نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالله التركماني
حول المعطيات المستجدة لفوضى الحالة السورية
 يبدو أنّ سباقاً بوتيرة سريعة انطلق بين قوى دوليّة وإقليميّة، معنيّة بفوضى الحالة السّورية، لإعادة رسم خريطة النّفوذ في المنطقة في مرحلة ما بعد «بشّار الأسد»، حيث التّحالفات وإعادة رسم أدوار الدّول بعد الاتّفاق النّووي مع إيران. وكان في عداد تلك التّحركات جولات المبعوث الدّولي «دي ميستورا» الذي قدّم تقريره للأمم المتحدة وفيه خلاصات رأيه حول الحالة السّورية وأفق حلّها، إضافة إلى لقاءات جدّة وطهران وعمان وموسكو. 
وحتّى إيران، التي تتحمّل الأعباء الجمّة في حماية النّظام، لن تكون بعيدة عن هذا التّوجه، خصوصاً أنّها ستكون مدعوة إلى « جنيف 3». كما أنّها لن تكون قادرة على مواجهة التّدخل التّركي مهما علت تحذيراتها، بل ربّما طمحت إلى تقاسم النّفوذ مع أنقرة.
ويبدو أنّ تحول الموقف التّركي مرتبط بتوقيع الاتّفاق النّووي بين الدّول الكبرى وإيران، حيث ستكون بعض نتائجه الاعتماد على وزن طهران في معالجة ملفّات المنطقة ربطاً بنفوذها في سوريّة والعراق ولبنان واليمن، الأمر الذي يُضعف الحاجة إلى أنقرة وربّما يُخرجها من المعمعة خاسرة. هكذا يغدو ملحّاً أن توسِّع تركيا نفوذها جنوباً على حساب «الأسد» و«الأكراد» و« داعش» معاً، وأن تعيد تنظيم علاقاتها بالولايات المتّحدة الأمريكيّة.
إنّ سعي تركيا إلى إقامة منطقة آمنة في الأراضي السّورية يهدف إلى طرد «داعش» من المنطقة، وتأمين منطقة عازلة بين وجود قوات الحماية الشّعبية الكرديّة في «عين العرب - كوباني»، لمنع سيطرة كردية لـ PYD م(1) ممتدّة نحو «عفريـــن» تجسّد مشروعاً لكيان كردي معـادٍ، مجاور لحدودها في سوريّة، كما ستوفّر المنطقة الآمنة مكاناً لنقل جزء أساسي من اللاّجئين السّوريين المقيمين فيها. ويُخشى أن تنقل المنطقة الآمنة المسألة السّورية إلى موقع جديد أكثـــر عسكرة، تبقى أولويّته محاربة الإرهاب مع استبعاد مواجهة مع النّظام. ومن جهة معاكســـة يُعتَقد أنّ المنطقة الآمنة، رغم أخطار التقسيم التي تواكبها، يمكن أن تفتح الباب لتسويـــة سياسيّة حقيقية، مع تحسين توازن القوى الحالي.
ولا شكّ أنّ دخول القوات التّركية الحالة السّورية من البوابة الكرديّة سيبدّل في جيوسياسة الصّراع. ومن المؤكّد أنّ حربها على «الأكراد» ليست لصالح الثّورة السّورية، التي تطمح إلى دولة مدنيّة ديمقراطيّة تضمن حقوق كلّ مكوّنات الشّعب السوري. كما أنّ هذا التّدخل، أيضاً، ذا علاقة بالوضع الدّاخلي التّركي. ذلك أنّ «أردوغان» الذي يتطلّع إلى انتخابات تشريعيّة مبكّرة، تغيّر موازين القوى القائمة في البرلمان الآن، وتعيدها إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات الأخيرة، يهدف إلى دفع «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي، نحو التّصعيد العسكري واتّباع سياسة قوميّة متطرّفة تعمل على خلط الأوراق في السّاحة السّياسية، وتدفع الأحزاب التّركية القوميّة، اليمينيّة، إلى تغيير حساباتها ومواجهة الحزب المذكور للوصول، ربّما، إلى إخراجه من البرلمان القادم المنشود، بما يتيح لأردوغان استعادة زمام المبادرة في الوضع الدّاخلي التّركي، وفي رسم السّياسة الخارجيّة، على صعيد المسألة السورية خاصّة، والسيطرة أكثر على إدارة الحكم.
