الإنسان والكون
بقلم |
نبيل غربال |
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (4) |
2. اللّيل في القرآن (تتمة)
2.2. إغطاش اللّيل وإخراج الضّحى:
لقد أصبحنا نعرف الآن أنّ ظلام الغلاف الغازي المحيط بالأرض يختلف عن ظلام الفضاء الفارغ الذي تسبح فيه الأرض والأجرام الأخرى. وإضافة الى ما قلناه في الفقرة السّابقة(1) نشير إلى أنّ النّجوم التي تتلألأ بالنّسبة إلى النّاظر من على سطح الأرض ليست كذلك من خارج الأرض وغلافها، فالحالة البصريّة للظّلام الأرضي (اللّيل) تختلف عن ظلام الكون الحالك. كما أنّ نور القمر لا ينتثر خارج الغلاف الغازي، وهو ما يجعل الظّلام الأرضي يختلف جوهريّا عن أيّ ظلام آخر، وذلك يؤشّر على الدّقة العلميّة التي ورد بها لفظ اللّيل المقابل للنّهار (باعتباره الضّياء الأرضي) عند إضافته الى الغلاف الغازي. حسنا، دعنا الآن نرى كيف يمكن للآية 29 من سورة النّازعات ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَيٰهَا﴾ أن تدعم افتراضنا القائل بأنّ ظلام الغلاف الغازي في جزئه الذي يعلو طبقة النّهار من 30 الى حوالي 100 كلم على الأقل فوق سطح الأرض يسمّيه القرآن ليلا.
بيّنا في فقرة (الضّحى في القرآن) (2) أن استعمال الضّحى في هذه الآية جاء بمعنى النّهار، وبيّنا أيضا في فقرة (ليل الغلاف الغازي ونهاره) أن الضّمير المتّصل بآخر اللّيل وبآخر النّهار يُعرّف اللّيل والنّهار بأنّهما ظاهرة ينفرد بها الغلاف الغازي. وبناء عليه فإنّ معنى الآية لا يمثّل في العموم أيّ إشكال، فهي تخبر بأنّ اللّه أغطش ليل الغلاف الغازي وأخرج نهاره. لكن ما معنى أنّ اللّيل قد أُغطش وأنّ النّهار قد أخرج؟ وماذا يقول العلم الحديث في الموضوع؟ نواجه في هذه الآية كلمتين: «أغطش» و«أخرج» وهما مشتقّتان من الجذرين: «غطش» و«خرج». فما معنى كلّ لفظ منهما؟ وما دلالة الصّيغة «أفعل» التي جاءا بها؟
1.2.2 «غطش» و «خرج»
أ- غطش : قبل 50 سنة من الهجرة، نجد في أحد أشعار «الشّنفرى الأزدي» لفظا مشتقّا من الجذر «غطش» وقد جاء بمعنى «الظّلمة الحالكة» حيث قال:
وليلةِ نَحْسٍ يَصْطَلِي القَوْسَ رَبُّهـــا *** وأَقْطُعَـــهُ اللاتِــي بهـــا يَتَنَبَّــلُ
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتِي *** سُعــارٌ وإِرزيـزٌ ووَجْــرٌ وأَفْكَـــلُ(3).
وعن الجذر «غطش» نجد في العين:«غَطَشَ اللّيلُ، وليلُ غاطِشٌ مُطْلَخِمٌّ. واللّه أَغْطَشَها»(4). و«اطلخمَ السّحاب، بالخاء معجمة: إذا تراكم وأظلم. اطلخمَ الظّلام: إذا اشتدّ»(5). و«الغَطَشُ: الضَّعْف في البَصَرِ، كما يَنْظُر بِبَعْضِ بَصَرهِ»(6). و«رجل أغطَشُ: في عينه شِبْهُ العَمَشِ»(7) أي «لا يكاد يُبصِرُ بها»(8) و«فلاة غَطْشى: مظلمة لا يُهتدى فيها»(9). فالغطش لا يحيل على الظّلمة فقط بل على الظّلمة الحالكة الشديدة أين يكون فيها الإبصار ضعيفا وربّما مستحيلا.
ب- خرج: « خرج: الخُرُوجُ: نقيض الدُّخول، خرج يَخْرُج خُرُوجًا فهو خارجٌ». «(خَرَجَ) الْخَاءُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّا سَلَكْنَا الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ. فَالْأَوَّلُ: النَّفَاذُ عَنِ الشَّيْءِ». حيث نَفَذَ عَنْهُ: جَازَ، خَلَصَ. «[خَرَجَ] -ُ خُرُوجًا: بَرَزَ من مقره أو حاله وانفصل». «خرج من المكان: برز من داخله إلى الخارج». «خرَجَ فلانٌ وغيره: برز من موضِعه أو مقره وظهر، ضدّ دخَل».
ج-أغطش/أخرج: استعمل القرآن الصّيغة المزيدة «أفعل» للفعل «غطش» وللفعل «خرج» حيث قال﴿أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَيٰهَا﴾ (نهارها). تكتسب الصّيغة المزيدة من حرف الزّيادة الهمزة «أ» معنى إضافيّا إلى جانب المعنى الوضعي المعجمي الذي تدلّ عليه الحروف الأصليّة. فالغطش كما رأينا هو الظّلمة الشّديدة التي لا يكاد المرء يبصر فيها. ومن المعاني التي يمكن أن تؤدّيها الصّيغة «أغطش» معنى الصّيرورة حيث أغطش اللّيل يعني أنّ اللّيل الأرضي لم يكن شديد الظّلمة، فأصبح كذلك، أي جعل اللّه ظلمته شديدة. ونفس الشّيء بالنّسبة للخروج الذي يعني البروز والظّهور من مقر أو موضع أوحال، فالصيغة «أخرج» تعني أنّ ضياء النّهار كان داخل شيء ما لا يُرى قبل أن يصير ظاهرا. تَجِيءُ الصّيغة «أفعل» في اللّسان لعديد من المعاني التي تضاف الى ما تعنيه الصّيغة المجرّدة ومن ضمنها الجعل والتّصيير، وهو ما نراه متحقّقا في الآية ومستوعبا بالتّالي لما يقوله العلم الحديث في الطّريقة التي أصبح بها النّهار نهارا واللّيل ليلا. أي أنّ ظلام اللّيل الأرضي لم يكن شديدا، فأصبح كذلك، وأنّ النّهار الأرضي لم يكن ظاهرا فأُبرز للخارج. وقبل الإجابة عن سؤال «ماذا يقول العلم الحديث؟»، لا بدّ من إلقاء نظرة على ما قيل في الآية في أهمّ التّفاسير.
2.2.2. تفاسير
لاحظنا أن معنى ﴿أَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ في أغلب التفاسير هو«أظلم لَيْلَهَا»(10) واستشهد الكثيرون بشعر للأعشى على أنّ الغطش هو الظّلمة وهو«عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ، يعني يغمرهم ليلهم لأنّه غمرهم بسواده»(11). ورغم أنّ الأعشى قال «مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ» لكنّ المفسرين لم يعيروا اهتماما لشدّة الظّلام وللصّيغة «أفعل». فإذا كان اللّيل هو ظلام بالتّعريف فما دلالة أظلم ليلها؟ فكيف كان اللّيل إن لم يكن مظلما؟ للرّازي في تفسيره للآية رأي يصبّ في ما ذهبنا اليه من تساؤلات حيث قال: «أغطش قد يجيء لازماً، يقال: أغطش اللّيل إذا صار مظلماً، ويجيء متعدّياً يقال: أغطشه اللّه إذا جعله مظلماً، والغطش الظّلمة، والأغطش شبه الأعمش، ثمّ ههنا سؤال وهو أنّ اللّيل اسم لزمان الظّلمة الحاصلة بسبب غروب الشّمس، فقوله: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ يرجع معناه إلى أنّه جعل المظلم مظلماً، وهو بعيد والجواب: معناه أنّ الظّلمة الحاصلة في ذلك الزّمان إنّما حصلت بتدبير اللّه وتقديره: وحينئذ لا يبقى الإشكال»(12). رأينا في المعنى اللّساني للغطش أنّه الظّلمة الحالكة، وحتّى شعر الأعشى الذي يستشهدون به على أنّ الغطش هو الظّلمة ليس سليما لأنّه قال «مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ» أي شديد السّواد. لذلك لا نتّفق مع ما قاله الرّازي من أن «الظّلمة الحاصلة في ذلك الزّمان إنّما حصلت بتدبير اللّه وتقديره» لأنّ كلّ ما يحصل في الوجود هو بتدبير اللّه وتقديره وليس خاصّا بإغطاش اللّيل. إنّ «الغطش أشدّ الظّلمة»(13)وليس الظّلمة، وأغطش ليلها يعني «جعل ليلها مظلماً أسودَ حالكاً»(14) أليس «الإِغطاش الإِظلام الشّديد»(15)، إظلاماً «لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضّياء»(16)؟
أغطش اللّه اللّيل أي جعله شديد الظّلمة حالك السّواد. والسّؤال هل يتعلّق الأمر بالظّلام الذي يعقب النّهار أم بظلام آخر؟ سياق الآية يمكن أن يفهم منه أنّه ظلام سابق لإخراج النّهار: فالآية تبدأ به وتستعمل معه المضارع في حين أن إخراج النهار يذكر لاحقا وارتبطت به صيغة الماضي.
