في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
أثر مضمون المُقاربة المُعتمدة على مُستوى الفقر
 عرضنا، من خلال ما نشرناه على أعمدة مجلة «الإصلاح» في عددها السّابق(1) ، مُستوى الفقر من خلال تمثيله بدالّة مفادُها أنّ مُستوى الفقر يتغيّر بتغيّر ثلاثة عوامل، بعبارة أخرى أنّ مُستوى الفقر يُحدِّده مضمون المُقاربة المُعتمدة والنّظرة للإنسان المُنبثِقَة عنها وكذلك سُلوك هذا الأخير كمُتغيِّرات، وبتغيّرها يتغير مُستوى الفقر، فما هي المُقاربات المُعتمدة وما أثر مضمون كلّ منها على مستوى الفقر؟ هذا ما سنهتم به في هذا العدد، على أن نخصّص المقال الموالي لاستقراء النّظرة المُنبثِقَة عن كلّ مقاربة للإنسان ونخصّص الذي يليه لتحليل سُلوك الإنسان وأثره على مستوى الفقر.
1.  المُقاربات المُعتمدة 
المُقاربة هي طريقة تفكير مبنيّة على مجموعة مبادئ ومسلمات تمنح جهدنا التّحليلي إطارا عامّا قيميّا ومفاهيميّا، وتُمكّننا من تحديد اختياراتنا النّظريّة والسّلوكيّة، ونُقارب عبرها نحو شاطئ المعرفة وصولا الى إدراك حقيقة الشّيء وأثرها في ذلك الشّيء.
ومن حيث اللغة فإنّ «المقاربة» كلمة مشتقّة من الفعل الثلاثي (قَرَبَ) والْقَافُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْبُعْد(2)وهو القرب ومنه الاقتراب، والمقاربة في سياق حديثنا هي ما يُعتمد للاقتراب من إدراك حقيقة الفقر وأثره عليه.
ويمكن للمقاربة أن تكون ذات بُعد واحد كأن نطلق على أحدها وصف الاقتصاديّة أو الأمنية، كما يُمكن أن تكون مُتعدّدة الأبعاد وهي المقاربة الأكثر واقعيّة باعتبار تعدّد أبعاد الواقع موضوع اهتمام المقاربة.
ونظرا لإيماننا بأنّ الواقع محكوم بعوامل مشهودة وأخرى غيبيّة، فإنّنا في حاجة الى مقاربة لها إجابات على أسئلة غيبيّة، ونظرا إلى الحاجة لمعرفة أصل الواقع والوجود والإنسان ومصير كلّ منهم، فإنّنا نحتاج الى مقاربة وجوديّة أيضا، باعتبارها المقاربة الأقدر على استيعاب الواقع وفهمه وحلّ إشكالاته.
نحن إذا أمام ثلاثة أنواع من المقاربات، الأولى ذات بعد واحد والثّانية متعدّدة الأبعاد والثّالثة متعدّدة الأبعاد واقعيّة شاهدة وغيبيّة وجوديّة.
ولإبراز أثر مضمون المقاربة المعتمدة على مستوى الفقر نأخذ المقاربة الاقتصاديّة كمثال حين نعرض للمقاربة ذات البعد الواحد، ثمّ المقاربة النّفعيّة حين نتناول المقاربة متعدّدة الأبعاد، ونختم ببيان الحاجة إلى مقاربة ذات أصول إيمانيّة متعدّدة الأبعاد تضيف بعدا غيبيّا لبقيّة الأبعاد المشهودة في الواقع ويكون الإنسان محورها، وتحقيق نفع النّاس كلّ النّاس بوصلتها.
