في العمق

بقلم
يسري بن ساسي
البداية إقرأ
 من منّا ليس يدرك - وإن اختلفت درجات الإدراك وتفاوتت- أنّ الإنسانيّة اليوم تحيا لعلّها أحلك مساراتها وأودى محطاتها وأوعر منعرجاتها وإن كانت مفردة تحيا باتت غريبة هجينة عليلة وأسافين البطش في كل نقطة من البسيطة وبضع تجرف الأرواح كالطوفان الهائل لا تفرقة بينها سوى في الزمان والتوقيت ..و«لعلهّا» أيضا لأن تاريخ البشرية سافر بالفظائع والبشائع بما يغني عن كل ذكر وسرد ولربّما كان في الصّفحة التّالية ماهو أشنع وأهول وليس هذا القول منّا لمجرد التّنسيب العاقل ولكن لم يخلُ زمان من بعض ما نرى ونشهد ونعيش بل لعلّها الأدوات والطرائق هي من تتباين وتتباين لزاما إذّاك النّتائج فكلّما أحرز الانسان شوطا في امتلاكه لمناهج التّحكم في الطبيعة وما يتضمّنه ذلك من كشوفات علميّة تترجم إلى تقنيات عالية كلّما كان حجم المكاسب أكبر ولكن  كان أيضا حجم الخسائر أكبر بكثير ولطالما عانت البشريّة من هذه المفارقة القاتلة...
إنّ ما يؤرّق حقّا ليست هذه الوحشيّة الضّارية والجاثمة على صدر إنسانيّة تختنق جورا وظلما وجرما تغيّر على الكلّ لا تستثني أحدا ولكن المؤرّق حقّا هو خُطانا المحتشمة جدّا نقثم فيها ونتباطأ ونلوذ بالهروب أحيانا إلى أن يحين حيننا بهذه الآلة ربما ..خطانا لأن نتجاسر أكثر ونستقدم أصواتنا أصوات الحقّ أعلى وأشهر في وجه الضّلالة والدّناسة والخبل المستشري، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا كما يقول الحديث .. 
ولا يسعنا أمام طغيان مستعر تشابكت علينا مداخله وتكاثفت علينا صيباته إلاّ أن نستمسك البدايات ونهرع إليها فيما ينجدنا من الأيادي الأفّاكة والعقول الأفاقة..العقول التي لا تعقل وتلك هي أمّ البدايات. لسنا نستنبط ولا نخترع شيئا ولكن نستحثّ أنفسنا ونستحثكم..
البدايات هي اقرأ .. البدايات اقرأ وتدبّر وتفكّر..وهو أهمّ ما يعوزنا اليوم ويجعلنا نرتد جلّ هذه الارتدادات ولازال هناك وللأسف من لا يعي أنّ كبرى معضلاتنا في العالم العربي ارتدادنا لا عن «التّدين» بل عن الفكر وإعمال العقل ولا أقول ارتدادنا عن الدّين لأنّ الدّين صميمه فكر ومنطق وبيان ولا ينفصد أحدهما عن الآخر وإنّما يخشى الله من عباده العلماء.. لازال لا يعي أن إجهاضاتنا المتكرّرة وانزلاقاتنا المتواترة عن الأنساق السّليمة هي أولى انعكاسات اختلال التنشئة  الفرديّة في مجتمعاتنا ..تنشئة قاصرة وعليلة في أكثر من بعد وأعدّ من جانب..لازال لا يدرك أنّ هذا الجنين في أحشاء أمّه مسؤول بقدر ما عن أفعاله ومسؤولة عنه أيضا أسرة ومجتمع ودولة..وقد لا يكون هناك معنى لحديثي وفق البعض ممّن يستصغر دور أيّ مؤسسة ذات بعد تربوي وتنشئي اليوم في فيافي «عولمة» أرخت بظلالها على الجميع ولكن يتناسى أنّ هاته التّربية وتلك التّنشئة هي وحدها المخولة بأن تجعل هذه الظّلال وارفا من المعرفة والاستزادة الفكريّة أو أن تجعلها حجبا على أنوار الاستدلال بدلائل العقول والمنطق..
إن أوكد ما قد نستصرخه الآن ليس مزيدا من التّعبئة الأمنيّة وإنّما هو ثورة جادّة في مناهج التّربية ومراجع التّعليم لكي نحصن جيلا لعلّه آت في مخاض أعسر ممن سبقه وما يشهده الأطفال اليوم والمراهقون من تشويش فكري واضطرابات كبرى وإفراغ ممنهج لأدوات التفكير والعقل لن يؤول بهم إلى الأفضل فيما نرى.. وإن كنت أصبحت أيضا أحبّذ أن أتجنّب مفردة «ثورة» لا لشائبة تعلوها ولكن لما عانته هذه الأخيرة من انحرافات كبيرة وانشقاقات عن السّياق واستخدامات عشوائية أو تملقية بيد أنّي لم أجد ما يؤدّي المراد سواها..
