أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة الثامنة : رب العالمين
 رب العالمين
أوّل أسمائه ورودا في القرآن الكريم في التّرتيب النّهائي الأخير، إذ تصدّرت سورة «الفاتحة» ذلك الكتاب وجاء فيها قوله إفتتاحا ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ). فهو إذن أوّل إسم إختاره لنفسه بهذا الترتيب سبحانه. وهو إسم مركب بصيغة إضافية ( مضاف ومضاف إليه ) وهو كما رأينا كثير الورود وليس هو الأكثر ورودا. ورد هذا الإسم المركب بهذه الصيغة ( رَبِّ الْعَالَمِين ) زهاء أربعين مرّة
المعنى اللغوي
ربّ : من فعل ( ربب) ثم أضحى تيسيرا عربيا معروفا ( ربّ ) أي بتشديد الباء وحذف الأخرى مثل شدّ من شدد وحدّ من حدد وقدّ من قدد وغير ذلك لا يحصى، والمرجع هو أنّ لسان العرب سماعي لا مكتوب فكان نطق فعل ( ربب ) ثقيلا فلا بدّ من تيسيره. ربّ يربّ ربّا أي قام عليه قياما يغنيه ولا يحتاج معه إلى أحد سوى ربّه الذي يربّه ولذلك تقول العرب : فلان ربّ الفرس أو فلانة ربّة البيت أي من يقوم على شأن ذلك الفرس ومن تقوم على شأن ذلك البيت وورد في القرآن الكريم قوله سبحانه على لسان يوسف عليه السلام وهو في السّجن من بعدما علم أنّ أحد صاحبيّ الرّؤى سيطلق سراحه ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) أي أذكرني عند الملك الذي يربك ويقوم على شأنك أني أعبّر الأحلام أملا في إطلاق سراحه. 
الربّ إذن هو من يقوم على مربوبه قياما كاملا فهو عليه قيّوم ويرعى شأنه كلّه. الله سبحانه هو ربّ كل شيء ـ بل ربّ العالمين ـ كما إعترف بذلك النّاس كلّهم أجمعون من مشركين وأهل كتاب ومسلمين وغيرهم من أوّل الخليقة إلى آخرها بما علموا جميعا من ربوبيّته القاهرة فوقهم إذ لم يتردّد المشركون طرفة عين أن يعترفوا أنّ من خلقهم وخلق السّموات والأرض هو الله وحده سبحانه. إعترفوا له بالرّبوبية ولكن جحدوا إلهيته إذ لم يخلصوا له الدّين فتوجهوا ببعض عباداتهم إلى غيره سبحانه وذلك هو الشرك في حقيقته العارية. 
نستخدم نحن اليوم فعل التربية من ربّى يربّي تربية وتربّى يتربّى تربيا وهو مشتقّ من الجذر اللّغوي الأول ( ربّ ) الذي هو ثلاثي كما تقدّم ولكن تيسيرا للنّطق أضحى ينطق مضعّف الباء ويرسم كذلك. كما نطلق ذلك على تربيّة النّحل مثلا أو معجون ما من المعجونات التي نأكلها، وكلّ ذلك يؤكدّ معنى القيام على الشّيء المربوب قياما به يكون صلاحه، فالرّبوبيّة إذن تكون من الأعلى نحو الأدنى ومن الأكبر نحو الأصغر ومن الأقوى نحو الأضعف والإلهيّة تكون في الإتجاه المعاكس وبذلك يكون إنسجام وتجاوب بين المربوب وربه.
العالمين
أصلها العالَمون أي جمع عالم بفتح اللاّم ولكن كسرت لأنّها مضاف إليه في هذا السّياق : ربّ العالمين. العالم هو مجموع الأشياء والأمور التي نراها أو ندركها أو نقدرها بما حوى الكون وما يمكن أن يتسلّل إلى ذهن المرء من وجود، وإنّما جاءت هنا بصيغة الجمع حتّى نؤمن أنّه سبحانه هو من يقوم على شأن كلّ عالم عرفناه أم جهلناه وتخيّلناه أم أدركناه، إذ هو في الحقيقة عالم واحد ولكن صيغة الجمع توحي بعظمته سبحانه فلا يندّ عن ربوبيته عالم واحد من تلك العوالم، فلا عالم الإنس يندّ عنه ولا عالم الجنّ ولا عالم الملك ولا عالم السّماوات ولا أيّ عالم يمكن أن يكتشفه الإنسان أو يتخيّله. 
