بهدوء
بقلم |
![]() |
د.ناجي حجلاوي |
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(4) «القول بالفروق اللّغويّة» |
لقد شكّلت قضيّة التّرادف إشكالا حقيقيّا بين اللّغويين، وقد جنح العديد من العلماء، من أهل اللّغة، إلى القول بالتّرادف طبقا لسيادة القول به في منظومة ثقافيّة تقرّ بالتّرادف أداة في الفهم. ولربّما كان ذلك تحت تأثير المنظور الشّعري الّذي كان الطّابع المميّز للذّهنيّة والذّائقة العربيّتيْن. ولعلّ ما يحسب للأطروحة القائلة بالتّرادف، أنّها تزوّد المستعمل للّغة بمعجم ثريّ وزاد واسع وبألفاظ عديدة في المعنى الواحد. وبذلك تتّسع دوائر الاختيار والانتقاء بما يناسب مقام القول ويلائمه، حرصا على دقّة التّعبير وجمال الأداء.
وقد تتّسع دوائر القول بالتّرادف لتطال مستوى التّراكيب، إن كانت اسميّة مثل: هو في غرّة شبابه، أو هو في شرخ شبابه، أو فعليّة مثل: لمّ شعثه، أو أصلح ثأوه، أو هانني وأشجاني، أو أسهب وأطنب(1). وعموما، فإنَّ التّرادف يظلّ ثاويا في اختلاف الألفاظ والاتّفاق في المعاني أو التّقارب فيها. وقد عبّر عنه قدامة بن جعفر في قوله: «والإرداف يُراد به الدّلالة على المعنى فلا يُؤتى باللّفظ الخاصّ بالدّلالة على ذلك المعنى بنفسه، بل هو ردفه وتابع له ضرورة، ليكون في ذكر التّابع دلالة على المتبوع»(2).
لكن هناك من العلماء من أنكر الترادف في اللّغة العربيّة من بينهم إبن فارس. فقد انحاز إلى القول بالفروق بين الألفاظ بصفة واضحة، معتبرا أنّ في قَعَدَ معنى ليس في جلس يقول: «ألا ترى أنّا نقول: قام ثمّ قعد، وكان مضطجعا فجلس، فيكون القعود عن القيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس، لأنّ الجلْس: المرتفع، فالجلوس ارتفاع عمّا هو دونه»(3). وكذلك المائدة والخوان، فالمائدة تكون ذات طعام، وأمّا الخوان فلا طعام فوقه، وكذلك الكأس حاوية شراب وإلاّ فهي كوب أو قدح، والكوب ليس له عروة والكوز بعروة. وكذلك الفرق بين عبارتيْ «لا ريب» و«لا شكّ» اللّتيْن دأب الاستعمال على أنّهما شيء واحد، والحال أنّ في كلتيْهما معنى ليس في الأخرى، فالرّيب أقرب إلى التّوهّم وأمّا الشكّ فيكمن في استواء طرفيْن. وهو بذلك أقوى من الرّيب. فالتّرادف المطلق، حينئذ، عزيز المثال وقليل الوجود إن لم نقل غير موجود.
ومازال منكرو التّرادف يعتبرون أنّه محال أن يختلف اللّفظ والمعنى واحد، وإنّما ذلك مجرّد وهم من البعض، لأنّ قبائل العرب قد تكلّمت عن الشّيء الواحد بطبائعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة ووفق ما جرت به عاداتها وما تعارفت عليه، وإذ لم يقف السّامعون على الفروق بينها ظنّوا أنّها بمعنى واحد وتأوّلوا على العرب»(4). فما ذهب إليه الظّن، حينئذ، من كونه ترادفا إنّما هو آت من اللّهجات واختلاف اللّغات. ولقضيّة التّرادف صلة بالعطف وأدواته. فالعطف بين الأسماء قد يشي بالفروق بينها، رغم التّقارب في المعنى. يقول أبو هلال العسكريّ: « إنّ جميع ما جاء في القرآن وعن العرب من لفظيْن جارييْن مجرى ما ذكرنا من العقل واللّبّ، والعلم والمعرفة... معطوفا أحدهما على الآخر، فإنّما جاز ذلك فيهما لما بينهما من الفروق في المعنى، ولولا ذلك لم يجز عطف زيد على أبي عبد الله إذا كان هو هو»(5). وواضح، من خلال ما أورده أبو هلال العسكريّ، أنّ شرط العطف أن يكون الفرق واضحا بين المعطوف والمعطوف عليه. وهو شرط المغايرة. وقد اعتبر محقّق كتاب الرّمّاني أنّ هذا الأمر شطط وتكلّف(6). ومن ثمّ تبلورت رؤية مغايرة مفادها أنّ التّرادف قد يكون بين ألفاظ اللّغتيْن المختلفتين. أمّا في اللّغة الواحدة فلا مبرّر له ولا معقوليّة فيه. وفي هذا الإطار يذهب بعض الأصوليين إلى أنّ أسباب الإقرار بالتّرادف تعود بالأساس إلى ما كانت تثبته بعض القبائل من أسماء عليقة بمسميّات، إذ تضع قبيلة بعينها اسما لشيء وتضع قبيلة أخرى اسما آخر للمسمّى الواحد من غير أن تشعر الواحدة بالأخرى، ثمّ يشتهر الاسمان وتختفي القبيلتان(7). ويبدو أنّ هذا العامل هو الّذي حدا بالرّاغب الأصفهاني إلى القول إنّه: «ينبغي أن يحمل كلام مَن منع التّرادف على منعه في لغة واحدة، فأمّا في لغتيْن فلا ينكره عاقل»(8). والّذي يمكن الخلوص إليه، هو أنّ الأطروحة الأكثر تداولا والأكثر منطقيّة، هي الّتي اتّجه الرّمّاني إلى اختزالها في عنوان كتابه. ومفاد هذه الأطروحة أنّ الكلمات المترادفة عند الخائضين في هذه القضيّة، هي ألفاظ متقاربة في المعنى، وهي، بطبيعتها، تدور حول معنى واحد، فالاسم، في هذه الحالة واحد والصّفات عديدة.
ولقد تعرّض إبراهيم أنيس، بوصفه دارسا للّغة العربيّة، إلى كلا الموقفيْن من التّرادف الجاري في كلام العرب، وهما: الإنكار والإقرار. وقد ارتأى أنّ هذه الظّاهرة بإمكانها أن تتجلّى في اللّغة النّموذجيّة الأدبيّة، ويقصد بها لغة قريش. وإذا أثبت إبراهيم أنيس التّرادف في القرآن الكريم، فقد عاب على المفسّرين جريهم وراء إثبات الفروق بين ألفاظه المترادفة وإسرافهم في القول بذلك (9). ومن الفريق المنكر للتّرادف، من المحدَثين، نذكر محمّد المبارك، الذي اعتبر التّرادف آفة مُنيت بها العربيّة في عصور الانحطاط، ونادى بمزيد التّدقيق في الفروق المعنويّة « والسّبب الّذي دفعه إلى ذلك ما يراه من أنّ المترادفات قتل لخصائص الأدب ومزايا الفنّ الذي يقوم على إبراز المقوّمات الخاصّة والدّقائق الخفيّة»(10). ولربّما كان التّرادف على الصّورة المتّحدة في المعنى نادر الوقوع وقليل جدّا أو قل إنّ وجوده عسير.
وفي إطار تعددت الآراء المتعلّقة بالتّرادف إلى حدّ التّضارب وتجب الإشارة إلى تدعيم ما ذهب إليه إبراهيم أنيس، آنفا، من أنّ لغة قريش كانت حاوية لأكثر من لهجة بوصفها اللّغة النّموذجيّة فتشكّلت فيها عدّة مفردات من اللّهجات الأخرى. يقول ابن جنّي، في هذا الاتّجاه، إنّه: « كلّما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا»(11). ولربّما اضطلع الحجّ بالتّلاقح اللّغوي الكافي في مستوى اللّغة، لأنّ الحُجّاج كانوا يتحاكمون إلى لغة قريش، فيتمّ تخيّر أصفى الكلمات، فيجتمع ما تغيّر من اللّغة ويلصق بالطّبائع والسّلائق(12). إنّ المتأمّل في جذور ظاهرة التّرادف والعوامل المتضافرة في بلورتها، يعثر على ما يُسمّى بهجرة الألفاظ بمفعول التّلاقح بين الثّقافات، والاحتكاك بين الأعراق والأجناس، إن بالتّجارة أو بالتّرحال، فيحصل من ذلك تثاقف من خلال التّأثير والتّأثّر. ويبدو أنّ العربيّة تتميّز بحفاظها على المهجور من الكلام، الذي قد يستعمل في وقت بعينه. وقد تتعرّب بعض الكلمات، الّتي هي من أصول مغايرة لجذور العربيّة من أمثال «الإسفنط» و»الخندريس» الرّاجعتيْن إلى أصول يونانيّة. وهما لفظتان تطلقان على الخمر في العربيّة. وقد تجري بعض الصّفات على ألسنة المستعملين لإفادة معنى واحد مثل العبّاس، التي تطلق على الأسد لعبوسه، وإطلاق صفة الفصل على السّيف لأنّه يفصل أجزاء الجسم بعضها عن بعض (13) .
الهوامش
(1) الرّمّاني، الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى، م س، ص ص 64، 72، 74.
(2) قدامة بن جعفر، جواهر الألفاظ، تحقيق محمّد محي الدّين عبد الحميد، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1985، وبالتحديد مقدّمة المؤلّف، ص7.
(3) ابن فارس، الصّاحبي في فقه اللّغة وسنن العرب في كلامها، م س، ص 12 وما بعدها.
(4) انظر فتح الله صالح علي المصري، مقدّمة تحقيق كتاب الرّمّاني، الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى، م س، ص 21.
(5) أبو هلال العسكري، الفروق اللّغويّة، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، سنة 1981، ص 11.
(6) انظر فتح الله صالح علي المصري، مقدّمة تحقيق كتاب الرّمّاني ، الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى، م س، ص 22.
(7) الرّمّاني، الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى، م ن، ص29.
(8) الرّاغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، المقدّمة، تحقيق: مركز الدّراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، د ت، ص5. ويمكن العودة في هذا الإطار إلى السّيوطي في المزهر، ج1، م س، ص ص 405،406.
(9) إبراهيم أنيس، في اللّهجات العربيّة، نشر مكتبة أنجلو المصريّة، ط5، د ت، ص ص 179، 180.
(10) محمد المبارك، فقه اللّغة وخصائص العربيّة: دراسة تحليليّة مقارنة للكلمة العربيّة وعرض لمنهج العربيّة الأصيل في التّجديد والتّوليد، دار الفكر ، بيروت، ط 3، 1968، ص ص 318، 321. ولقد انقسم اللّسانيّون، بدورهم، إلى فريقين منهم القائل بالتّرادف بصفة جزئيّة ومنهم الرّافض له باعتبار أنّ كلمتين إذا كانتا مترادفتين من جميع النّواحي فما كان هناك سبب في وجودهما معا. انظر أحمد مختار عمر، علم الدّلالة، م س، وبالتّحديد الباب الثالث تعدد المعنى ومشكلاته وضمنه الفصل الثالث الخاص بالتّرادف العنصر الثالث التّرادف بين الإثبات والإنكار، ص ص 224،231.
(11) ابن جنّي، الخصائص، ج1، م س، باب: الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا، ص ص 373، 374.
(12) انظر ابن فارس، الصّاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، م س، ص ص 33، 34.
(13) انظر إبراهيم أنيس، في اللّهجات العربيّة، م س، ص 182.
|