كيف نتعامل عقليّا مع نصّ يعود افتراضا إلى مصدر غيبيّ. لكن الأمر أبسط من ذلك. فالذي سنلتزم به هو ما تلزمنا به المعاني الأصليّة في اللّغة العربيّة للكلمات المفاتيح التي ذكرناها. وهي معاني لا نخال أنّ قائلها تغيب عنه سبحانه. بل إنّ فرضيتنا تسمح بالقول بل تفرض علينا القول بأنّ الصّياغة اللّغوية للآيات المتعلّقة بالظّواهر التي سنتناولها لا يمكن أن تكون إلاّ قادرة على استيعاب كلّ ما يثبت من حقائق تتعلّق بالمواضيع مادّة الآيات الأربعة وهو ما سنضعه على المحكّ حتّى نتبيّن صدق الفرضيّة من عدمه بدون لي لعنق الآيات ولا جهل أو تحريف لآخر ما توصّل إليه العلم الحديث بعلاقة بمحتوى الآيات موضوع المقال. 
إنّ فرضيّة المصدر الإلهي تحرّرنا من تبنّي المنهج القائل بأنّ الفكر لا يمكن أن ينتج إلاّ ما تسمح به المعارف السّائدة وأنّ الأفق الذّهني تحدّده الأدوات النّظريّة والتّقنية المتوفّرة.
ونبدأ باستعراض الآيات التي سنتناول إشاراتها العلميّة بالبحث إذ يقول تعالى في سورة فصلت «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)»
ما اليوم؟
نبدأ بتناول كلمة «يوم» باعتبار أنّ الأحداث التي تمثّل موضوع الآيات الأربعة وقعت في الزّمن حتّى يتبيّن المعنى الممكن الذي تسمح به اللّغة طبعا ويحمله المصطلح القرآني في طيّاته. يقول العديد من مفسّري القرآن أنّ دلالة لفظ «اليوم» ليست بالضّرورة تلك التي تحيل إلى الفترة الزّمنية التي تفصل طلوع الشّمس عن مغيبها (لسان العرب) وهو المعنى الأصلي، بل يمكن أن تعني فترة زمنيّة أو مرحلة زمنيّة ما. ويدعّمون كلامهم بالقرآن نفسه حيث جاء مثلا في الآية 5 من سورة السّجدة أن اليوم له مقدار يختلف عن المقدار المعتاد «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ». كما أنّ هناك قرائن أخرى تتعلّق باستعمالات عدّة لكلمة «يوم» في سياقات غير عاديّة مثل يوم الحساب ويوم القيامة ويوم الحشر الخ. ويمكن أيضا الاستشهاد بدلائل أخرى من معاجم اللّغة العربيّة والتي  تقول بأنّ كلمة اليوم قد يراد بها الوقت مطلقا كما في شعر شمر (لسان العرب): « يوماه يوم ندى ويوم طعان. ويوماه هنا: يوم نعم ويوم بؤس ، فاليوم ها هنا بمعنى الدّهر أي هو دهره كذلك» .
إنّ معنى كلمة «يوم» والذي تحيل إليه الآيات الأربعة لا يمكن ضرورة أن يكون المعنى المرتبط بحدث أرضي أي بظاهرتي الشّروق والغروب باعتبار أنّ الأرض لم تكن موجودة أصلا حين تمّت عملية الخلق. فالمعنى المراد والذي تسمح به معاجم اللّغة يمكن أن يكون مرحلة زمنيّة وهذا يؤدّي إلى استنتاج مفاده أنّ الآيات تقول صراحة أنّ السّماوات والأرض خلقت في ستّة مراحل كما نجد ذلك في آيات قرآنيّة أخرى باعتبار أنّ القرآن لا يمكن أن يناقض نفسه مثل الآية 38 من سورة «ق»  «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ».
