فقه المعاملات
بقلم |
![]() |
الهادي بريك |
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 4-2 : الرّبا بين ضغط الواقع وحسابات العلماء |
دعنا نحيط بما أنف ذكره لعلّنا نظفر بخلاصات صحيحة لا خلاف عليها، ثمّ نتفرّغ لما هو مختلف فيه. لعلّ أوّل تلك الخلاصات في قضيّة الرّبا بصفة خاصّة هي : أنّ التّشديد الأعظم من الإسلام قرآنا وسنّة معا هو على أكل الرّبا. وهذا معلوم بالعقل إذ أنّ آكل الرّبا لا يقع تحت أيّ ضرورة عدا غريزة سبعيّة كاسرة عليه التعفّف منها. أمّا مؤكل الرّبا (رغم الإختلاف في من هو المؤكل : هل هو قياسا على الرّائش في المشهد الإرتشائيّ أي الوسيط، وهو ما أرجّحه ولو بغلبة ظنّ، أو هو الشّريك المباشر في المشهد الرّبويّ أي معطي الرّبا) فهو معذور بالضّرورة ـ بل بالحاجة التي تنزل منزلة الضّرورة كما سطّر ذلك الفقهاء دون لجاجة ولا إعتراض ـ ما لم يكن مقيسا هنا على الرّائش. ولكنّ يظل السّؤال الذي لا ينجو منه مسؤول ممّن يسألون من المسلمين هو : «ما هي الضّرورة؟» ذلك أنّ بعضا ممّن سبق قيّدوها : بعضهم بالكلّيات الخمس أو الستّ المعروفة. ولا ضرورة في مجال الحاجيّات والتّحسينيات على عادة النّاس دوما في التّوسيع والتّضييق. وهل أنّ الضّرورات تتغيّر من عصر إلى عصر ومن مصر إلى مصر أم هي ثابتة؟
ومن تلك الخلاصات كذلك أنّ الرّبا الذي عليه أصل التّشديد هو ربا النّسيئة الذي سمّاه بعضهم ربا الجاهليّة، وليس ربا الفضل الذي هو منهي عنه وسائليّا وليس مقاصديّا، أي حرّم سدّا لذريعة الوقوع في ربا النّسيئة. ولكنّ جهل البعض وميلهم غير المحدود إلى التّضييق والتّحريم حطّم التّخوم بين نوعي الرّبا. فكان ربا واحدا محرّما. تماما كما فعل الذين سوّوا بين الآكل والمعطي. وبمثل ذلك ينضمّ إليهم الذين غضوّا أبصارهم عن الواقع وإكراهاته وجديداته، وكادوا يلغون قيمة الضّرورة من الحياة والدّين بالكليّة. وعندما تجتمع كلّ تلك التّضييقات فإنّ الثّمرة المرّة هي : إستحلال الرّبا كلّه نسيئة وفضلا وأكلا وإعطاء وإلغاء الواقع الذي أتى بمواد أخرى غير الستّ أو الثّماني التي جاء بها الحديث الصّحيح (الذّهب والفضّة والبرّ وغير ذلك ممّا تكون العبرة فيه بالحاجات الأساسيّة الضّروريّة للنّاس في حفظ حياتهم من مأكل ومشرب وغير ذلك، وليست هي عابرة للزّمان والمكان حتّى لو تغيّرت أعيانها). ذلك أنّ من قواعد الحياة أنّ الإفراط في التّشديد يثمر إفراطا في التحلّل.
وسؤال أخر وهو : «بأيّ حقّ إذن أبيحت بيوع أخرى إستثناء من الأصل؟». وهو ما سنتعرّض إليه إن شاء اللّه، وذلك بناء على تلك الخلاصات الآنفة : التّحريم الأصليّ هو على ربا النّسيئة وليس ربا الفضل. وهو على الآكل لا على المعطي ضرورة. والضّرورة نفسها ليست مقياسا منضبطا بالملمتر أو بالقطرة، فهي تشمل عمرا وزيدا معا، بل تشمل كلّ عصر وكلّ مصر أو كلّ حقل ومجال، ولها أصولها ولها كذلك إستثناءاتها ومنها الحاجة نفسها التي هي دونها. ومن يقدّرها ليس الفقيه فحسب ولكنّه المضطرّ نفسه، بمثل ما يشترك الطّبيب مع المريض في تقدير القدرة على الصّوم، فلا ينفرد به هذا دون ذاك ولا ذاك دون هذا.