نسبة العلم إلى العالم مفردا أو إلى العالمين جمعا هو أنّ العلم الذي يمكن أن يدركه المرء مصدره العالم ويكون المرء عالِما بكسر اللام بقدر ما علم وأدرك من العالَم بفتح اللاّم. فإذا كان العلم مصدره العالم بكلّ أبعاده، فإنّ الله سبحانه هو ربّ العالمين كلّها، فهو إذن ربّ العلم ومصدر العلم وهذا يزيدنا إيمانا به وبعظمته وقدرته. كما يمكن أن نستلّ من جذر ( العالَم ) بفتح اللاّم ما يشعر به المرء علما شاخصا منصوبا ولذلك سميت الأفلاك الجارية في البحر أعلاما لأنّها مشخّصة منصوبة مرتفعة تبصر عن بعد ومثلها الجبال وغير ذلك. العالم إذن يحيلنا لغة إلى معنى البروز والظّهور والشّخوص والله سبحانه هو ربّ العالمين الشّاخصات البارزات الظاهرات وهو معنى يغرس في الإنسان معنى التّواضع لرّب العالمين سبحانه وهو يسأل نفسه حتما من نصب هذه الجبال الشّاهقات ومن أجرى هذه الأفلاك العائمات ومن أنار تلك الكواكب العلامات في السّماء ترى ولا تدرك. كما يحيلنا الجذر نفسه إلى معنى الوجود والكينونة، فهذا عالم نراه وذاك عالم نشعر به فؤادا ولا نراه وعالم آخر نسمع عنه حقائق أو أساطير وغير ذلك ممّا يمكن أن يتصوّر الإنسان أو يراه. كلّها عوالم مرئيّة أو مخفيّة والله سحبانه هو ربّها ومن كان ربّ العالمين بكلّ تلك الأبعاد والمعاني فلا بدّ أن يُخشى ويُعبد عقلا . العالمون هو كلّ شيء ما عدا الله سبحانه.
لم ورد هذا الإسم المركب أوّلا؟
أراد سبحانه أن يعرّفنا بعد ذكر إسمه العلم مباشرة ( الله ) أنّه هو ربّ العالمين. لم؟ لأنّه يريد منّا أن ننظر في أنفسنا وفي الكون من حولنا وفي كلّ العالمين التي ندركها أو نتخيّلها، فإذا نظرنا إليها في جلالاتها وعظائمها فإنّ السّؤال البديهي هو: من خلق هذا ومن يربّ هذه العوالم قائما عليها بما كسبت؟ والجواب لن يكون عدا أنّ الله سبحانه هو من يربها ويقوم عليها خلقا وتنشئة وتطويرا وتغذية وتسييرا، وهي عوالم لا يمكن حدّها حتّى لو كانت تلك العوالم لنا معلومة مرئيّة من مثل عالم الطّير أو عالم النّمل أو عالم النّحل أو عالم الكلاب أو عالم العجماوات والبكماوات وهي آلاف الآلاف أحجاما وسرى فما بالك بعالم الإنس وعالم الجنّ وعالم الملائكة وعالم الأرض وعالم النّجوم والكواكب وعالم النّبات، والعلوم اليوم تقذف إلينا في كلّ يوم تقريبا بعوالم أخرى من الموجودات التي لا ترى إلاّ بالمجاهر العصريّة من مثل عالم المنيّ وحيواناته وعالم الميكروبات وغير ذلك. هو سبحانه ربّ كلّ تلك العوالم التي نستقي منها العلوم والمعارف مصدرا. كلّها عوالم جديرة بالمعرفة إذ أن العلم بها يقربنا منه سحبانه زلفى ومن ذلك أنه سبحانه جمعها جمعا مذكرا سالما إذ قال عن نفسه أنه رب العالمين وليس رب العوالم جمع تكسير ليشعرنا بقيمتها وأنها مقدرة عنده، فهو ربّها وأنّها لنا مصدر علم ومعرفة. وفي هذا التّركيب ووروده أوّلا معنى آخر وهو أنّه يريد أن يقول لنا أنّ كلّ تلك العوالم ممّا علمنا وما جهلنا منها أكبر وأكثر معترفة بربّها تسبّح بحمده وكلّ منها قد علم صلاته وتسبيحه، والمعنى هو أنّ الإنسان لا يليق به وقد كُرّم بالعقل والعلم والإرادة والحرّية سوى أن يسلك المسلك نفسه وهل يشذّ الإنسان أو عالم الإنس عن تلك العوالم؟ أبدا. هو عالم من تلك العوالم فما يليق به سوى الإعتراف بحقّ الرّبوبيّة وحقّ الرّبوبيّة هو العبوديّة.