2. أثر المقاربة ذات البعد الواحد على مستوى الفقر
من المقاربات ذات البعد الواحد المهتمة بموضوع الفقر، نذكر المقاربة الاقتصاديّة، وفي إطارها يُعرَّفُ الفقر بفقر الدّخل وتُعَرّفُ الأسرة الفقيرة على أنّها تلك التي يكون دخلها أقلّ من عتبة مُحدّدة تتطوّر وِفق مُستويات العيش، وقد اعتمدت هذه المُقاربة على اتفاقات حصلت لتعريف الدّخل وتحديد السّقف.، والدّخل هنا هو الدّخل النّقدي المُتوفّر بدون أن يُؤخذ بعين الاعتبار مُكوّنات أخرى مُحددة في مُستوى عيش الأسرة وبالتّالي يكون هذا الدّخل غير عاكس، دائما لمُستوى العيش الحقيقي لعائلة ما لأنّه يتجاهل ممتلكاتها ولا يُدخل في الحُسبان التّضامن الاجتماعي وعوامل أخرى غير مرئيّة كالإنتاج العائلي وشبكة العلاقات العائلية فضلا على أنّ الاعتماد على الدّخل السّنوي لا يُقدِّم لنا مُعطيات على استمرار الفقر من عدمه.
وبالاعتماد على الدّخل كمؤشر لمعرفة مستوى حياة الأفراد والجماعات البشريّة، ولمعالجة الفقر على المستوى الكلّي تمّ الاعتماد على مستوى السّياسات، على تحقيق نسب عالية من النّمو الاقتصادي، إلاّ أنّ تتالي الأزمات الاقتصاديّة والماليّة واستفحالها وما خلّفته من زيادة في نسب الفقر والبطالة في العالم دفع البنك العالمي سنة 2016 الى الاعلان عن «الاعتقاد بأنّ النّمو الاقتصادي الذي يدفع الى الحدّ من الفقر المدقع لا يزال مخيبا للآمال»، وقبله بعشر سنوات، أقرّت منظّمة الأمم المتّحدة أنّ ستّة أنواع من النّمو الاقتصادي غير مرغوب فيها باعتبارها غير مجدية في معالجة الفقر بل متسبّبة في أبعاد مختلفة من الحرمان وفي تفاقم البطالة، وقد ذكرت ذلك في برنامجها الإنمائي ضمن تقرير التّنمية البشريّة لعام 1996، وعدّدت أنواعا من النّمو الاقتصادي اعتبرتها متسبّبة في تفاقم الفقر وارتفاع مستواه بدل معالجته كـ «نموّ البطالة الذي لا يولد فرص العمل، والنّمو المتوحّش الذي يُسهم في تعميق التّفاوت بين الأفراد والفئات وكذلك الجهات (عدم المساواة)، والنّمو الأخرس الذي لا صوت له أي الذي يحرم المجتمعات المحليّة الأكثر تعرّضا للمخاطر من المشاركة، والنّمو المنبت الذي لا جذور له في الاقتصاد المحلّي ويرتكز على نماذج منقولة من مكان الى آخر، والنّمو الذي لا مستقبل له الذي يقوم على الاستغلال المفرط للموارد البيئيّة، والنّمو الذي لا يرتقي بنوعية الحياة»
ومع تنوّع أشكال الفقر واقعا، كحالة من الحرمان من سُوءِ تغذيةٍ وسكنٍ غير لائق وفقدان الأمن ونقص في الحُرِّية ومع النّتائج الميدانيّة المحدودة للقيس النّقدي والاحصائي للفقر، وُجِدَ انطباع مفاده أنّ المُقاربة الاقتصاديّة ذات الصّبغة النّقديّة غيرَ واقِعِيّة، وأصبح الأخذ بعين الاعتبار السّمات الاجتماعيّة إلى جانب السّمات الاقتصاديّة والنّقدية أمرا مرغوبا فيه الى أن برزت مقاربة متعدّدة الأبعاد.
3.  أثر المقاربة ذات الأبعاد المتعدّدة على مستوى الفقر
على المستوى المنهجي، تعرّضت المقاربة الاقتصاديّة للفقر لعديد الانتقادات، ووصل كثير من الباحثين إلى إقرار محدوديّتها، على غرار كلّ من جون ميشال هورياز وبرنارد لا قري اللّذين توصّلا إلى أنّ «كلّ الاعتبارات النّظريّة والنّتائج الميدانيّة تؤكّد محدوديّة القيس النّقدي والإحصائي للفقر على المستوى المنهجي»(3) واقتنع الكثير بالحاجة الماسّة للأخذ بعين الاعتبار مقاييس بديلة كالسّكن والاستهلاك والتّجهيزات والمؤشّرات الذّاتيّة وغيرها، أو إضافتها لمقياس الدّخل لمعرفة مُستوى حياة الأفراد والمجتمعات.
