في العمق
بقلم |
أ.د.عماد الدين خليل |
مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني (الحلقة السادسة والأخيرة) |
والآن لنأتي للتأشير على بعض ما أراد اللّه أن يقوله بخصوص الجمال؟ السّماء الدّنيا القريبة زيّنت بكواكبها ومصابيحها للنّاظرين إليها من الكرة الأرضيّة... والأرض الموات ينزل عليها الماء من السّماء فتهتز وتربو وتنبت من كلّ زوجٍ بهيج... والخليقة بنباتها وحيوانها وإنسانها وتكوينها الجيولوجي أريد لها أن تتزيّن وتتنوّع بالألوان المختلفة والغرابيب السّود... والنّاس والدّواب والأنعام تختلف أشكالها وألوانها... والنّخل باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد... واللّه سبحانه وتعالى يقسم باثنتين تثيران الدّهشة لما تنطويان عليه من جمالٍ ساحر : الشّفق والقمر إذا اتسق... وثمّة نداء في كتاب اللّه يحمل دلالته فيما نحن بصدده: ﴿..انظُرُواْ إِلِى ثَمَرهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99) ، والأنعام التي تقدّم لنا منافع كثيرةً بما في ذلك الدّفء والطّعام ... تنطوي هي الأخرى على بعدها الجمالي حيث أن لنا فيها جمال حين تريح وحين تسرح... والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة... والبحار التي تقدّم هي الأخرى خدامتها المنفعيّة للنّاس كافّة ركوباً وإطعاماً ، وتقدّم معها الحلية التي تتزين بها النّساء من لؤلؤ ومرجان ... وثمّة حركة الظّلّ والنّور بكلّ ما تنطوي عليه من هدوء وانسيابيّة وجمال : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً*ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾(الفرقان:45-46).
«إنّها حركة يبلغ من لطفها أنّها تكاد لا تتحرك! ويزيد من لطفها والايحاء ببطئها الشّديد كلمة (ساكناً) مع أنّها لا تتمّ في واقع الأمر:﴿.. وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً !﴾ فمع أنّه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعله ساكناً، إلاّ أنّ وجود اللّفظة يلقي ظلّها في النّفس، وهذا بعض المقصود من إيرادها. وظلّها هو تباطئ حركة الظّلّ حتّى شُبّه بالسّكون. وتلك حقيقة (طبيعيّة) فحركة الظّلّ وئيدة جداً لا تكاد تظهر، لكن التّعبير يجسد هذا البطء ويعطيه (مساحةً) في الخيال، لم يكن ليكتسبها لو كان الوصف تجريديّاً بحتاً بغير تصوير ولا تخيّل. وكذلك تتمّ صورة البطء بتكملة الحركة في الاتجاه الآخر:﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾(الفرقان:46). ولكن لفظة معيّنة هنا تعطي المشهد كلّه معنى عميقاً عجيباً يغير (نغمة) اللّوحة كلّها، ويعطيها روحاً جديدة لا يتيسر بيانها بالألفاظ! إنّها كلمة:﴿إِلَيْنَا﴾، ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا﴾ هذه، الكلمة تخرج اللّوحة من نطاق الأرض المحدود الذي كانت فيه، فإذا بها أمر آخر غير هذه الأرض. إنّها يد اللّه سبحانه وتعالى تمتدّ لتقبض الظّلّ ﴿إِلَيْنَا﴾، إلى اللّه سبحانه وتعالى الذي لا يتحدّد بمكان ولا حيز ولا نطاق! إنّ الظّلّ (المتجسّم) هنا في الأرض، لم يعد كائناً أرضيّاً محدود النّطاق ولكنّه صار... صار ماذا؟ صار شيئاً كونيّاً غيبيّاً مبدؤه هنا في الأرض ونهايته عند اللّه سبحانه وتعالى الذي ليس له انتهاء! وهذا كلّه يتناسق مع سياق الآية الذي ترد فيه مشاهد الطّبيعة في صورة الرّحمة الإلهيّة بالنّاس... وهي جوّ كلّه رحمة وعطف وودّ وإيناس»(1).
ها نحن إذن ازاء المهرجان الجميل الذي أزّينت به حياتنا الدّنيا من أجل أن تتأكّد لنا قصدية الخلق وآيات اللّه في العالم ... ودائماً كان الخطاب القرآني متوجّهاً إلى العلماء : ﴿... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاء ...﴾(فاطر:28). ﴿... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾(الروم:22) لأنّهم الأقدر على سبر غور هذا المهرجان وإدراك سره المعجز وغايته التي تكنس في طريقها كلّ سخفٍ طائش أو صدفة عمياء، فلنتابع ذلك كلّه في كتاب اللّه : ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾(الحجر:16). ﴿..وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ*وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ...﴾(فاطر:27-28). ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافات:6). ﴿... ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ...﴾(الزمر:21). ﴿... وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾(فصلت:12). ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾(ق:6). ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(ق:7). ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾(ق:10). ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ...﴾(الملك:5). ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ*وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾(الانشقاق:16-18). ﴿... انظُرُواْ إِلِى ثَمَرهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99). ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ*وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل:6-8). ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ...﴾(النحل:14). ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾(الروم:22).
ومن الواضح – كما يقول «سوليفان» في «حدود العلم» أنّ حقيقة كون العلم مقصوراً على معرفة البنى، هي حقيقة ذات أهمّية إنسانيّة عظيمة، لأنّها تعني أنّ مشكلة طبيعة الحقيقة لم يبت فيها بعد، ولم يعد يطلب إلينا الآن أن نعتقد بعدم وجود مقابل موضوعي لاستجابتنا للجمال، أو شعورنا السّحري بالاندماج مع اللّه سبحانه وتعالى ... إنّ مثل هذه الأمور يمكن أن تكون مفاتيح لطبيعة الحقيقة، وقد اعتبرت كذلك في كثير من الأحيان. وهكذا فإنّ تجاربنا المختلفة قد أصبحت كما كانت على قدم أكثر تساوياً ... إنّ تطلّعاتنا الدّينيّة وحسّنا الجمالي ليسا بالضّرورة ظواهر وهميّة كما جرى الافتراض في السّابق. وإن من حقّ الرّؤى الباطنيّة (Mystics) أن يكون لها مكان في هذا العالم العلميّ الجديد (2).
إنّ تطلّعاتنا الدّينيّة وحسّنا الجمالي إذاً ليسا بالضّرورة ظواهر وهميّة كما جرى الافتراض في السّابق، يوم أن اندفع العلم المراهق والنّظريّات الاجتماعيّة والنّفسيّة التي بنيت عليه، يضرب هذه التّطلّعات، ويسقط تلك الأحاسيس، رادّاً الحياة البشرية إلى مجموعة ميكانيكية محددة صارمةً من الأفعال وردود الأفعال... مسطّحاً هذه الحياة الكثيفة المعقّدة المتشابكة، مدمّراً امتداداتها المتقاطعة، جاعلاً إيّاها تتحرّك على خطٍّ واحد وفق امتدادٍ واحد، وبأقلّ قدر من تبادل التّأثير بين الذّات والموضوع وأشده انحساراً ... والإنسان، ذلك المجهول:( إذا استخدمنا تعبير كاريل ) أصبح ظاهرة مادّية اخضعت للتّحليل والاختبار، من أجل الوصول بالقسر والإكراه، إلى تفسير نهائي لسلوكه ... فكان يندفع حيناً بتأثير دافعه الجنسي، وكان يتحرّك حيناً آخر على هدى ضرورة عمياء للبقاء والارتقاء، وكان يتطوّر حيناً آخر، مسلوب الإرادة، بضغط التّبدّل في وسائل الانتاج، وكان يمارس حياته حيناً رابعاً من خلال عقل جمعي لا يأبه بحياة الأفراد وخصوصياتهم.
إنّ الكشوف الفيزيائيّة الأكثر حداثةً تترك لنا مجالاً أكبر من الحرّية لكي نضفي الاعتبار أو المغزى التّقليدي على خبراتنا حول الجمال والدّين أو لنقل بالاختصار: إنّها لا تعزّز بصورة إيجابيّة أيّاً من التّفسيرات التي جاءت بها الأديان للعالم، لكنّها تقطع الطّريق على تلك المناقشات التي قامت لتثبت أنّ أيّاً من هذه التّفسيرات (الدّينيّة) ما هو مجرّد وهم. لقد فعلت هذا عندما أظهرت أنّ العلم لا يعالج إلاّ ناحية جزئيّة من الحقيقة، وأنّه لا يوجد أدنى سبب يبرّر الافتراض بأنّ كل ما يجهله العلم أو يتجاهله، هو أقلّ حقيقة ممّا يعرفه(3).
وثمة ما يرتبط بالظّاهرة الجماليّة في بناء العالم ذلك هو اتقان الصّنع ووزن الخلائق والأشياء، فإنّ كلّ شيء عند اللّه سبحانه وتعالى بمقدار:﴿... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندهُ بِمِقْدَارٍ﴾(الرعد:8). وكلّ شيء خلقه بقدر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾(القمر:49). وكلّ شيء موزون وفي موقعه تماماً ﴿... وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾(الحجر:19). وما ينزل إلاّ بقدر معلوم ﴿... وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾(الحجر:21). ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾(النمل:88). ذلك أنّ الذي يطلّ على العالم من فوق، برؤية طائر، يرى هذا الذي يتحدّث به القرآن الكريم، أمّا على مستوى الرّؤية البشريّة من الأرض فإنّ الأمر يختلف، ذلك أنّها لا ترى هذه الحركة الانسيابيّة البديعة المتوافقة مع دوران الأرض حول نفسها، ومن ثمّ يكون هذا الشّاهد دليلاً قاطعاً على مصداقيّة موقف القائلين بالتّفسير العلمي لكتاب اللّه ... حيث هنالك العشرات والمئات من اللّقطات القرآنيّة التي جاء العلم الحديث لكي يؤكّدها.
ونمضي مع آيات كتاب اللّه في تأكيد اتقان الصّنع ووضع الخلائق والأشياء كلّ في مكانه المرسوم من خارطة بناء العالم: الإمساك بالسّماء أن تقع على الأرض:﴿...وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ...﴾(الحج:65).﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...﴾(المؤمنون:71). ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات:47). ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾(الذاريات:48). ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾(الرحمن:19-20 ). ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ*قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(القصص:71-72).
إنّ بناء العالم ليس حالة استاتيكيّة ساكنة، إنّما هو الخلق المستمر حيث لا يكفي أن يقول اللّه سبحانه وتعالى للخلائق والأشياء كوني فتكون، ولكنّه يصيّرها من حالٍ إلى حال. فالكينونة والصّيرورة هما المبدآن اللّذان قامت عليهما شبكة السّماوات والأرض ... وهذه الرّؤية القرآنيّة لمسألة الخلق تنفي بالضّرورة ما يسمّى بنظريّة السّاعة التي يقول أصحابها بأنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الكون والعالم ووضع فيهما القوى والعوامل التي تسيرهما ذاتيّاً وسحب يده (تعالى اللّه عن ذلك) من التّدخّل في مسيرتهما ... فها هي إرادة اللّه 9 بعد خلق الكون والعالم، ماضيةً في فاعليتها، وحضورها الدّائم، ورقابتها الأبديّة التي لا تندّ عنها صغيرة ولا كبيرة، مهما دّقت وتضاءلت ... وفي خلقها وإبداعها المتواصل دقيقةً بدقيقة، ويوماً بيوم، فيما نعلم وفيما لا نعلم، فيما نرى ونحسّ، وفيما لا نرى ونحسّ... في المجرّات والسّدم والنّجوم عبر مساراتها، وكتلها الكبرى، وفي النّيوترونات والبروتونات وهي تجري بخفاء في مساراتها التي لا ترى داخل الذّرّات... إنّ اللّه 9 حاضر بعلمه وإرادته معاً في تسيير شؤون الخليقة ... بخلقه وأمره معاً في توجيهها صوب الوجهة التي يريدها وحده، إلى أجلها المسمى في علمه. فأيّ سخفٍ هذا الذي ينطلق منه أولئك القائلون بنظريّة السّاعة : ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾( النجم:23).
وها هي آيات القرآن الكريم تدير كاميرتها على هذه الظّاهرة من أطرافها كافة، وهي كثيفة مزدحمة، ولذا سنكتفي بمتابعة بعض شواهدها فحسب : ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(النحل:40). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾(الحج:65). ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾(الحج:70). ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾(المؤمنون:17). ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾( النور:44). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(العنكبوت:19). ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(العنكبوت:20). ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدهُ مِن بَعْدهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ...﴾(لقمان:27). ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾(الكهف:109). ﴿... وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾(فاطر:11). ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ*لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾(الزمر:62-63). ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(غافر:57). ﴿... وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ...﴾(فصلت:47). ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات:47). ﴿... يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(الحديد:4). ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ*لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(يس:40). ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ...﴾(الملك:21). ﴿قُلْ أَرَأَيْتُـمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُـمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُـم بِمَـاء مَّعِينٍ﴾(الملك:30). ﴿... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف : الآية 54 ). ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾(النحل:17). ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الروم:27). ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾(يس:36).
يكفي أنّه إذا أراد شيئاً أن يقول له:﴿كُن فَيَكُونُ ﴾، فكيف تتوقّف فاعليته بعد خلق الكون والعالم؟ يكفي أنّ الفلك تجري في البحر بأمره، بهذا الفعل الذي يدلّ بانفساحه على المدى أنّه ماضٍ في الحاضر والمستقبل. يكفي أن يمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، فيما يمثّل رقابة إلهيّة دائمة وماضية إلى أجلها المسمى ... يكفي أنّه بعد خلق الطّرائق السّبع عقب على ذلك بقوله : ﴿... وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾(المؤمنون:17). فكيف يسحب يده وحاشاه وهو يطلق هذه المقولة؟ يكفي إنّه 9 يقلّب اللّيل والنّهار فيما يدلّ على الفاعليّة الدّائمة في هذا التّقليب المعجز .
يكفي أنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه، وأنّ ذلك عليه يسير يسير. يكفي أنّه يبدأ الخلق ثم يُنْشِئُ النّشأة الأخرى وأنّه على كلّ شيءٍ قدير. يكفي أنّه ما من أنثى تحمل أو تضع إلاّ بعلمه، وما يعمر من معمر أو ينقص إلاّ بعلمه. يكفي أنّه خلق كلّ شيء وأنّه على كلّ شيءٍ وكيل وأنّ له مقاليد السّماوات والأرض. يكفي أنّه ما من ثمرة تخرج من أكمامها إلاّ بعلمه. يكفي أنّه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السّماء وما يعرج فيها وأنّه معنا أينما كنّا، بصير بأعمالنا، خبيرٌ بنبضات أفئدتنا وقلوبنا .
يكفي أنّه يتكفّل بإرسال رزقه إلينا صباح مساء، وبإمدادنا الدّائم بالماء الذي هو أساس الحياة. يكفي أنّ السّماء التي بناها بيديه جلّ شأنه تتّسع يوماً بعد يوم... يكفي أنّه يلاحق اللّيل والنّهار يطلبه حثيثاً، وأنّ الشّمس والقمر والنّجوم مسخّراتٍ بأمره، وأنّ له الخلق والأمر. يكفي أنّه سبحانه وتعالى خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسنا وممّا لا نعلم، هكذا عبر الأفق الزّمني المفتوح ...
وأخيراً وليس آخراً أفلا يكفي أنّ خلقه سبحانه وتعالى يتجدّد باستمرار، ويمضي في طريقه مبدعاً معجزات الخلق التي لا أوّل لها ولا آخر، وهو القائل 9 : ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدهُ مِن بَعْدهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ...﴾(لقمان:27). وهو القائل 9 : ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾(الكهف:109). بعد هذا العطاء الغزير، والدّائم، والمتجدّد، والماضي إلى يوم الحساب، ألا يحقّ أن يتلقى الملاحدة والكفرة والشّكوكيّون والقائلون بنظريّات السّخف الطّائش القائم على الصّدفة والتخلّق الذّاتي للطّبيعة، بعيداً عن إرادة اللّه ... ألا يحقّ أن يتلقّى هؤلاء صفعةً قويّةً لعلّها تردّهم إلى الصّواب : ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:17).
الهوامش
(1) محمد قطب : منهج الفن الإسلامي ، ص 222-223.
(2) حدود العلم ، ص 39-40.
(3) المرجع نفسه ، ص 48-49.
|