من ضرورات العصر
لا يمكن إحصاء ضرورات العصر ولكن هذه بعض الأمثلة: المسكن المملوك لصاحبه ضرورة بسبب إستقرار النّاس، فلا يقاسون على الرّحل ممّن سبقهم. وكذلك بسبب تأمين ضرورات العمل ـ الذي أصبح اليوم هو مصدر الرّزق، وليس تحرّي مواطن القطر (الغيث) وضرورات التّعليم للأبناء ذكورا وإناثا، وليس هذا خاصّا بمسلمي الغرب أو أوروبا بل هو عامّ في كثير من البلاد المسلمة، إذ أنّ النّمط الحياتيّ أضحى متجانسا. وسيلة النّقل كذلك هي ضرورة إذ أنّ أكثر العاملين يستخدمونها لتحصيل أرزاقهم، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، بل هي ضروريّة لتأمين تعليم الأبناء الذين تنقلهم أمّهم عادة بها إلى مواطن تعليمهم. حتّى لو كان للتّرويح على النّفس فحسب مرّة في العام لكانت ضرورة، إذ التّرويح على النّفس في زماننا دواء لا مناص منه من أتعاب الحياة. الأدوية نفسها ضرورات سواء كانت وقائيّة أو علاجيّة، وهي وسيلة لحفظ الحياة حتّى يستعيد المستأمن أمانته. النّكاح هو كذلك ضرورة في أرض لا تكاد تجد فيها شبرا واحدا إلاّ وهو يموج عهرا ويهيج عربدة. كلّ ذلك ضرورات فرديّة أسريّة. ولو تحدّثنا عن الضّرورات الجماعيّة فهي أكثر وأكثر، منها ضرورة التّأمين ضدّ الجوع والفقر وضدّ الغزو والإحتلال، ومنها ضرورة الحديد في أرض لا حظّ فيها للضّعيف، وهي ضرورات البحث العلميّ.
الضّرورة التي تبيح المحظور إذن لا يمكن حصرها في مكان دون مكان ولا في زمان دون زمان، ولا في حقل دون حقل. كلّ ما لا مناص منه لحفظ الإنسان فردا وأسرة وجماعة وأمّة حفظا جامعا شاملا في حياته وأمنه وقوّته وعقله وماله ووطنه وأسرته وصفّه وحرّيته هو ضروريّ. ولا تغرنّك الصّياغة القديمة للكلّيات الضّروريّة الخمس أو السّتّ. فهي صياغة ينقصها البعد الجماعيّ والتّأليفيّ كذلك. أين الأمن فيها مثلا؟ أليس الأمن اليوم ضرورة الضّرورات؟ أمن الجماعة والأسرة والفرد معا. أين القوّة فيها مثلا؟ وغير ذلك ممّا يجعل ذلك السّلم الذي بدأه الإمام الجوينيّ ثمّ أرساه الغزاليّ صالحا صحيحا في مبتدئه، ولكنّه يرحّب بالإجتهادات التي تجعله أسلم وأقوى وأوفى للشّريعة ولمطالب الإنسان وحاجات العصر. فما كان بالأمس تحسينيّا أضحى اليوم ضرورة : المظهر المحترم لرجل الأعمال مثلا وغشيانه لأفخم النّزل والمآكل ولقاء الأكابر لأجل صفقة تجارية. أمّا القول بإنّ الضّرورة هي أن يوشك الإنسان أن يموت جوعا أو ظمأ أو خوفا وهلعا أو جهلا وأميّة، أو وطنه تمزّقا وتفرّقا أو ضعفا وذلّة حتّى يؤذن له بإعطاء الرّبا فهو جهل بالشّريعة وبالإنسان وبالواقع معا. ضرورات الأمّة ما ينبغي الخلاف عليها من أهل الذّكر. أمّا ضرورات الفرد في نفسه ـ وحتّى في أسرته مع التحفّظ هنا ـ فهي محلّ التّقديرات وفيها الإنبساط توسّعا. واللّه وحده هو الرّقيب على الضّمائر وليس الفقيه، وفيها الإنقباض تضييقا.