وفي المقابل فإنّ الأكراد جزء أصيل من تاريخنا، وإدراك حقّهم في حياة حرّة وكريمة لا يتمّ عبر مشاريع انفصاليّة، تقفز على حقائق الجغرافيا والدّيموغرافيا، بل عبر الاندماج الفعلي في المجتمع السّوري، وانتزاع حقّهم في المواطنة الكاملة فيه، بما يسمح لهم بتحقيق كل تطلعاتهم، بما فيها حقّ المشاركة في السّلطة، وإدارة شؤون الدّولة والمجتمع. 
وفي سياق هذه التّحولات من المفيد متابعة ما طرحه المبعوث الأممي «ديمستورا» أمام مجلس الأمن في 30 تموز(جويلية)، حيث رأى أنّه « من أجل وقف العنف يجب المضي قدماً في العملية السياسية»، كما ركّز على أربع نقاط هي « الأمن وحماية الجميع، ونقاش آليات التّوصل إلى ذلك، بما فيها رفع عمليات الحصار وتأمين وصول المساعدات الطبيّة وتحرير المحتجزين، إلى جانب أمور سياسيّة ودستورية، بما في ذلك هيئة حكم انتقاليّة وانتخابات» . 
إنّ كثافة الاتصالات والمساعي التي أجراها «ديمستــورا» تركت المجـــال واسعاً أمـــام الاعتقـــاد أنّ شيئــــاً قد يكون يُطبـــخ في ضوء بعض المؤشـــرات، خصوصاً في ضوء بعض المواقف الأمريكيّة والرّوسية والسّعودية والإيرانيّة والتركيّة. وقد يكون الاقتراح البنّاء والعملـــي الأهم الذي تقــدّم بـــه «ديمستـــورا» إلى مجلـــس الأمـــن هو تشكيل مجموعـــة اتّصال دوليّة من أجل متابعة الأوضاع للوصول إلى التّغييـــر. خاصة تأكيـــده « أنّ هزيمة تنظيم الدّولـــة لن تتحقق دون التّوصل إلى حلّ سياســـي عــادل في سورية».
ويبدو أنّ الاتّفاق حول الملف النّووي الإيرانـــي كان بمثابة المدخل لتفاهمات ممكنة حول أزمات المنطقة، ومن هنا فإنّ ربط التّطــورات الميدانيّة الحاليّة في سورية وحولها مع الحركة الدبلوماسيّة والسّياسيـــة الإقليميّة والدوليّة، إنّما تؤكد وجود إحساس واسع لدى القوى الفاعلة والمؤثّرة والمهتمـــة، بأنّ القضيــة السّورية آن أوانها، أو على الأقل، أنّه بات من الضّروري وضعهـــا علـــى سكّة حل، تضع حداً للكارثة في كلّ أبعادها الدّاخلية والخارجيّة. خاصّة بعد اقتناع حلفاء النّظام، رغم تباينهم بالمصالـــح والمواقف، بعدم إمكانية تعويم «الأســد» أو إعادة تأهيله. وربّمـــا كانت الدّول الإقليمية والدّول الكبرى ترى في الإجراءات التّركيــــة بداية إيجاد ظروف جديدة قد تُسهـــم في حلّ الأزمة السّورية. 
وفي كل الأحوال لا تستطيع المعارضة السّورية التّحدث عن انتصار واضح، وإنّما يمكن القول أنها نجحت في خلخلة النّظام. ولكنّ المعارضة التي طالبت في بداية الثورة بسورية موحّدة وديموقراطيّة تجد ما يفترض أن تكون مناطقها تخضع حالياً لقوى إسلاميّة متطرفة، معادية للديموقراطيّة والتّعددية ومرفوضة من قبل طيف واسع من السّوريين، فضلاً عن الرّفض الإقليمي والدّولي.
ومع إخفاق المعارضة في تكوين قطب وطني قوي مقنع يدافع عن مصالح سورية العليا ومستقبل شعبها وأمنها وازدهارها، يزداد احتمال أن لا يأتي الحلّ إلا على شكل المحاصصة واقتسام مناطق النفوذ.
الهوامش
(1)  حزب الاتحاد الديموقراطي: Partiya Yekîtiya Demokrat، PYD 
حزب سياسي يعمل في المناطق التي يعيش فيها الأكراد في سورية. أنشأ الحزب سنة 2003م على يد القوميون الأكراد في تلك المنطقة (القامشلي والحسكة).
 
-----
- كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية
abdtourkmani@yahoo.it