 لكن فكرة خلق السّماوات والأرض في مراحل زمنيّة ليست في حدّ ذاتها بالمسألة الجديدة على الفكر البشري باعتبار وجودها في ثقافات وديانات العديد من المجتمعات الإنسانية، فأين تكمن أهمّية الطّرح القرآني إذن؟ إنّ الملفت للنّظر في الآيات هو تحديد تلك الفترات بأحداث يمكن استنطاق المعارف العلمية الحديثة في شأنها.  
تقول الآية أنّ الأرض خُلقت في مرحلتين وأنّها كانت خلالهما خالية من الجبال. ثمّ تلتها مرحلتان بدأت بأن جعل الله فيها رواسي أي جبالا وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها. حسنا... لكن ما رأي العلم في ذلك؟  
نشأة الأرض
لم تنشأ الأرض معزولة في الفضاء الكوني بل ولدت في رحم سحابة مستديرة عملاقة (سديم) تتشكل من خليط من غاز الهيدروجين أساسا والهليوم بنسبة  75 % و24 %  على التّوالي وجسيمات صلبة هي التي ستكوّن المعادن التي منها ستتشكّل الكواكب ومنها الأرض طبعا. كان السّديم باردا  في البداية ثمّ ما لبث أن سخن فيما بعد وأصبح ما يمكن أن نطلق عليه وبدون تردّد تسمية «دخان» كما يقتضي المعنى الأصلي لتلك الكلمة في اللّسان العربي. لم يكن الإنسان شاهد عيان على ذاك الحدث الذي وقع قبل 4.5 مليار سنة ولكن لا يعتبر ذلك عائقا أمام العقل البشري الذي تمكّن بعد استقراء طويل للعديد من الشّواهد والدّلائل أن يعيد حسابيّا تركيب الأحداث وتسلسلها زمنيّا ويكتشف الأسرار التي أدّت إلى ظهور الأرض مستعينا بالحواسيب العملاقة في عمليّات تسمّى المحاكاة. فكيف تطوّر ذلك السديم ليصبح مجموعة شمسية؟ 
تظهر المحاكاة السّديم في البداية وهو ملتفّا كالدّوامة ويجري في الفضاء. وتعزو المحاكاة تلك الحركة  الدّوامة إلى الانهيار ألثّقالي الذي خضع له. ومع تقدّم الزّمن واصلت السّحابة انهيارها مندفعة نحو المركز، فازداد معدّل تدويمها وارتفعت حرارة مركزها إلى درجة كافية لكي يشتعل الهيدروجين فيما يشبه فرنا نوويّا حراريّا مكوّنا نجما في المركز أي «الشمس» وذلك قبل 4.6 مليار سنة. أما المواد المتبقّية فقد شكّلت قرصا يدور حول النّجم المولود الجديد. التحمت الذّرّات في البداية بتأثير الكهرباء لتكون جزيئّات ثمّ  دقائق صلبة. ثم وبفعل الجذب ألثقالي التحمت تلك الدّقائق وكوّنت حبيبات في حجم حبيبات الرّمل التي التحمت بدورها ودائما بتأثير الثّقالة وتحوّلت إلى قطع صخريّة أكبر فأكبر إلى أن تولّد عن ذلك أعداد كبيرة من تجمّعات غير مصقولة من مواد صخريّة تمثّل ما يطلق عليه العلماء «الكواكب الدّقيقة».