بيوع مستثناة من قواعد وأصول
بيع السّلم :
هو نقيض بيع الأجل (أو بيع التّقسيط كما يسمّى اليوم) وذلك من حيث الثّمن والمثمون. إذا حضر الثّمن وغاب المثمون فهو بيع السّلم، وإذا حضر المثمون وغاب الثّمن فهو بيع الأجل. كلاهما أبيح للضّرورة والحاجة، ولكنّه في الأصل مخالف للقواعد والأصول. والحقّ الذي لا مراء فيه لمن يطلب العلم إخلاصا وإنتفاعا ـ وليس مراء فارغا وجدالا بغير هدى ـ أنّ من فقه ـ حقّ الفقه ـ فلسفة إباحة بيع السّلم فحسب من دون بقيّة البيوع فإنّه يفقه فلسفة الشّريعة في إدارة المال ومعالجته. بيع السّلم كان عادة من عادات أهل المدينة قبل الهجرة حتّى أضحى عرفا معروفا. فلمّا جاء ﷺ نهى عنه. فلمّا أخبر أنّه لا مناص منه أباحه وقيّده بقوله (في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم). يعني أنّ الأصل أنّه غير مباح، ولكنّ الضّرورة العامّة هي التي أباحته. وجاء التّقييد عليه منصبّا على ما إستنبطه الفقهاء من أنّ همّ الشّريعة في كلّ المعاملات الماليّة همّان لا ثالث لهما : حماية الإنسان سيما الفقير والضّعيف من إستغلال القويّ والغنيّ، ولذلك حرّم أكل الرّبا وكلّ صور أكل أموال النّاس بالباطل، وكذلك حماية النّاس ممّا أسموه الغرر، أي الخديعة التي ربّما يخضع لها المحتاج بسبب فاقته. وهو الذي لأجله حرّم ربا الفضل، وما عدا ذينك الهمّين وما حرّم قطعا باتّا تحريما مقاصديّا لا وسائليّا فهو مباح بين النّاس ما لم يكن هو في عينه محرّما كذلك تحريما قطعيا من مثل الخمر.
بكلّ تواضع أقول : من فقه هذه الفلسفة فقه المعالجة الإسلاميّة للمال في أسّها المؤسّس الأعظم، وبعد ذلك تعالج التّفاصيل بيسر. ورد الحديث صحيحا (لا ربا إلاّ في نسيئة). أخرجه البخاريّ عن أسامة بن زيد. ولكنّ المشكلة عند كثيرين ممّن ينتسبون إلى العلم ليست في عدم العلم بل هي في التعصّب سواء لرأي أو لشيخ أو مذهب. وكثيرا ما يكون ذلك التعصّب متدثّرا بما بالغوا فيه كلّ مبالغة أي سدّ الذّريعة، غافلين كلّ غفلة عن فتحها. إثم هؤلاء أنّهم يجعلون أنفسهم وكلاء على النّاس حفظة عليهم أو مسيطرين وجبّارين. وكلّها مناصب نهى اللّه نفسه سبحانه عنها نبيّه محمّدا ﷺ، أي يحولون دون النّاس ودون المباح عندما يكون مباحا قطعا بطويّة طيّبة، وهي وقايتهم من النّار. ولكنّ هذا ليس مطلوبا. المطلوب هو بيان شرع اللّه كما هو فيما كان فيها صحيحا صريحا ثمّ الإجتهاد فيما كان دون ذلك وهو الأكثر، ثمّ ترغيب النّاس ترغيبا أو ترهيبهم ترهيبا، وليس الحكم على ما هو متشابه ظنيّ بالحرمة. تلك هي المشكلة العظمى في نظري، وعندما تكون مصحوبة بجهل النّاس وإعراضهم عن تعلّم دينهم فإنّ المشهد البغيض عند اللّه ـ مشهد الوكالة عنه ـ حاضر بارز.