الربوبية تسبق الإلهية
أخبرنا سبحانه عن ربوبيّته العالمين كلّها وذلك قبل أن يطلب منّا تجاوبا حسنا يليق بإنسانيتنا عبادته أي تأليهه وهو ترتيب منطقي عقلي مقصود فهو يخبرنا عن كونه لنا جميعا ربّا، فإذا طلب منّا عبادته وتأليهه كان ذلك مفهوما ومعقولا وليس طلبا من فراغ كما يطلب الوالد من ولده تقديرا وهو لم يخلقه أو كما يطلب السيد من عبده خدمة وهو لم يرزقه فكيف بمن خلق ورزق وصور ثمّ ملك ملكيّة تامّة مطلقة؟. أليس حقّه التّأليه والعبادة؟. الرّبوبيّة هي الإخبار منه سبحانه وجوابها الأليق هو العبادة منّا، فهي سابقة عن العبوديّة ومقدّمة للإلهيّة إذ أنّ من يربك ربوبيّة لا تحتاج بعدها لأحد معه أحقّ بالعبادة وأولى بالتّأليه، والإنسان جبل على حبّ من أحسن إليه كما قالت العرب بحقّ.
لم جاء هذا الإسم المركب بدلا؟
جاءت كلّ القراءات القرآنيّة برواياتها متواضعة على أنّ ( ربّ العالمين ) مكسورة وذلك لأنّها بدل في الإعراب النّحوي العربي والمبدّل منه هو ( الله ) ولك أن تقول : الحمد لربّ العالمين أي أنّ ( الله ) مبدّل منه و( ربّ العالمين ) بدل ولم ترد أي قراءة بفصل ( الله ) عن ( ربّ العالمين ) لتكون هذه جملة إستئنافيّة وهو يجوز لسانا ولكن جاء النّظم القرآني العظيم بصيغة الإبدال ليخبرنا سبحانه أنّ الله الذي إستوجب الحمد كلّه سواء حمد الحامد أو جحد حمده الجاحد هو نفسه ربّ العالمين وألاّ يتوهم متوهّم أنّ الله شيء وربّ العالمين شيء آخر وصيغة الإبدال تقوم على علاقة الإنابة والتّفويض بين مركّبات الإبدال. 
الله نفسه سبحانه الذي سيطلب منّا بعد ذلك عبادته وتأليهه عرفانا بربوبيّته لنا وللعالمين جميعا هو ربّ العالمين وبذلك جرت الأسماء الحسنى الأخرى في بداية الفاتحة مثل : الرّحمان الرّحيم ومالك يوم الدّين، إذ كلّها أبدال، ومناسب جدّا في النّظم القرآني العظيم أن يبدأ الله سبحانه بتقديم نفسه للنّاس وركّز ذلك وكثفه في أسماء ثلاثة تلخص هويّته فهو الله وهو نفسه ربّ العالمين معلنا ربوبيّته التي لا ينازعه فيها أحد خلقا ورزقا وتصويرا وملكا وإحياء وإماتة وهذا يستوجب البعث إن شاء والحساب والقهر ثم يستوجب العبادة والتّأليه وهو نفسه إبدالا متتابعا الرّحمان الرّحيم بالكسر أن ييأس من رحمته يائس أو يقنط من فضله قانط وهو نفسه سبحانه مالك يوم الدّين ( أو ملك أو مليك بحسب إختلاف الرّوايات والقراءات ) بالكسر دوما ليعمّق فينا الإيمان بيوم الدّين أي يوم القيامة نذارة وبشارة معا. 
هو ربّ العالمين : عالم الدّنيا وعالم الآخرة من جهة وهو الرّحمان الرّحيم في ذينك العالمين كذلك : عالم الدّنيا وعالم الآخرة ولا يليق بربّ العالمين سبحانه سوى أن يكون هو نفسه الرّحمان الرّحيم وأن يكون هو نفسه مالك يوم الدّين فلا يتوجّه بالعبادة والعمل عامل ولا عابد إلى أحد سواه. كيف وإليه وحده المصير؟
ثم جاءت التفصيلات من بعد ذلك تترى
تلك هي طبيعة القرآن في نظمه العجيب وخاصّة في السّورة التي جعلها جذرا ينبت جذوعا وأغصانا وثمارا وظلالا أي سورة الفاتحة التي يكون موضعها من الكتاب كلّه هو موضع ما نسميه اليوم ( فهرس الكتاب ) أي الفكرة الأساسيّة المكثّفة والمركّزة التي تلخّص الكتاب وتختصره، ثم يعقبها ما يشرحها ويبينها ويبسطها وينثر معانيها. ذكر هنا فيها أنّ الله هو ربّ العالمين ثم جاءت تفصيلات العالمين في الكتاب منثورة بالعشرات فهو ربّ السّموات وربّ الأرض وهو ربّ العرش العظيم وهو ربّ النّاس وهو ربّ كلّ شيء وهو ربّ الشّعرى وهو ربّنا وربّ آبائنا وغير ذلك من التّفصيلات التي لا تكاد تحصر لهذا الإجمال الجميل العظيم ( ربّ العالمين ). وتلك التّفصيلات صور من معنى العالمين لأنّها كلّها تنتمي إلى العالمين.