فبالخاصّية النّقديّة فقط لم تقدر المُقاربة التّقليديّة للفقر على استيعاب مختلف خصائص الحياة الإنسانيّة غير الاقتصاديّة والنّقديّة رغم سيادتها عقودا من الزّمن، إلاّ أنّها شهدت تطوّرات جوهريّة على إثر أعمال كثير من الفلاسفة والعلماء شملت مستويين:
- مستوى تصوّراتها «النّفعيّة» في تقييم الأعمال، إذ حصل تطوّران هامّان أثّرا تأثيرا عميقا في المُقاربة التّقليديّة للفقر ومسارها، مسّ الأول أسس النّفعيّة مُتّجها نحو المثاليّة والثّوريّة على أيدي العالم الانجليزي «ألفراد مارشال» (4) وقاد الثّاني صاحبه الفيلسوف الأمريكي «جون راولز»(5) الى العمل على تغيير الفكر النّفعي بصفة عامّة وكذا مُختلف المشارب الموجودة.
- مستوى مناهج المقاربة النّقديّة في معرفتها لمستوى حياة الأفراد والمجتمعات، فقرٌ أم غنًى خاصّة حين أفضى تطوّرها الى نهج «التّنمية البشريّة» في تفاعل مع أعمال الفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا صن(6)( التّنمية حرية) خاصّة ما قام به من نقلة نوعيّة في مفهوم الفقر شديدة الارتباط بقدرات الإنسان، بعد أن كان يُنظر إليه من زاوية نقديّة بحتة، وما بيّنه أيضا من محدوديّة الاعتماد على فرضيّة أنّ الدّخل مؤشّر حسن لمعرفة مُستوى حياة الأفراد.
فبعد اعتماد الدّخل كمؤشّر نقدي لمعرفة مستوى حياة الأفراد والجماعات البشريّة، الى ثمانينات القرن الماضي، تمّ الانتقال الى اعتماد مؤشّرات كمّية كالدّخل والاستهلاك (سنة 1990) وأخرى نوعيّة كمؤشّرات الصّحة والتّعليم والمعاناة وانعدام الحيلة والحرمان من إبداء الرّأي كما أقّر ذلك البنك العالمي (سنة 2000).
وأمام خيبة أمل الاعتماد على النّمو الاقتصادي كقاعدة انطلاق لمعالجة الفقر والبطالة، تمّ الالتجاء الى النّمو الشّامل كرافعة بديلة للمعالجة وهو أسّ من أسس ما عُرِفَ بسياسات تعميم التّنمية ليستفيد منها الجميع وأساسا الذين تمّ إقصاؤهم منها اقتصاديّا وماليّا، باعتبار أنّ النّمو الشّامل هو نموّ محرّك للتّشغيل، يعتمد على التّمويل الشّامل والاستثمارات في أولويّة التّنمية البشريّة ويعطي أهمّية للتّدخلات متعدّدة الأبعاد ذات الآثار العالية المحقّقة للمكاسب للجميع، وهو بالتّالي مسار يُمَكِّن فئات عريضة من الحصول على الفرص الاقتصاديّة والخدمات الأساسيّة عالية الجودة.
وقد دفع تبنّي قاعدة النّمو الشّامل لمعالجة الفقر والبطالة الى وضع استراتيجيّة جديدة تهدف الى الوصول الى الفقراء عبر سياسات التّعميم ومجموعة من التّدابير الخاصّة للفئات ذات الاحتياجات الخاصّة والاستثمار في التّنمية البشريّة وكذلك عبر ما سُمي بـ«The empowerment»والتي ترجمت للّغة العربيّة بكلمة «التّمكين».
4. الحاجة لمقاربة إيمانيّة متعدّدة الأبعاد 
مع مرور السّنين أكّدت النّتائج واقعا، فئويّة المقاربة التّقليديّة ولا عالميتها من حيث المقصد وإطار نفعيّته، المفتقر لقيم تجعل كلّ النّاس على قدم المساواة، لذلك أصبحت البشريّة في حاجة الى مقاربة جديدة فيها من الرّحمة ومن العالميّة ما تضمن تحقيق ما توصّل اليه العقل الإنساني، وتمّ التّعبير عنه بالتّمكين الاقتصادي، وتضع كلاّ من التّفاوت الاجتماعي السّائد موضع سؤال وكذلك موازين القوى القائمة في المجتمع وفي السّوق وفي المنظّمات الدّوليّة والمؤسّسات العالميّة، السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة. 
وهذا ما يدفعنا الى البحث عن مُقاربة جديدة لا تفتقر كسابقتها لطابع الرّحمة، تكون قادرة على حفظ كرامة الإنسان وفق منظومة قيميّة تحفظ للوجود البشري إنسانيته وبالتّالي لحمته، علّها تُعيد الأمل للبشريّة في تحقيق الهدف الاستراتيجي الدّولي الذي وضع لسنة 2030 والمتمثّل في القضاء على الفقر المدقع على المستوى العالمي.
ومن الجدير بالتّنويه، أنّ اعتماد المقاربة التّقليديّة على نظريّات علميّة نتيجة تحاليل علميّة مكّنها من الاستمرار رغم ما توصّلنا الى إقراره عنها من محدوديّة في الفعاليّة وإخفاقها في معالجة الفقر والبطالة الذي يعود أساسا الى الإطار العام لتلك التّحاليل التي رغم التزامها بقيمة الحرّية الاّ أنّها تفتقر إلى القيم الإنسانيّة الأخرى كالمساواة وإنصاف الضحايا وضمان كرامة الإنسان، كما يعود ذلك الاخفاق أيضا الى الإطار العام للنّظام العالمي والسّياسات الدّوليّة المنبثقة عنه، القائمة على التّقسيم الدّولي للعمل وما أفرزه من تبعيّة أغلبيّة الشّعوب والدّول للجهات المسيطرة على القرارات الدّوليّة في مختلف مجالات الحياة، وما انتجته تلك السّياسات من فقر وبطالة وتفاوت آخذ في الازدياد.
كل ذلك يدعونا الى القيام بتحاليل علميّة ضمن إطار عام جديد، لعلّ ذلك يساعد تدريجيّا على إعادة النّظر في الإطار العام للنّظام العالمي وما أفرزه من سياسات، وذلك تمهيدا لوضع سياسات بديلة لعلّها تساعد على القضاء على الفقر المدقع على المستوى العالمي تحقيقا للهدف الاستراتيجي الدّولي الذي وُضع لسنة 2030. 
ومعلوم أنّ كلّ بحث في علم الاقتصاد يقوم على تحليل إقتصادي يستوجب فروضا شرطيّة وأخرى مفسّرة ذات ارتباط وثيق بالرّؤية التي يحملها الباحث أو المحلل، وإن كان البحث وصل بنا الى محدوديّة الرّؤية التّقليديّة وعدم أهليتها للمعالجة، فإنّ الرّؤية المطلوبة هي رؤية إيمانيّة، إنسانيّة بالأساس، تتمحور حول الإنسان وتعيد له مكانته كقيمة القيم وتجعل بقيّة القيم في خدمته، رؤية إنسانيّة في مجالات الاجتماع والاقتصاد والبيئة تنتج نظريّة اقتصاديّة مشبعة بالقيم الإنسانيّة وتلك معالم المقاربة الايمانيّة متعدّدة الأبعاد التي تنتظر النّور لتكبح جماح الفقر وتخفض مستواه الى أدنى حدّ ممكن.
الهوامش
(1)   راجع مجلة الإصلاح العدد 203 من الصفحة 44 الى الصفحة 47
(2) من كتاب مقاييس اللغة لابن فارس الجزء الخامس الصفحة 80
(3) جون ميشال هورياز و برنارد لاقري(1997)ص16: «المقاربة النقدية للفقر : منهجا ونتائج»(Jean Michel Houriez)و  Legris)Bernard)
(4) A MARSHALL (1842)-1924) Principles of Economics, Londre, Macmillan,1994,p.6
(5) John Rawls, (1921-2001) Théorie de la justice,p49,le seuil,Point.1997
(6)  «التنمية حرية» لأمارتيا صن منشورات اكسفورد الجامعية – نيودلهي 2000 /ص117 مايو 2004 الكويت ترجمة شوقي جلال).