الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الانفجار العظيم
 يعبّر مصطلح «الانفجار العظيم» عن أهم ما صيغ من مفاهيم وتصوّرات تتعلّق بالكون نشأة وبنية وصيرورة تاريخيّة. و«الانفجار العظيم» هو استعارة لوصف بداية الكون وهو في الحقيقة استعارة غير موفّقة كما سيتبيّن في هذا المقال لأنّها تحيل مباشرة إلى تصوّر حدث عنيف وقع في الفضاء وأدّى إلى ظهور الكون الذي نحن جزء منه ولنا القدرة على دراسته وهو ما لا تقول به النّظريات الفيزيائيّة المتعلّقة بالكون نشأة وتطوّرا. وإنّي أرى أنّ المصطلح يمكن أن يعبّر بأكثر مصداقيّة وبشكل مجازي طبعا عن «الانفجار» الذي نسف كل الأفكار التي كانت سائدة قبل أواخر العشريّة الثالثة للقرن الماضي والقائلة بسكونيّة الكون وأزليته.
اكتشاف تباعد المجرات.
بدأ التلسكوب العملاق صاحب قطر يساوي 2.5 م من الاشتغال سنة  1919 من مرصد جبل ويلسن في كاليفورنيا. اشتغل أدوين هبل (1889 – 1953) على ذلك التلسكوب وكان من أهم ما رصد وجود مجرّات خارج مجرّتنا وذلك العام 1924. وهي نتيجة قلبت رأسا على عقب تلك الصورة التي كانت تقول بأن الكون هو ما يعرف اليوم بمجرة درب التبّانة. لقد مكنت الصور الجديدة التي أخذها هبل من تحديد هويّة ما كان معروفا باسم «السدم اللّولبية» والتي كانت تمثّل لغزا منذ اكتشافها لأول مرة عام 1899. فالسّدم تلك كانت تبدو سحبا مضيئة وكان يُعتقد أنّها توجد داخل المجرة. ولكن وبفضل التّلسكوب العملاق تجلّت الحقيقة وظهرت لعين الإنسان ولأوّل مرّة ما عبّر عنه مجازا بـ «الجزر الكونية» المتمثّلة في مجموعات ضخمة من النّجوم سميّت مجرّات. تحتوي كل مجرة مليارات النّجوم وتوجد في الفضاء الكوني بعيدا جدّا عن مجرّتنا درب التّبانة التي يقدر الآن أنّها تتكوّن من مائتي مليار نجم تمثّل الشّمس التي تدور أرضنا حولها عنصرا منها. تضمن قوى الجذب ألثقالي للمادة العادية (بروتونات و نيوترونات و كهارب) و لمادة مظلمة لم تعرف طبيعتها بعد تماسك تلك الأعداد الهائلة من النجوم.  أما الظاهرة الفلكية الثانية المكتشفة والتي ستؤسس لثورة على مستوى تصوّر الإنسان للكون فقد رصدت عام 1929 وتتمثّل في وجود انزياح نحو الأحمر لخطوط طيف المجرّات التي لا توجد في ما يسمّى «المجموعة المحليّة» وهي عبارة عن مجموعة تتكوّن من عشرين مجرّة من بينها مجرّتنا «درب التبانة» تقترب عناصرها من بعضها البعض بفعل قوى الجذب ألثقالي التي تسلّطها عن بعد كتلها على بعضها البعض. وقد أظهرت عمليات الرّصد أن ذلك الانزياح موجود في طيف المجرّات مهما كان الاتجاه الذي رصدت منه. وقد فسر ذلك الانزياح فيزيائيا باعتماد «اثر دوبلر» وهو ما يعني أن  المجرات صاحبة الأطياف المنزاحة نحو الأحمر تبتعد عنّا مهما كان الاتجاه الذي نوجه نحوه التلسكوب. كما بينت دراسة تلك الظّاهرة أنّ المجرّات تبتعد عنّا بسرعة تتناسب مع المسافة التي تفصل بيننا وصار لدينا قانون تجريبي صاغه دوبلر بني حينها على رصد أربعين مجرة ثم أكّدته الأرصاد اللاّحقة فيما بعد ممّا يعني أن حاضر الكون ليس كماضيه ومستقبله وأنّ له تاريخ. 
 الكون يتمدد
قبل اكتشاف ابتعاد المجرات عن بعضها البعض قام العالم الفلكي والكاهن الكاثوليكي جورج لومتر (1894 – 1966) بحسابات أقرّ اينشتين بسلامتها لكنّه لم يوافق على ما أوحت به له. فقد توصّل لومتر بتلك الحسابات المبنيّة على معادلات اينشتين إلى فكرة «خرافية» تقول بأنّ الكون بكلّ ما فيه من مادّة وطاقة وزمن وفضاء وأحداث كان في الماضي السّحيق مكثّفا في حجم يكاد يكون صفرا سماه بـ «الذرّة الأوليّة» التي منها ولد.  وتعني الولادة هنا أنّ الكون وخلال ماضيه السّحيق تمدّد من ذلك الحجم الصّغير إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن وهو ما قالت به معادلات النّسبية العامّة لصاحبها اينشتين والذي رفضه آنذاك. 
