نحو أفق جديد
بقلم |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
غواية اللّغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن |
تميز أحمد فرديد (1) بموهبةٍ وذكاء نادر، وتكوينٍ وخبرةٍ ممتازة في اللّسانيات والفيلولوجيا، وبراعةٍ في ابتكارِ ونحتِ المصطلحات، والتقاطِ ألفاظ من مجالٍ تداولي وزجّها في مجال مغاير. هذا ما منح خطابَه وأحاديثَه حساسيةً لغويّة فائقة، وجاذبيّةً فريدة وقع في شراكها كثيرٌ ممن أصغوا إليها. تحرّرتْ مصطلحاتُه من الألفاظ والكلمات المستنزَفة بالاستعمال المكرّر المبتذل حدّ الإنهاك. غواية لغته بهرت أبرزَ مثقفي عصره، وأغوتهم بالإنصاتِ لصوته المميز والتلقّي منه، والإدمانِ على حضور ندوته الأسبوعية «الحلقة الفرديديّة».
غوايةُ اللّغة النّاتجة عن توتّرها وإبهامها وضبابيّتها، عمّقت سطوتَه في الحياة الفكريّة الإيرانيّة، وأثارت الكثيرَ من النّقاشات والجدل حول أفكاره؛ فضلا عن موقفِه الجذري الرّافض للغرب، وهجائِه للفلاسفة والمفكّرين، في زمنٍ كانت النّخبةُ المفتونة بالثّقافة الغربية متهمة، واتهاماتُه العنيفة للمثقّفين الإيرانيين. لا يرى فرديد الغرب، منذ العصر اليوناني حتّى اليوم، مفهومًا جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، بل مفهومُه للغرب أنطولوجي ميتافيزيقي، تبعًا لهايدغر.
يختبئ بعضُ المفكّرين وراء الألفاظ، فيشتقّون مصطلحاتٍ بالعودة إلى جذورها اللّغويّة، أو يزاوجون ويركبون مصطلحاتٍ أخرى باستعارتها من معجمٍ تراثي، ويسقطونها على مفهومٍ مستعار من الفلسفة والعلوم الإنسانيّة الغربيّة الحديثة بطريقة متنكّرة. ذلك ما فعله فرديد، حين أسقط المعجمَ الاصطلاحي لمحيي الدّين بن عربي على فلسفة هايدغر، فأنتج مخلوقاتٍ لغويةً هجينة تثير الدّهشة، لا تعبّر عن هايدغر، مثلما لا تتجلى فيها رؤيا ابن عربي واستبصاراتُه المضيئة الرّحبة.
غواية اللّغة الفرديديّة وإبهامها قريبان من غواية لغة المفكّر المغربي طه عبد الرحمن وإبهامها، الذي يعمد إلى نحتِ مصطلحات بديلة لما هو شائع ومتعارَف عليه بالعربيّة. تلك المصطلحات صاغها في ضوء خبرته وتكوينه المتميّز بفلسفة اللّغة والمنطق الحديث، يحاول في سياق هذه المصطلحات إعادةَ إنتاج التّراث، وتلوينَه بآرائه ومواقفه التّراثيّة. كما اصطادت غوايةُ لغة فرديد أبرزَ المثقفين الإيرانيين، اصطادت غوايةُ لغة طه أكثرَ شباب الحركة الإسلاميّة العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التّكوين الأكاديمي الحديث، الذين سئموا من تبسيطِ أدبيّات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجرة وشعاراتِها المملّة. شبابٌ قادهم الحنين إلى الهويّة والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه. معظم هؤلاء لم يكتشفوا أبعادَ التّراث المتنوّعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالَكه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلاّ إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيّدًا.
التكوين الأكاديمي والبيئة الثّقافيّة والمناهل الموروثة لطه عبد الرّحمن لا تتطابق بتمامها مع سياقاتِ تكوين أحمد فرديد وبيئتِه وثقافتِه. فرديد تمحور تفكيره حول هايدغر ومدرسةِ ابن عربي وتلامذتِه وشراحِه، والتّصوّفِ الفلسفي والعرفان النّظري، وطه عبد الرّحمن استند في اشتقاقاته إلى القاموسِ اللّغوي، والمقولاتِ الاعتقاديّة للأشعري، والتّصوّفِ الطّرقي، ومعجمِ التّراث الأخلاقي. لكنّهما يعمدان معًا إلى تلوينِ التّراث وإلباسِه رداء اصطلاحيًّا جديدًا، يشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيق تجميليّة صاخبة.
لا يصدق على كتابات طه أنّها فلسفة، وهكذا لا يصدق على أقوال فرديد مفهومُ الفلسفة. الفلسفة ضربٌ من التّفكير العقلي المستقلّ، لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةٌ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاّهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللاّمعقول.
العقلُ مرجعيّتُه العقل لا مرجعيّةَ له خارجه، العقلُ مرجعيّةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذّهن وإبداعِه مهما كان. العقل يرسم حدوده وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخّل ببيان حقيقةِ وحدودِ ما هو خارجه ممّا ينتجه المتخيَّلُ وغيره. لا يصدق التّفكيرُ فلسفيًّا إلاّ لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو مرجعيّةُ تمحيصِ تفكيره، ومرجعيّةُ تمحيصِ ما سواه ممّا ينتجه الذّهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا.
عندما يصمت العقل تدخل الرّوح والقلب والعاطفة في متاهات أبديّة. العقل يريد ألّا نستمع منه إلاّ إلى صوته الخاصّ، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارج حدوده. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الظّواهر والأشياء وماهيتَها، يفسّر حقيقةَ العلم وماهيتَه، الفيزياء والكيمياء ومختلفُ العلوم تنشغل باكتشافِ قوانين الطّبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها وماهيتها.
أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظة من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمة من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقيّة لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النّائم. المراوغاتُ الذّهنيّة والثّغراتُ المنطقيّة في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلّب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذّهنيّة. ذلك ما يجعل بعضَ الفلاسفة يَبْدَؤُونَ بمقدماتٍ عقليّة وينتهون بنتائجَ غير معقولة.
الفيلسوف ينشغل بفعلِ التّفلسف، يفكّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجوديّة، يبدأ بمقدّماتٍ فلسفيّة ومنطقيّة وينتهي بنتائج فلسفيّة ومنطقيّة. تفلسفُ الفيلسوف يعني أنّه يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظّواهر ويبحث عن حقيقتها. لا يُنكَر أنّ طه عبد الرّحمن مثقّفٌ موسوعي خبيرٌ بالتّراث والحداثة، يمتلك موهبةً فذّة وذكاءً فريدًا، وتكوينًا بالفلسفة والعلوم الإنسانيّة الحديثة جادًّا، وخبرةً واسعة بالتّراث، غير أنّ كتاباتِه الفلسفيّة والمنطقيّة تبدأ بمقدّماتٍ فلسفيّة ومنطقيّة وتنتهي بنتائجَ لاهوتيّة.
برع طه في إعادةِ انتاج شيءٍ من مقولات الغزالي والفخر الرّازي وابن تيمية الاعتقاديّة بأسلوبٍ مراوغ لغويًّا. طه تراثي برداءِ منحوتاتٍ لغويّة جديدة، التّراثيّةُ بنيةٌ ذهنيّة ونفسيّة وعاطفيّة، كأنّها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا.
طه عبد الرّحمن مقلِّدٌ للأشعريّةِ في علم الكلام، وللمالكيّةِ في الفقه، وللطّريقةِ القادريّة البودشيشيّة(2) في التّصوّف. يتعاطى مع مقولاتِ الأشعري وأتباعه وإجاباتِهم للأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى على أنّها مسلّماتٌ نهائيّة لا تقبل النّقاش. طه متكلّم يختبئ بجلباب «فيلسوف»، وفي ضوء ذلك يمكن تصنيفُه، كما يُصنّف فرديد، بـ «فيلسوف ضدّ الفلسفة». يتحدّث طه بلغةِ الحداثة الفلسفيّة والمنطقيّة واللّغويّة، إلاّ أنّه ضدّ الحداثة، يبرع بتوليد مصطلحاتٍ غائمة لتقويضِ كلِّ شيء ينتمي للحداثة. ذلك ما يدعوني أن أصنف كتاباتِه الفلسفيّة بوصفها محاولةً متنكّرة لـ «أسلمة الفلسفة».
لا يمكن إنكارُ ذكاء طه عبد الرّحمن، ولا علم طه وموهبته الفذّة. الذّكاء والعبقريّة والموهبة الاستثنائيّة لا تكفي وحدها لمن يفكّر ويكتب ويتحدّث في الدّين. المفكّر الدّيني يحتاج القلبَ بموازاة العقل، يحتاج النّظرَ للإنسان المختلِف في معتقده بنور اللّه، وأن تحضر رحمةُ اللّه بكتابات هذا المفكّر وكلماته، ويرى الإنسانَ بوصفه إنسانًا بمرآة الرّحمة، بغضِّ النّظر عن دينِ الإنسان وهويّتِه الاعتقاديّة والقوميّة والثّقافيّة والجغرافيّة. الرّحمة صوت اللّه، وعنوانُ رحمانيّة كلِّ دين وإنسانيّتِه وأخلاقيّته. الدّين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدّين يحتاج رُحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.
الهوامش
(1) ولد السّيد أحمد مهيني يزدي في عام 1910 أو 1912 في يزد وسط إيران، وفي عام 1939 غيّر لقبه من «مهيني يزدي » إلى«فرديد». وفرديد تعني «الرّؤية المتسامية، أو النّظرة الواسعة الأفق ». فظهر اسمه «أحمد فرديد » في هيئة تحرير «سخن ». وهي المجلة التي نشر فيها مقالاته. توفي في طهران عام 1994.
(2) الطّريقة القادريّة البودشيشيّة طريقة صوفيّة مغربيّة، يوجد مقرّها في قرية مداغ بإقليم بركان شرق المغرب في منطقة قبائل بني يزناسن. تنتسب إلى الشّيخ عبد القادر الجيلاني الذي ظهر في القرن الخامس الهجري. أمّا لقب البودشيشيّة، فقد اكتسبه بواسطة الشّيخ علي بن محمد الذي حمل لقب «سيدي علي بودشيش» لكونه كان يطعم النّاس أيام المجاعة طعام الدّشيشة بزاويته. «ويكيبديا».
|