بيع التّورّق :
هو كذلك نقيض بيع العينة الذي فيه حديث صحيح. كلاهما يبتغى منه تحصيل مال يحتاجه صاحبه. أمّا العينة (نسبة إلى عين الشّخص) فهي أن يبيع زيد عمرا سيّارة مثلا بمائة وحدة ـ من أيّ عملة شئت ـ بيعا مؤجّلا ثّم يبتاعها منه هو نفسه وربّما في مجلس واحد أو قريب منه بسعر أقلّ من ذلك، ولكنّه ناجز. وبذلك تكون الصّورة قريبة من صور التّحايل على الرّبا، لأنّ زيدا عندما يقبض الثّمن الذي به باع سيّارته عمرا سيكون قد ربح الفارق (باعها مؤجّلا مثلا بمائة وإشتراها منه بثمانين وبذلك يكون قد ربح عشرين وحدة). ورد النّهي عنه في حديث صحيح، ولكنّ ذلك لم يمنع الشّافعيّ وبعضهم من إباحته بسبب أنّ السنّة ـ من جهة ـ لا تستقلّ بالتّشريع، ومن جهة أخرى لأنّ غاية زيد هو (التورّق) أي هو في حاجة مستعجلة إلى مال، وليس له ذلك. فهو يبيع بأجل ويشتري بناجز لعين واحدة (هو العميل نفسه) لأجل معالجة ضائقة مالية. أمّا بيع التورّق فهو ذلك المشهد نفسه، ولكنّ العميل فيه متغيّر مختلف، أي يبتاع زيد من عمرو سيارة بثمن مؤجّل ثمّ يبيعها (أي زيد) لآخر بثمن أقلّ منه إبتغاء تحصيل مال هو بحاجة إليه. هذا النّوع مختلف فيه ولكنّ إباحته غالبة.
بيع الوضيعة :
هو كذلك نقيض (بيع المرابحة). المرابحة هي الوضع الطّبيعيّ، أي يشتري المرء بضاعة ثمّ يبيعها بأغلى ممّا إشتراها حتّى يربح مالا ويسدّد مصاريف تجارته. وليس لذلك الرّبح في الإسلام قول واحد حدّ أعلى. ما أخطأ الصّفقة غرر كثير، إذ الغرر اليسير لا تنجو منه صفقة، وهو مغفور لتيسير المعاملات بين النّاس وما أخطأها كذلك غشّ وخديعة بأيّ صورة. ونقيضه هو بيع الوضيعة أي يضع التّاجر شيئا من سعر بضاعته الأصليّ لأيّ غرض كان (بسبب كساد مثلا أو ترغيبا في بضاعة أخرى، ولكن من دون إشتراط يكون صنو الإحتكار). وهو وضع طارئ ولكنّه مباح حدبا على تحمّل ضرر أصغر لتجنّب ضرر أكبر.
التّأجير المنتهي بالتّمليك :
وهو المعروف باللّغة الإنجليزية (leasing)، وفيه بحث قديم للدّكتور محمّد الرّوكيّ ووافقه عليه كثير من فقهاء العصر أنّه مباح. ولكنّه بحث لا يستطيع كلّ من هبّ ودبّ حتّى من طلب العلم من المبتدئين فقهه، ولذا يشغب عليه كثيرون اليوم بالحرمة. والسّبب هو إنغلاق أفقهم العلميّ لفقه المعاملات الماليّة عندما تستغلق فلا مناص لها من فرسان المجال وليس هواة.
بيع المرابحة للآمر بالشّراء :
وصيغته أن يأمر العميل (الشّخص الفزيائيّ بالتّعبير الإقتصاديّ المعاصر) المصرف ـ حتّى لو كان ربويّا سيما إذا ألجأته الضّرورة إليه ـ بأن يشتري له سيّارة أو مسكنا أو أيّ شيء مباح ولو تجارة بمقابل محدّد ومقسّط. وهنا مجال الخلاف مع كلّ المصارف الرّبوية التي لا تخضع لمقابل محدّد ومقسّط. ولا عبرة هنا بزيادة المبلغ بسبب ثمن الزّمن الذي لأجله هو فحسب أبيح بيع الأجل. ولكنّ تلك المصارف تزيد المبالغ المقسّطة بحسابات آليّة عندها. وعلّة التّحريم الوحيدة هنا هي الغرر الكبير والكثير ومخالفة قوله ﷺ: «في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم». ذلك أنّ حرص الشّريعة كلّ حرصها هو تجنّب أسباب الفرقة بين النّاس والخصام الذي ينشأ في الأعمّ الأغلب بسبب الدّنيا وليس بسبب غيرها. ولذلك تكون المصارف الإسلاميّة من النّاحية الدّينيّة أسلم، ولكنّها من النّاحية الماليّة أعلى. ربّما بسبب عدم تكافؤ المنافسة بينها وبين المصارف الرّبويّة أو لأسباب أخرى أجهلها.
الخلاصة :
كلّ المراد من هذا هو تحديد مجال الرّبا المحرّم قطعا لا جدال فيه أن يتوسّع بهوى أهل الأهواء ـ ولو كان هوى دينيّا وبنيّة طيّبة ـ فيشمل ربا الفضل الذي حرّم وسائليّا لأجل تجنّب أسباب الغرر، وليس هو محرّما لأجله هو. وكلّ دارس للشّريعة يميّز فيها بين المقصد الذي لا يجتهد فيه والوسيلة التي تفتح أو تسدّ بسبب إفضائها إلى خير أو إلى شرّ. وكذلك حتّى لا يشمل المؤكل الذي هو بمعنى المعطي المضطرّ وليس بمعنى الوسيط الرّائش. لأنّ الآكل هو المهدّد، ولكنّ المضطرّ معذور حتّى لو قال كلمة الكفر خوفا على حياته. وكذلك حتّى لا يستبدّ فقيه بتحديد ضرورة فلان فيكون عليه وكيلا من دون اللّه سبحانه. ولكنّ الفقيه دوره البيان العامّ للضّرورات وليس بيان كلّ ضرورة ولكلّ مضطرّ، وكذلك حتّى لا تتجاهل الضّرورات المعاصرة أو تتجاهل ضرورات الأمّة أو أيّ جماعة ما سيما إذا كانت أقليّة أو معرّضة للإكراه وهو ما حدا ببعض الفقهاء بإجتراح فقه إنتقاليّ. كما فعل ﷺ إذ شرّع نكاح المتعة فقها إنتقاليّا لعبور مرحلة مؤقّتة، فلمّا إستقرّ الوضع نهى عنه. تلك هي الشّريعة لمن يفقه سياستها وفلسفتها وحكمتها ومعالجتها للطّارئات والمؤقّتات وما سمّي قديما ممّا تعمّ به البلوى. وكذلك حتّى لا يجمد العقل على المواد التي حدّدها ﷺ في التّرابي: «الذّهب بالذهب والفضّة بالفضة والبرّ بالبر والشّعير بالشّعير والتّمر بالتّمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد». والمقصود هنا ليس هذه الأعيان، ولكنّ المقصود هو حفظ الأساسيّات الحياتيّة للإنسان فيما لا مناص منه لذلك. فإذا كنّا في بيئة ليس فيها شعير ولا تمر ولا ما ذكر هنا فهل نتيح أساسيّات الحياة للنّاس (سكّر مثلا أو أرزّ أو دواء أو غير ذلك) للتّرابي والإستغلال؟ طبعا لا لمن يحكّم مقاصد الشّريعة. وكذلك رعاية معنى التّقابض المشار إليه هنا بقوله (يدا بيد). ذلك أنّه لو أغفلنا تغيّر العصر لقلنا اليوم بحرمة كلّ المعاملات الإفتراضيّة (الأنترنت).
تلك هي خلاصة هذه القالة : حسن فقه الرّبا الذي هو نفسه فرع من أصل كبير إسمه أكل أموال النّاس بالباطل، وحسن فقه قيمة الإنسان وكرامته وأنّ ماله هو حياته، وحسن فقه أبعاده الفرديّة والأسريّة والجماعيّة، وحسن فقه زمانه ومكانه، وحسن فقه تركيب الشّريعة القائمة على رعاية الإكراهات والضّرورات، بل حتّى الحاجات. وحصر الرّبا فيما هو محرّم تحريما قطعيّا لا جدال فيه، والإجتهاد فيما دون ذلك في ضوء النّصوص والمقاصد والمآلات معا، وليس تقديم هذا وتأخير ذلك ولو بحسن نيّة. وخير مثال لذلك هو بيع السّلم وغيره من البيوع الكثيرة التي لم أحرّرها هنا لضيق المجال عنها ممّا أبيحت للتّوسعة والضّرورة والحاجة فحسب، وإلاّ فهي في الأصل ضدّ الأصول والقواعد. وأخيرا وليس آخرا : إعتبار أنّ أكثر ما ورد في الحديث الصّحيح في هذه المعاملات وخاصّة علاقة بالرّبا إنّما هي سدّا لذريعة الرّبا، وليس نهيا عن ربا حاصل واقع لا ريب فيه. أي رعاية مقامه هنا ﷺ وهو مقام التّرغيب والتّرهيب، وليس هو مقام التّشريع بمعناه الدّينيّ، أي إيجاب يعاقب تاركه أو تحريم يعاقب مقترفه، وتلك هي السنّة : «رخصة من ثقة وليس عزيمة من أحمق». |