3.2.2 تاريخ الغلاف الغازي الأرضي يشهد على الإغطاش والإخراج
رأينا سابقا، أنّ الحالة البصريّة للنّهار، تتحدّد بفضل الشّمس والتّركيبة الغازيّة للغلاف الغازي وأنّ الحالة البصريّة للّيل مرتبطة بالغلاف الغازي باعتبار أنّ ظلامه مختلف عن ظلام الفضاء الخارجي. فهل كانت تركيبة الغلاف الغازي في الماضي كما هي الآن؟
يفيد العلم الحديث أنّ تركيبة الغلاف الغازي تطوّرت بشكل كبير خلال تاريخ الأرض الممتدّ على دهر قُدّر بـ 4,5 مليار سنة. لقد تطوّر هذا الغلاف من وسط شافّ إلى وسط شفّاف. فلقد كان خلال مئات الملايين من السّنين يتكوّن أساسا من بخار الماء ومن كميّات كبيرة جدّا من الدّخان والغازات التي كانت تُقذف من البراكين التي غطّت سطح الأرض خلال تلك الحقبة من تاريخ الأرض. ولم يكن ممكنا لعمليّة انتشار الضّوء الضّروريّة لإحداث الّضياء الذي سمّاه العربي نهارا أن تحدث في الجزء المواجه للشمس من الغلاف الغازي للأسباب التالية:
1. انعدام غازيّ الأكسجين والنّيتروجين في مرحلة مبكّرة من عمر الأرض؛
2. عدم توفرهما بالكثافة التي نعرفها عنهما الآن؛
3. ضعف أشعة الشّمس في بداية تاريخ الأرض. فمن وجهة نظر علميّة لم يكن ضوء النّهار موجودا أصلا، لكنّه ظهر تدريجيّا مع تغيّر مكوّنات الغلاف الأرضي واشتداد سطوع ضوء الشّمس. لقد كانت فوتونات الضّوء المرئي حبيسة سجن الكثافة العالية للغازات التي سادت قبل أن يظهر الأكسجين والنيتروجين لتتحرّر من ذلك السّجن وتخرج وتنتشر في وسط شفاف. والسّؤال الملح الآن هو: من أي حالة برز الضّياء إن لم يكن من ظلمة سابقة؟ لقد خرج من حالة لا يمكن وصفها الّا بالظّلمة مهما كانت شدّتها، أي أنّ الفضاء المحيط بالأرض كان مظلما سواء في جزئه الموجود في ظل الأرض أو في جزئه الآخر الذي رغم مواجهته للشّمس لم يكن ليسمح لعمليّة انتشار الضّوء الضّرورية لإعطاء ما يسمّى نهارا أن تحدث. وبما أنّ مقابلة اللّيل بالنّهار في اللّغة وفي القرآن دليل على أنّ طبيعة الظّلام المقابل للضّياء هو شرط تسميته ليلا، فمن المحتمل أن يطلق القرآن على الظّلمة التي سادت قبل خروج النّهار ليلا، وهو ما افترضناه وقلنا إنّ عدم توفّر شرطي حدوث النّهار في الفضاء المحيط بالأرض يعطي اللّيل لأنّ مقابل النّهار لا يمكن أن يسمّى إلاّ ليلا. واضح الآن أنّ اللّيل بمعنى ظلام الغلاف الغازي أقدم من النّهار وأنّ هذا الأخير حالة طارئة نشأ في جزء من الغلاف المحيط بالأرض الذي كان مظلما أو شبه مظلم بعدما تغيّرت تركيبته الكيميائيّة واشتدّ سطوع الشّمس. إن تفسير إخراج ضياء النّهار علميّا (تحرّر فوتونات الضّوء المرئيّة من سجن الكثافة العالية لمكوّنات الغلاف التي سبقت الغلاف الحالي) يبيّن أنّ الظّلام سبق النّهار في الفضاء المحيط بالأرض الذي يتحدّد بالغازات المشدودة بالأرض. وأسبقيّة الظّلام على النّهار ذهب اليها ابن عاشور في تناوله للآية حيث نقتبس منه وبتصرّف ما يلي: «وإخراج الضّحى إبراز نور الضّحى، وأصل الإِخراج النّقل من مكان حاوٍ واستعير للإِظهار استعارة شائعة...وإنّما جعل إظهار النّور إخراجاً لأنّ النّور طارئ بعد الظّلمة، إذ الظلمة عَدَم وهو أسبق، والنّور محتاج إلى السّبب الذي ينيره»(17).
الهوامش
(1) الفقرة 1.2 في العدد 203 من المجلة.
(2) أنظر مقالنا بمجلّة الإصلاح، العدد 202، ماي 2024، ص.ص 63-64
(3) معجم الدّوحة التّاريخي للّغة العربيّة.
(4) معجم العين (غطش) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م
(5) شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
(6) تهذيب اللّغة-أبو منصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م (غطش)
(7) معجم العين ، مرجع سابق
(8) المرجع نفسه
(9)جمهرة اللّغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م (شطغ، شغط، طشغ، طغش، غشط، غطش)
(10) تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) مصنف ومدقق
(11) تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف ومدقق
(12) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف ومدقق مرحلة أولى
(13) تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف ومدقق
(14) تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف ومدقق
(15) تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف ومدقق مرحلة اولى
(16) تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف ومدقق
(17) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف ومدقق
|