التحمت تلك الكويكبات ببعضها لتعطي الكواكب ومنها كوكب الأرض وذلك خلال عشرات الملايين من السّنين. لقد أخذ كوكب الأرض حجمه النّهائي إذا بعد عملية طويلة من الاصطدامات ما أدّى إلى ذوبانه الكامل. كانت الأرض في البداية جرما مذابا تتشكّل صخورها من حوالي مائتي معدن تطوّرت في مرحلة الكويكبات الصّغيرة وذلك بسبب انصهار موادها وتفاعلها مع الماء. لم يكن عدد المعادن كبيرا في السّديم السّابق للشّمس إذ لم يتجاوز العشرين. والمعدن هو الوحدة التي منها تتكوّن الصّخور. فهو تجمّعا لذرّات في وحدات متكرّرة بانتظام دقيق في الفضاء تسمّى بلورات. عندما أصبح الفضاء البين كوكبي «نظيفا» تقريبا من النّيازك وتوقّفت عمليّة سقوطها على الكواكب واكتمل بناء هاته الأخيرة، كانت الأرض منصهرة تماما ثم بدأت في التّبرد بحكم وجودها في فضاء كوني بارد جدّا تقترب درجة حرارته من الصّفر المطلق أي حوالي 270 درجة تحت الصفر. بدأت المادّة المنصهرة في باطن الأرض تتمايز في طبقات على هيئة البصلة. تتميّز معادن الأغلفة الخارجيّة بخفّتها قياسا بالمعادن الدّاخلية الثّقيلة إذ يحتلّ الحديد والنّيكل مركز الأرض. 
«وجه» الأرض
نعني بوجه الأرض نمط التّضاريس الذي يظهره سطحها. في البداية كان سطح الأرض بلا حياة ويتكوّن  من الحجارة النّارية وأساسا «البازلت» وهو صخر تكوّن من الصهارة والحمم البركانيّة التي كانت تغطّي الأرض بالكامل. كانت التّضاريس بركانيّة وعرة وكانت الأرض مغلّفة بالمواد الطّيارة التي كانت تقذفها البراكين  مثل الماء وثنائي أكسيد الكربون وغاز النشادر والميثان وغازات أخرى.  
«تكتو نية الصفائح»
 تتميّز الأرض عن باقي الكواكب بظاهرة «تكتونيّة الصفائح». يمثّل ظهور الصّفائح بداية مرحلة أساسيّة في تاريخ الأرض. فبفضل حركتها تنوّعت المعادن وأصبحت بالآلاف بمعاضدة ظاهرة الحياة الفريدة بعد أن كانت بالعشرات فقط ونحتت أهمّ تضاريس الأرض أي الجبال والبحار والسّهول. فما هي هذه الظاهرة؟ 
يطفو الغلاف الصّخري فوق طبقة لدنة غير منصهرة تسمى الغلاف الطّيع إذ يمكن تشبيهه بجبل الجليد الذي يطفو فوق الماء. ينقسم هذا الغلاف إلى قطع تسمّى صفائح وهي متحرّكة بالنّسبة لبعضها البعض. متى بدأت حركة الصفائح؟ الموضوع مازال محلّ بحث. فهناك من يفسّر البداية بسقوط نيزك عملاق قطره 45 كم قبل 3.26 مليار سنة، إذ دفعت قوّة السّقوط بجزء من الغلاف داخل الأرض مكوّنة أوّل نطاق انغراز (اندساس،غور) للصّفائـــح ومعطيـــة الطاقـــة الكافية لانطلاق عمليّة التحرك. وهناك من لم يقنعه هذا التفسير ويرى أنّ الغلاف الصخري لم يكن وقتها باردا كفاية لكي يغرس في الأرض. ويضيفون أيضا بأنّ تيارات الحمل الحراري التي كانت تعتمل في باطن الأرض كانت شديدة النّشاط في ذلك الزّمن البعيد ولم تكن لتسمح بظهور الصّفائح أنّه يجب انتظار مليار سنة أخرى أو أكثر لتستطيع الصّفائح الانغراز. ومهما يكن السّبب الذي أدى إلى انطلاق حركة الصّفائح فإنّ هناك إجماعا علميّا بأنّ الصفائح المتحرّرة ظاهرة غير موجودة خارج الأرض .  
فما علاقة تكتو نية الصفائح وظهور الحياة بالمرحلتين الثالثة والرابعة وماذا يمكن أن تكون خصائص المرحلتان الأوليان من خلق الأرض؟                  (يتبع)