الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج5 - من الفلك العربي الى الفلك الاوربي
 أعمال بطليموس تحت المجهر
اقترح الفلكي وعالم الرّياضيات أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني (805 - 880م) منذ منتصف القرن التّاسع ميلادي أوّل الإصلاحات لنموذج بطليموس، كما راجع في نفس الفترة عالم الفلك والرياضيات والهندسة والموسيقى ثابت بن قرّة (836 - 901) كل البراهين الرياضياتيّة التي قام بها بطليموس وانتقد الحلول التي اقترحها هذا الأخير. وعدّد أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم (956 - 1040 م) في أهمّ كتبه «الشّكوك حول بطليموس» التّناقضات التي يعاني منها التّصور الفلكي لبطليموس خاصّة مفهوم «منحرف المركز» (أنظر الجزء الثالث في العدد 83 من المجلّة) حيث أن هناك من المعاصرين من يذهب للقول بأنّ بطليموس قام بعملية «غشّ» كبيرة وذلك باقتراحه ذلك المفهوم. وقد ذكر بن الهيثم في كتابه أنّه لا يمكن عقلا أن يكون لنظام بطليموس وجودا حقيقيا وأنّه غاية في التّعقيد ولا يصف الواقع. وقد كان لابن الهيثم موقفا رافضا واضحا لمفهوم «إنقاذ الظواهر». ويقصد بهذا المفهوم  أنّ «مهمّة العلم تنحصر في تقديم صيغ ومعادلات وقوانين إجرائيّة وليس الهدف منه وصف الظّواهر وصفا حقيقيا وصادقا، بل القدرة على التنبؤ بما يطرأ عليها تنبؤا حسابيا، أي أنّ قيمتها كصيغ ومعادلات وقوانين قيمة إجرائية وليست قيمة وصفية». وهذا أساس الاتّجاه الرياضياتي عند أفلاطون (427 - 348 ق م). الذي يرى أن دراسة السماء تكون دائما انطلاقا من مبدأ أن حركات الأجرام السّماوية دائريّة ومنتظمة ودائمة الانتظام وهو افتراض ضروري لإنقاذ الظواهر الفلكية. فالاهتمام بإنقاذ الظواهر وعدم الاهتمام بحقيقتها يمثّل أساس علم الفلك التعاليمي الذي يستعمل الرّياضيات كأداة للتّنبؤ بما يطرأ على الأجرام ولا يولّي أي اهتمام للكيفيّة التي تقع بها.
مرصد مراغة
تأسّس هذا المرصد سنة 1259م في إيران تحت إدارة عالم الفلك والمعادن والرياضياتي والفيلسوف وعالم الدّين نصير الدين الطّوسي (1201 – 1274). وقد اعتبرت المراصد الفلكية بين القرن 9م و القرن 16م، على غرار المستشفيات والجامعات صروح هيبة وقوة يجب على كل مدينة من مدن الدّولة الإسلاميّة امتلاكها. ومثّلت المراصد ملتقى ثلاث طرق أنشطة فلكية رئيسية: الرياضيات، الرّصد والاختبار وذلك منذ بداية أشغال مرصدي بغداد ودمشق (حوالي 828 م). 
يتكون مرصد مراغة من أربعة طوابق وثلاثة أجزاء رئيسية منها برج مركزي ومكتبة تعدّ 400000 كتاب مجلّد. وقد أجريت فيه دراسات فلكيّة دامت فيها الأرصاد على فترات زمنيّة طويلة امتدت من 20 إلى 30 سنة باعتبار أنّ بعض الأجرام لها دورات كبيرة مثل كوكب زحل الذي يقوم بدورة كاملة حول الشمس في 29 سنة ونصف. وقد طوّرت فيه أدوات الرّصد التي مكّنت من بلوغ نتائج غاية في الدّقة رغم الاعتماد على العين المجرّدة في الرّصد حيث لم تخترع بعد المناظير الفلكيّة. 
 كان الهدف الرئيسي من وراء تأسيس هذا المرصد هو ابتكار نماذج لمنظومات كوكبيّة موحّدة المركز وهو الأرض مختلفة عن نماذج بطليموس التي ظهرت تناقضاتها وعيوبها إثر وضعها تحت المجهر العقلي لعلماء الحضارة العربيّة الإسلاميّة. مثّل المرصد خلال قرن من الزّمن مركز جذب لأكبر العلماء في تلك الفترة. وقد تمكّن الطّوسي سنة 1260م خلال أبحاثه التي أجراها بالمرصد من التخلّص من «منحرف المركز» وذلك من خلال البرهنة على إمكان التّحصل على حركة خطّية انطلاقا من حركة دائريّة منتظمة. فقد ابتكر أداة رياضياتيّة جديدة تُعرف الآن باسم «مزدوجة الطّوسي» مكّنته من الاستغناء عن «منحرف المركز» الذي تسبّب لنماذج بطليموس في العديد من الصعوبات وكانت وراء البحث عن بدائل لها.
مر العمل بالمرصد بثلاث مراحل أساسية :
* المرحلة الأولى وهي مرحلة العالم محي الدّين الأوردي  (ت. 1226) الذي كانت مساهمته نظرية بحتة حيث راجع حركات كلّ الأجرام واحدا بواحد.