إنّ اتّزان الفرد في عالم أقلّ سماته الجنون موكول في جزء هام منه إلى أدبيات التّربية وطرائق التّعليم ويظلّ الجزء الآخر مسؤوليّة الفرد وتكليفه في هذه الحياة وتلك هي تأشيرة تمايزنا واختلافنا عن بعضنا البعض.. وإن شاء لنا فصلنا هذه السّمات إلى فصلين  سمات فرديّة وسمات مجتمعيّة وما مدلول الظواهر المرضيّة المتكرّرة والمرتفعة منسوبها في رقعة ما سوى جملة من الاخلالات النفسيّة المرتبطة أساسا بالتّنشئة...
ما الذي تقوم عليه التنشئة والتّربية في مجتمعاتنا؟ لك ولي أن نتساءل وليس من المشقّة أن تمثل بين أيدينا حقائق الإجابات..إنّها قائمة على ما لا يصحّ بها عماد البنيان وعتيد الأساس ..على التّلقين أولا والتّرهيب ثانيا ..دون خلو مدلجات سقيمة أخرى ولكن لعلّ التلقين والتّرهيب أكثر سموم التّربية نفاذا وعالقية وأدهاها خطرا وأنزلها مصيبة على الفرد في مجتمعات تدّعي أنّها تنشد تقدّما وتروم تململا إلى الأمام عن مرتبتها بين شعوب العالم وأممه..
تلك الثّنائيات المتآكلة في سياق عصر يفتي فيه من لا يعلم أكثر ممّن يعلم كيف لها أن تصمد أمام هذا الدّفق الكبير من الإمدادات المعلوماتية والينابيع المرقمنة والمشارب المتعدّدة وكلها تأتيك على بساط أهفى من الرّيح وأمضى من خطف البصر ..ألازال لها في سياقنا مكان ..ألازالت تصمد وتناكف وتحاجج وتصد التيارات الجارفة ..ثنائية الجنة والنار والثواب والعقاب والممكن واللاممكن والحلال والحرام والصحيح جدا والباطل جدا ..هذه هي الثنائيات التلقينية التي تقوم عليها ثقافتنا وموروثنا الجماعي في غير استنطاق كامل للعقل والحجّة والنقاش والحوار والجدال..
إن الطفل لا يلبث أن يفتح عينيه على هذا العالم المبهم حتى نفقأ فيه كل رغبة في السؤال والاكتشاف والمعاينة والبحث بل إنّنا نعيل صبرا ونستشيط غضبا إذا ما أهلكنا بأسئلة نعتقد جزاما أنّها مسائل محسومة بالنّسبة إلينا فيما لو كنا واثقين من ذلك ولا نتأخر عن تقديم أجوبتنا الجاهزة كيما نبسطها لفهمه حد جعلها سخيفة هذا إن أحسنا صنعا وإلاّ فإننا نأمر فينتهي ونزجر فيمتنع ونضرب فيرتدع وهذا ولكلّ طفل وفق ما أوتي من عناد مقدار نصيبه حتّى يفلت منّا يوما زمام الأمور فلا يعود يجدي سوط العقاب ولا صوت الجدال، وقد يفندني في هذا الكثير ممّا يعتقدون أنّ بعض صنيع الأطفال وعبثهم ممّا لا يخطر على بال شيطان ولكن في ذاك كبرى المبالغات وعلى كلّ هاته الفئة من الأطفال لن يجدي معها العنف والزّجر اللاّمدروس إلاّ إلى أمرين فإمّا أن تزداد عنفا وعدائية أو أنها ستنطوي وتنكمش مختزنة تلك العقد التي ستنفجر يوما في وجه المجتمع.
وممّا أكدته الدّراسات السّلوكية والنّفسية أيضا أنّ بعضا من ردود الأطفال وعنادهم  وانفعالاتهم المبالغ فيها قد يكون مردّها حتى اضطرابات نفسيّة عانت منها الأمّ أوان الحمل وفي أحيان أخرى مرتبطا حتّى بمدى الرّغبة في الحمل نفسه وعلى كل هذا في حدّ ذاته يحتاج إلى تمحيص كثيب وبحث معمق لا زال يتولاّه المختصون ولكنّنا نستطيع أن نخلص إلى مدى إهمالنا لتنشئة الطّفل خاصّة في سنواته العمريّة الأولى دون أن يعني ذلك ارتهان النّتائج كليّا بالأسباب ولذلك كان كلّ فرد بحدّ ذاته متميّزا  تنطبع فيه التّربية أصيلة كانت أو هجينة بقدر خصائله الذّاتية الصّرفة ولنا في الإخوة تربوا تحت سقف واحد خير دليل وأوجز برهان..