اقترح لومتر إذا فكرة تمدّد الكون في العام 1927 وبعد عامين فقط جاء اكتشاف تباعد المجرّات ليعضد ذلك التّصور المبني على المفاهيم الجديدة للزّمان والمكان والمادّة والطّاقة التي تعبّر عنها معادلات النّسبية العامّة. كيف؟ لنتذكر أوّلا أنّ مفهوم الجاذبيّة الثقاليّة (بين الكتل) عند نيوتن يختلف جذريّا عن تصور اينشتين. ففي كون نيوتن لا تؤثّر المجرّات على الزّمان والفضاء الذي توجد فيه وتتفاعل مع بعضها البعض بقوة الجذب ألثقالي التي تتبادلها لحظيّا عن بعد. أمّا اينشتين فتقول معادلاته أنّ الزّمان والمكان يكونان نسيجا واحدا ذي أربعة أبعاد سمّي الزمكان وأن الكتل (المجرّات عند علماء الكون) تشوّه هذا النسيج (تحنيه، تحدبه) كما لو أننّا وضعنا كرة ثقيلة على قطعة قماش. لذلك فإنّ القول بأنّ المجرّات تبتعد عن بعضها البعض يعني في إطار النسبيّة العامّة التي لا تسمح بفصل المادّة (هنا المجرّات) عن الفضاء على المستوى الكوني، يعني أنّ النسيج الكوني الذي تمثل المجرات جزءا لا يتجزأ منه  يتمدّد وليست المجرات التي تتحرّك في فضاء لا مبال وانّه لوعدنا بتلك الحركة إلى الماضي وحاكينا التمدّد لتوصّلنا إلى حالة مذهلة حقّا لم يكن بوسع أحد أن يتصوّرها وهي نتيجة منطقيّة لما يمكن أن تؤدي إليه المفاهيم الفيزيائية الحديثة وظاهرة الانزياح نحو الأحمر، حالة يكون فيها الكون صغيرا جدا وكثيفا جدا وساخنا جدا مثل الغاز الذي إذا ضغط في حيز فضائي صغير فإنّه يصبح حارّا وكثيفا. ولكي يرتقي هذا السّيناريو إلى درجة نظريّة علميّة كان الزّمن لم يحن بعد للعثور على دليل مادّي يثبت فعلا أنّ الكون مرّ بمثل تلك الظروف الفيزيائية في الماضي السّحيق. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ النّظرية لا بد لها لكي تحظى بشرف الصّفة العلميّة أن تكون قابلة للتّفنيد أي لا بدّ أن تمدّنا بطريقة تمكّننا من إخضاعها للفحص التّجريبي حتى نتأكّد من مصداقيتها. وهذا يجعل من القول بأنّ الكون كان في بدايته حارّا وكثيفا جدّا قولا لايمكن التّأكّد من صحته، فالمسالة تتعلّق بالكون أي بكلّ شيء، فكيف سنقوم بتجربة موضوعها كلّ شيء؟ لكن ورغم تلك الاستحالة فإنّ عقل الإنسان برهن خلال تجربته المتراكمة عبر التاريخ على أنّه قادر على تجاوز الصّعوبات وله الإصرار الكافي للوصول إلى الحقائق.
«تنبؤات» جاموف :للكون خلفية إشعاعية
تتحرّك إذا الوحدات الكونية المكوّنة للنّسيج الزمكاني أي المجرّات مبتعدة عن بعضها البعض بفضل تمدّد ذلك النّسيج الذي يحملها والذي بدا توسعه من نقطة ذات حرارة وكثافة خيالية كان فيها الكون مضغوطا بمادته  وفضائه وزمانه.  وقد تنبأت بهذا التمدد، كما ذكرنا سابقا، حسابات فيردمان ولومتر في إطار مفاهيم النسبية العامّة عن المادة والفضاء. وانطلاقا من فكرة تكثّف مادّة الكون (أي الكون) في نقطة متناهية الصّغر مثل ما تقترحه مشاهدات هبل، تصّور جورج جاموف (1904 – 1968) عام 1950 حدوث انفجار نتج عنه انتشار إشعاعات حراريّة وبيّن معتمدا على عمليّات حسابيّة أنّ هذه الإشعاعات تملأ الكون الآن ولم تتوقف عن التبرد منذ انبعاثها وأنّ حرارتها اليوم قريبة من 3 درجات مطلقة أي 270 درجة تحت الصّفر. تخطّت نظرية التمدّد إذا مرحلة هامة تتمثّل في امتلاك القدرة النظريّة على التّنبؤ بما يمكن التثبّت منه تجريبيا وهو التقاط تلك الإشعاعات التي تخلّفت عن تلك الحالة البدائيّة للكون الحارّة جدا إن كانت النظريّة صادقة طبعا.  
تنبؤات جاموف تتأكد
يمثل عام 1964 للعالمين أرنو بنزياس (1933) وروبرت ويلسون (1936) منعرجا حاسما في مسيرتهما العلميّة. فقد اكتشفا وبمحض الصّدفة ما تنبأت به نظرية جاموف أي وجود خلفية إشعاعية تملا الكون وذات درجة حرارة منخفضة جدا تساوي 3 كلفن. يمثل اكتشاف تباعد المجرات والخلفية الإشعاعية للكون عمادي نموذج ما يسمى بـ «الانفجار العظيم». فقد صاغ العلماء تدريجيا هذا النموذج الرياضياتي ورغم أنّهم حافظوا لحدّ الآن على المصطلح المثير للجدل وهو «الانفجار» إلاّ أنّهم يرفضون وبشدّة ما يوحي به لدى العامّة والخاصّة من نشأة للكون بانفجار حصل في فضاء ما قبلي إذ تجزم كل المعادلات الفيزيائية بأنّ النشأة حدثت للفضاء أيضا وأنّ سؤال ماذا قبل النّشأة لا معنى له باعتبار أنّ الزمن انبثق بدوره «متزامنا» مع المادّة والفضاء.