* المرحلة الثانية وهي مرحلة نصير الدين الطّوسي (ت. 1274) الذي بدأ عمله بوصف حركات الأجرام معتمدا على نموذج بطليموس رغم الصّعوبات التي تعتريه. ورغم المجهود الرّياضياتي الذي بذله لم يستطع التخلّص من تعقيداته. ومن أبرز نتائج المجهود النّظري الذي بذله ابتكار فرضيّة مساعدة كما سبق أن ذكرت وهي مشهورة في الهندسة وتسمّى «زوج الطّوسي». استعملت تلك الفرضيّة كثيرا من طرف مبتكرها ومن طرف آخرين لتفسير حركة الكواكب وخاصة كوكب عطارد. 
* المرحلة الثالثة وهي مرحلة بن الشاطر (ت. 1375) – وصلت فيها الأبحاث إلى القمّة حيث وبعد قرابة قرن من الأرصاد والتحاليل الفلكيّة تمكّن بن الشاطر (1305 – 1375) وهو آخر مفكّري مدرسة مراغة من صياغة نموذج للقمر متطابقا بدقة مع المشاهدات الفلكيّة معتمدا على «مزدوجة الطّوسي». إذ وبفضل الأداة الرّياضياتية الجديدة أصبح بإمكان حساب مواقع القمر بدقّة وتفسير تغيّر قطره الظّاهري. كما أنّ لنموذج الطّوسي القدرة على التلاؤم مع حركة الأجرام الأخرى. 
مسالة نيقولا كوبرنيك
يمثّل نيقولا كوبرنيك (1473 – 1543) آخر تلامذة مدرسة مراغة وليس أذكاهم بالنّسبة لعالم الرياضيات و مؤرخ العلوم (Otto Neugeubauer  (1899 – 1990. فقد اكتفى كوبرنيك عام 1543 باستعمال ما توصّل إليه بن الشّاطر وجعل الشّمس في مركز الكون وهو الحدس الذي أدّى إلى خلق ثورة في التّصورات الفلكيّة السّائدة لتلك الفترة، إذ سيطرت فعلا نظريّة بطليموس من القرن 3 قبل الميلاد إلى القرن 16 ب.م. بينها 7 قرون في العالم العربي الإسلامي أين أشبعت تمحيصا ونقدا.
وقد عثر في بولونيا موطن كوبرنيك على مخطوطات عربيّة عام 1937  وثبت أنّ كوبرنيك كان يأخذ عنها ويدّعيها لنفسه. وقد كتب كوبرنيك بحثه الذي أعلن فيه وضعه لنظرية حول دوران الأرض والكواكب حول الشمس والذي  لم ينشر إلاّ عام وفاته أي 1543 خوفا من بطش الكنيسة. 
لقد استعار كوبرنيك معظم الأدوات الرياضياتيّة التي استعملها بن الشاطر ولكنّه عوّض الأرض بالشّمس في مركز المجموعة الشّمسية وهو ما تدل ّعليه الأشكال التي استعملها وهي نفسها عند ابن الشاطر ولم تتغيّر فيها إلاّ الحروف التي أصبحت باللاّتينية.
إن بين الفلك العربي الذي بلغ أوجه عند علماء مدرسة مراغة وفلك كوبرنيك تواصل رياضياتي حسابي ولكن وفي مستوى التّصور الكوني هناك قطيعة واضحة. فإضافة كوبرنيك المتمثلة في وضع الشّمس في مركز الكون عوضا عن الأرض لم تكن ممكنة بدون الأدوات الرياضياتيّة التي أبدعها علماء الّرياضيات العرب المسلمون.
ولا يمكن عدم ذكر مساهمات العلماء المسلمين في المغرب الإسلامي (الأندلس والمغرب). فقد تطوّرت مع أبو إسحاق نورالدين البطروجي الاشبيلي خاصّة والمعروف في الغرب باسم Alpetragius (ت. 1204) في أواخر القرن 12 مقاربة فلكيّة ذات أساس فلسفي بحت. لم تمكّن تلك الطريقة من إجراء أي حسابات فلكيّة ولم تتمكن بالتالي من تأكيد أو نفي نموذج بطليموس. 
إن المرور مباشرة من بطليموس إلى كوبرنيك وتجاهل قرون عديدة من الرّصد والجهد النظري العربي لا يسمح بفهم الثّورة التي أحدثها كوبرنيك. فأعمال هذا الأخير ما هي إلا امتداد لأعمال الفلكيين في الحضارة العربيّة الإسلاميّة وإن مثّلت قطيعة على مستوى النّموذج الكوني بإزاحة الأرض عن المركز وإبدالها بالشّمس. فلو لم تكن أعمال بن الشاطر المتعلّقة بالمنظومة أرض-قمر وما استعمله من أدوات حسابيّة للتوصّل إليها لما أمكن بناء نموذج كوني مركزه الشّمس وقادر على وصف الأرصاد والقيام بحسابات  لمواقع الأجرام تتطابق نتائجها مع الأرصاد الفلكية.
  -----
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr