عبق التراث

بقلم
خالد إغبارية
اللهجات الفلسطينية والتراث الفلسطيني (3-4)
 محاولة طمس التّراث واللّهجة الفلسطينيّة: 
 قام العدو الصّهيوني بترسيخ فكرة أنّ التّراث الشّعبي عبارة عن مادّة غير جديرة بالاحترام، فهي تدلّ على التّخلّف والعقليّة القديمة التي لا تتناسب مع حياتنا الحاليّة ومع التّقدم الذي نطمح اليه، ودعم هذه الفكرة بالعمل على تشتيت الشّعب الفلسطيني وتقطيع أوصاله وإبعاده عن أراضيه الأصليّة لتجعل منه أقليّات مشتّتة تعيش على أراضيها المحتلة أو خارجها، وبذلك تبعدهم عن مجتمعاتهم ومجموعاتهم التي يمارسون ضمنها عاداتهم وتقاليدهم وحرفهم وحياتهم اليوميّة التي انتقلت لهم عبر الأجيال، وقد تحدّث البروفيسور «ريتشارد فولك» المقرّر الأممي السّابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ67، في لقاء له عن هذه السّياسة قائلا: «إسرائيل تعمدت تشتيت الشّعب الفلسطيني وجعلت منه أقليّات تعيش داخلها وتمارس ضدّهم جريمة التّمييز العنصري»(1).
وصوّرت الباحثة «فرانسواز شاتوني»(2) مملكتي إسرائيل ويهودا بحجم أكبر بكثير من حجمهما، ونذكر فيما له علاقة بالتّراث أنّ الباحثة استغلّت الإصحاح السّابع والعشرين من سفر «حزقيال» في العهد القديم الذي قدّم تفاصيل عن الحياة الاقتصاديّة لمدينة صور الكنعانيّة الفينيقيّة وخاصّة النّشاط التّجاري، وتحدّثت عن سلع تاجر بها أهل يهوذا وإسرائيل في سوق صور، من هذه السّلع (الحلاوي) و(زيت الزّيتون)، حيث ناورت الكاتبة كثيراً لتقنع القارئ أنّ هذه المنتجات احتلاليّة بالرّغم من أنّ شاهد «حزقيال» لا يعطي تفاصيل عن هذه السّلع بل يعدّدها تعداداً، ومع ذلك تناولت «شاتوني» الحلاوي على أنّها منتوج إسرائيلي محلّي، مبرّرة ذلك بأنّ الحلاوي هي لفظة موجودة في العبريّة القديمة بصيغة «بينج». وإذا عدنا إلى علم اللّغات نجد أنّ أصل الكلمة يعود إلى الأكاديّة كما توجد في الحثيّة، وفي جميع الألفاظ هي تعني طعام حلو المذاق إمّا من الحبوب أو من الكعك.
تحدثت «شاتوني» أيضاً عن زيت الزّيتون وحاولت نسبه للمنتوجات الإسرائيليّة وهو يدعى «شمن»، حيث تحدّثت بخيال توراتي عن صناعة الزيت الإسرائيلي والتجارة به، وهذا الأمر نفاه العهد القديم بشدّة، وقد أمعنت «شاتوني» في تحريفها متحدّثة عن معاصر اكتشفت في مواقع كنعانيّة مثل «لايشوتمنة» و«سهل جزريل»، فقالت: «إنّ هذا النّوع من المعاصر يدلّ على التّطوّر التّقني المحسوس في مجال عصر الزّيت واستخراجه، وقد أسهم هذا في وفرة الإنتاج وأدّى إلى الإقبال على التّجارة الإسرائيليّة باتجاه فينيقيا خاصّةً». وهذه المعلومات لا يمكن قبولها لأنّها بلا أدلّة؛ فالمعاصر المكتشفة هي معاصر كنعانيّة وهي جزء من التّقاليد التّراثيّة الكنعانيّة في الصّناعات الغذائيّة التي عرفتها جلّ المدن الكنعانيّة الفينيقيّة.
وإذا عدنا إلى العهد القديم فإنّنا لا نجد أيّ حديث عن معاصر زيت، كما نجد أنّ التّقنية الوحيدة لاستخراج زيت الزّيتون هي تقنية دوس الزّيتون بالأرجل حسب شاهدين إثنين الأوّل في سفر «التّثنية» جاء فيه «وطبل بشمن رجلو» أي «يغمس في الزّيت رجله»، أمّا الشّاهد الثّاني فهو سفر «ميكا» وجاء فيه «أنّه تدرك زيت ولا تسوك شمن»  أي «أنت تدوس زيتوناً ولا تدهن بزيت»، إذاً فدوس الزّيتون بالأرجل لا يمكن أن ينتج كمّيات كبيرة من الزّيت كافية أو صالحة للتّصدير وإنّما هي للاستهلاك الشّخصي الفوري كالدّهن حسب شاهد ميكا. وبهذا عملت «شاتوني» على مغالطة القارئ والتّغطية على شواهد في العهد القديم والقراءة الانتقائيّة والإجتزائيّة لهذه الشّواهد من أجل تصوير الاحتلال كواقع حضاري ملموس في المنطقة ومحو الواقع الحضاري التّراثي الأصيل. 
وقام «موسى شابيرا» عام 1887م بتزوير المئات من القطع، ووضع عليها كتابات قديمة وادّعى أنّها آثار مؤابيّة «Moabitica»، وادّعى أنّه عثر عليها قرب البحر الميت، وقام بتزوير بعض أسفار التّوراة، وقد اغترّت بعض المتاحف وبعض المختصّين بادّعاءاته، حتّى أنّ البعض اشترى منه مئات القطع وقام بعرض البعض الأخر لفترة إلى أن اكتشف زيفها.
وفي عام 2002م أُعلن في مؤتمر صحفي بالولايات المتّحدة عن اكتشاف صندوق صخري يعتقد أنّه يحتوي على رفاة يعقوب أخو المسيح عيسى الذي قتل سنة 26م، قيل أنّه نُقش عليه «يعقوب باريوسف أخوي دي يشوع» وتعني «يعقوب بن يوسف أخو يشوع»، وقد أثّر هذا الخبر ليس في الآثاريين فحسب وإنما في المسيحين أيضاً إذ رأوا في هذا الاكتشاف دليلاَ قاطعاً على تاريخيّة عيسى بعد أن أخذ البعض يشكّك حتّى في وجوده. كان الصّندوق بحوزة تاجر الآثار الإسرائيلي «عويديد غولان» الذي ادّعى أنّه لم يكن يعرف أهمّية الصّندوق إلاّ بعد أن عرضه على أحد الخبراء وقرأ له ما كتب عليه من نقش. ثمّ عرض الصّندوق في أحد متاحف كندا وبقي هناك فترة طويلة، كان عشرات الآلاف من النّاس يقفون أثناءها في طوابير لمشاهدته والتّمتّع برؤيته بل والصّلاة عنده، لكنّ بعض الباحثين والمهتمين بالنّقوش القديمة شكّكوا في أصالة هذا الصّندوق وفي طبيعة النّقش وطريقة كتابته، وأعلنوا أنّ النّقش حديث على الرّغم من قدم الصّندوق، وتبيّن بعد الفحص أنّ على سطحه أثار مياه حديثة، وكان السّبب الذي أعطاه «عويديد» لذلك هو أنّ أمّه كانت تمسحه بالماء والصّابون من دون معرفتها لقيمته. وهكذا افتضح أمر «عويديد» واتهم بالتّزوير وسمّي هذا التّزوير «تزييف القرن». كان القصد من كلّ هذا إثبات الوجود التاريخي لليهود على الأراضي الفلسطينيّة بواسطة آثار ملموسة إضافة إلى إثبات قوّتهم وسلطتهم على الأرض.
كما عمل العدو الصّهيوني جاهداً على تدمير التّراث الحضاري في فلسطين، حيث تعرّضت الكثير من الأماكن الأثريّة إلى الاعتداءات الإسرائيليّة التي أخذت أشكالاً متعدّدة منها أعمال التّدمير والإهمال وأعمال الحفر التي تقوم بها إسرائيل أسفل المسجد الأقصى والأضرار التي تعصف بالمدينة المقدسة وما يجري من تدمير ممنهج لمدينة القدس، وقد وصل التّدمير إلى حرق المسجد الأقصى عام 1969م ، نضيف إلى ذلك بناء المستوطنات ومعسكرات الجيش على الأراضي الفلسطينيّة والتّلال الأثريّة القديمة، والتي تشكّل عائقاً أمام حماية التّراث الثّقافي بدورها العازل بين المناطق الفلسطينيّة وأسر حرّية الفلسطينيين وبالتّالي عدم قدرتهم على حماية تراثهم الثّقافي، هذا بالإضافة لعمليّات النّهب والاتجار غير المشروع بالآثار والذي يسهم الاحتلال في تشجيعها، وعدم سيطرة الفلسطينيين على المعابر والحدود والتي تعتبر من أهم التّهديدات التي تواجه التّراث الفلسطيني وتساعد على تهريبه ونقله إلى الخارج.  ونضيف إلى كلّ ما سبق عمليّات التّجريف والإزالة لمناطق التّلال القديمة ممّا يؤدّي إلى اندثار الكثير من الآثار، والدّمار الهائل الذي يلحق بالبيوت الأثريّة القديمة بما تحتويه من لوحات فسيفسائيّة وأعمدة قديمة وتيجان إضافة إلى إزالة المباني الدّينيّة كنائس كانت أو مساجد.
انخرط الكثير من اليهود الصّهاينة والإنجليز في مجتمع البداوة في أرض فلسطين والأردن وسوريا وفي مجتمع الفلاّحين، فلبسوا لباس البدو والفلاّحين وأكلوا أكلهم وتعلّموا عاداتهم، ومكثوا سنوات بينهم. عرف هؤلاء كلّ شيء عن العرب وعرفوا نقاط الضّعف والقوّة فيهم، وكتبوا الدّراسات حول ذلك وقدّموها إلى حكوماتهم وساساتهم. وعلى ضوء الدّراسات وعادات الشّعب الفلسطيني وتقاليده وفنونه وأفكاره استخلص الصهاينة نواتج هامّة على المستوى الاستراتيجي كان من أهمّها أنّ تفريغ الشّعب من تراثه هو تفريغ الشّخصيّة من محتواها. هكذا أخذ الصهاينة يستخدمون شتّى الأساليب لسرقة التّراث الشّعبي الفلسطيني وطمسه ومحاربته لأنّ ذلك في نظرهم تفريغا للشّخصيّة الفلسطينيّة من محتواها وبذلك يتمّ القضاء على جانب هام من حياة الشّعب الفلسطيني. 
ومن هذه الأساليب انتحال الإسرائيليّين الحكايات الفلسطينيّة والعربيّة، ويذكر الدّكتور منعم حداد أنّه حتّى صيف عام 1986 كان في أرشيف الحكايات الشّعبيّة «الإسرائيليّة» (18500) حكاية كان قد صُنّف منها (11944) حكاية على أنّها حكايات «إسرائيليّة». ولكن منها ما نسبته 65% حكايات من يهود الدّول العربيّة والإسلاميّة ومنها 215 حكاية فلسطينيّة(3) .
نسمع أيضاً في إذاعة العدوّ الأغاني الفلسطينيّة التي يقول عنها أنّها من تراثه وهي بلهجة فلسطينيّة وكلمات فلسطينيّة، فالصهاينة سرقوا الأغنيّة والحكاية والموسيقى واللّهجة أيضاً، نجدهم يتحدّثون اللّهجة الفلسطينيّة بطلاقة وينسبونها لأنفسهم بالرّغم من عروبة لسان اللّهجة وقربها من اللّهجات الشّاميّة الأخرى. ونجد الفرق الفلكلوريّة تجوب أوروبا، وهي ترتدي الزّي الشّعبي الفلسطيني وتعزف على الشّبابة ألحانا فلسطينيّة عربيّة شهيرة، وتؤدّي الرّقصات والدّبكة الفلسطينيّة، ويقولون إنّها من تراثهم. 
ومن أنواع التّزييف المتعمّد للتّاريخ والتّراث، وفي محاولة بائسة لنزع طابعها العربي والإسلامي وفرض طابع يهودي عليها، قامت السّلطات الإسرائيليّة بتغيير أسماء المدن الفلسطينيّة، فالأثل في بئر السّبع أصبحت: مستوطنة بيت ايشل، وأبو فرج في بيسان أصبحت: تل كفار كرنايم، والجليل في قلقيلية أصبحت: مستوطنة أجليل. ولم تسلم النّباتات الفلسطينيّة التي تنمو في بلاد الشّام والتي تعود بتاريخها إلى عهود ما قبل التّاريخ من القرصنة الاحتلاليّة، حيث عملت الأخيرة على اختيار بعض النّباتات البريّة والزّهور الفلسطينيّة لتمثّلها في حديقة الورود التي أقامتها.
الهوامش
(1) برنامج “لقاء اليوم”بقناة الجزيرة، 30/3/2017
(2) فرانسواز شاتوني، «العلاقات بين مدن الساحل الفينيقي ومملكتي إسرائيل ويهود» لوفان، سنة 1992
(3) د.منعم حداد، «الاستشراق والصهيونية والتراث الشعبي»،