إن تنمية الشغف وحبّ المعرفة والسّؤال بأساليب سلسة مبتكرة بها من الطّرافة والحيلة ما يستسيغه الطّفل ولا ينفر منه خاصّة في عصر«الايفونات» و«الايبادات» وكلّ ما من خلف البحار آت، أولى له أن نحشد طاقاتنا ونحفز له مجهوداتنا ولسنا نرى أكثر فطنة من دول وددنا لو ضاهيناها تقدّما ونظاما لازالت التّربية سلّم اهتماماتها ولازال النّشء بالنّسبة إليها هو أهمّ استثمار للمستقبل وأثمن مشروع لمجهول الأيّام، فهل نحن نستثمر؟؟؟؟ وفي دول نرى أنّك حينما لا تحترم شارة المرور فذاك شنيع ولكن حينما يشهد صنيعك ذاك طفل من أطفالهم فذلك جرم وأيّ جرم ...
وإذا كنّا لا نحفل كما يلزم بالطّفل في سنواته الأولى لنستحثّ فيه ملكات التّفكير والإبداع كما ينبغي بل لنلجمها أحيانا، فإنّنا لسنا نكتفي إلاّ بـ «إرهابه» فكريّا وترويع   خياله بالقصص عن الغول والجانّ والخرافات بدل تخيّر ما قد يطلق عنان مخيلته إلى السّماء ..وعلى كلّ استدرك أيضا بأنّ هاته القصص اليوم أقلّ ارتشاحا بأخيلة أطفال هذا الجيل ولكن ما هم أوفر حظّا لأنّ من يربّي قد نشأ بحيث أنّه في غالب الأحيان ليس مؤهّلا لتعزيز تربيتهم بالمحصنات الضّرورية والمناعة اللاّزمة أمام مدجّجات «الأفكار المريضة» و«المعلومات المسترابة» وجحافل «الأنساق المستنسخة» و«التّيارات المعطوبة» ..فإمّا يجاريهم تماما وبئس العاقبة وإلّا فهي الصّدامات المباشرة والغير مباشرة وإذاك نجوز عن سيطرة داخليّة إلى سيطرة العوالم المرقمنة ولا هذه تفلح ولا تلك تفلح في تنشئة إنسان عاقل.
   إنّنا لنحفى اليوم بتحصيل الشّهادات والمكانة العلميّة المرموقة قبل تنشئة فرد متناسق الأفكار متّسق الرّؤى متصالح مع مجتمعه لا ناقم عليه وصالح لبلاده لا وبالا عليها ..وما تغني الشّهائد إذا كان الفرد منّا تعوزه ثقافة العيش وتنقصه آداب التّعايش .. ولازالت مجتمعاتنا في هيستيريا رعناء  تمعن في الحثّ على الاستزادة والتشجيع على علوم ومعارف صحيحة أو تجربيّة كالرّياضيات والتقنية والفيزياء دون الحثّ موازاة على المعارف الفكريّة والآداب الإنسانيّة كالفلسفة والتاريخ والتّرجمة ولا يسعك إلاّ أن تتفرّس في قيمة تلك وهذه في موازنات المواد لتفهم كل القصّة ولكي لا تستغرب كثيرا أنّ طالبا ما أقرب من غيره أن يكون الضّحية.. وليت المتدرّج في الدّراسة يستطيع تحصيل هذه المعارف الصّحيحة بذكاء وفطنة وبحث ولكنّه فقط يلقن نظريات يلوكها ويحفظها ويعيد استذكارها على ورقة الامتحان عدا بعض الاستثناءات فيما يقوم التّعليم في مدارس كثيرة اليوم لشعوب خطّت خطوها تحو التّقدم والتّوازن الاجتماعي على مسألة أو معضلة يتطارحها طلبة العلم ويطالبون بإيجاد إجابات أو حلول ممكنة ومنطلق كل علم وبحث هو سؤال لا يستدل بغيره عن الجواب يفضي إلى التّعليم الأجدى والبحث الأنجع أمّا هاته الأطنان من المعلومات دونما انتقاء تثخن بها الأدمغة فلن يزيدنا إلاّ كسلا فكريّا أتعسنا وخمولا في العقول أغرقنا.. كان ذلك نهج «سقراط» سؤال يناكف به تلامذته حتّى إذا أجابوا قوض إجاباتهم بأسئلة أخرى حقيقيّة فاسترسلوا في البحث والسؤال وعام فضولهم في التّماس الحقيقة على الهناء بجاهز الإجابات ونربّي نحن أطفالنا وطلبتنا على المسلّمات لا على الشّك والتّساؤل ونورثهم ما ورثناه من ثقافة وعادات حميدها قليل وسيئها الغالب..  
إنّ مادة كالتّفكير الإسلامي التي كانت في مقرّراتنا الدّراسيــة لم يكن فيها من التّفكير وإن كان حتمــا سقيما إلاّ التّفكير في الخـــلاص منها لدى البعــض والاستفادة منها لتعديل نتائـــج كارثيّــة أخــرى لـــدى البعض الآخــر ممّن يعتمد على الحفظ دون سواه.. وقد جانب الصّواب من يعتقد أنّ الانســـان في تعليمه العـــام يحتاج إلى معارف دون سواها فالعلـــوم مرتبط بعضهـــا ببعض ..إنّ الرّياضيّـــات في حدّ ذاتها خاضعـــة أوّلا للمنطــق والعقل وليــس أدلّ على ذلك من كــون أكبر الرّياضيّيــن هم في الحقيقــة فلاسفــة ولكن أيّ قيمة للفلسفة في مناهجنا وفي موازانـــات المواد ولست تعاتب تلميذا يهمل مادّة يهملها منهج تعليمي بأكمله.. أمّا إذا كنّا نعتقد أنّنا بقواعـــد الرّياضيّات وحدها ونظريّات الفيزياء وتطبيقات التّقنية وبتلك الأساليب التّلقينيّـــة نعدّ مستقبلا باهـــرا في كافة مناحيه للفرد في مجتمعاتنا فنحن نجني عليه وعلى أنفسنا.. وكانت الفلسفة هاتـــه « اللّماذا»  التي تجعل الانسان شديــــد التعلّق بالمعرفة والعلم والفكـــر ما طال عمـــرا وإنّ التّحصيــل العلمــي بالنّسبـــة إليـــه ليس مجرّد وظيفـــة وراتب وسيّـــارة ومنــــزل بل هو رحلة دؤوب يدرّب عليها نفســـه ويتدرّج في معراجها من المهد إلى اللّحـــد.. ليس للمتعلّـــم اليوم -قبل مرحلة تخصّصـــه- بلا فلسفة وبلا تفكير إسلامـــي وبلا معرفة بالتّاريـــخ إلاّ أن يكون كقارب شريد تتقاذفه الأمواج وتطوح به من كل جانب إلى أن تبتلعــــه..
سوف نغيّر شيئا ما إلى الأفضل ربّما إذا كففنا عن غمّ السّؤالات ووأدها في مهدها وشلّ روح المبادرة لدى الأطفال وتدجين عقولهم ودفن عبقريّة البعض منهم بل والتحقير من شأن الأفراد بداع السّن والتّجربة ونرى شبابا لم يتجاوزوا الخامسة والعشرين على رأس أكبر المجموعات العلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة في العالم يقودون من هم أصغر وأكبر سنّا دونما عقد ونرى فكرة كالفايس بوك لشابّ يتمّ اعتمادها عالميّا ولا تعوزنا المواهب إذ تعود إحدى المخترعات الشّابات إلى بلادنا يتوّجها العالم فلا من يحتفي ويشجع.. 
سوف نغيّر شيئا ما إلى الأفضل حينمـــا ترتقي مخصّصات البحث العلمي ومخصصات الثّقافة إلى ما ننفقه على الرّياضة والتسلية والترفيه أو نوازن بينها على الأقل.. سوف نغير شيئا ما إلى الأفضل حين لا يرين جوّ من التّعصب والعنف المعنوي داخل أسرنا وفي معاهدنـــا وعلى مدارج كلياتنا ولا منـــاص لنا في سبيل ذلك من تربيــــة قويمة وتعليم متكامـــل تنفتح فيه قرائح الأفراد على أبعادنا الإنسانيّـــة المتمايزة والمختلفة وعلى السّؤال والتّباحث والبرهان والحجّة أطواقا للنّجاة من وهم الفكرة الواحدة والرّأي الواحد والحقيقة الممتلكة المفضيّــــة إلى صدامات مدمّــــرة..
سوف نغيّر شيئا ما إلى الأفضل حينما ندرك أنّه من المهمّ أن نجيد تقنيات كثيرة ولكن من الأهمّ أن نحسن التّعامل مع ذواتنا ومجتمعاتنا وبلا فكر بلا اطّلاع ومطالعة بلا فلسفة أو تفكير في ديننا ومعرفة ببعض تاريخنا وتاريخ المجتمعات الأخرى لن يكون لنا هذا القدر من التواصل والانفتاح على الأخر هنا أو وراء هناك رغم أنّه بلا منازع عصر الاتّصالات. 
 .------
- كاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr