نقاط على الحروف

بقلم
د. محمد البشير رازقي
الرحلات العلميّة الفرنسيّة بتونس وابتكار الذواكر التاريخيّة أوّل الفترة الاستعمارية (2-2) الرحلة ال
 الرحلة الفرنسيّة وإعادة رومنة التاريخ التّونسي: الرّهانات والهواجس
ركّزت منشورات أخرى على أهميّة التّاريخ القديم للبلاد التّونسيّة مع التّنصيص على أنّ العصر الوسيط، أي الفترة الإسلاميّة، هي فاصل تاريخيّ تمّ تجاوزه حيث رُسّخ «التّقاتل» فقط بين الشّرق والغرب. ولهذا ساهم الاستعمار الفرنسي في إعادة السّيرورة التّاريخيّة وربط تاريخ تونس الرّوماني بحاضرها الفرنسيّ. بيّن فرنسوا بورنان François Bournand أنّ تونس المُستعمرة تمثّل «الوطن المشترك» لروما وقرطاج، مع تأكيده على توق فرنسا إلى استرجاع دائم لحلم نابليون الأوّل «بجعل البحر الأبيض المتوسّط بحيرة فرنسيّة»، وهو نفس البحر «الذي جُعلت روما مركزًا له». ولم يتغافل المؤلّف أيضا عن مرتكز آخر حيويّ لبناء شبكات الولاء وهو الدّين، فقد أشار إلى «الدّين الكاثوليكي» الذي حقّق «تقدمًا كبيرًا في تونس في السّنوات القليلة»(31). كما حاول المؤلّف إيجاد رابط آخر بين قرطاج وفرنسا حيث أشار إلى «الذّكريات التّاريخيّة الفرنسيّة بقرطاج» عبر شخصيّة سان لويس(32). كما سعت الدّولة الفرنسيّة إلى مأسسة هذه الرّهانات عبر مؤسّسات الذّاكرة مثل مشروع متحف «سان لويس» بقرطاج حيث اشتمل على قطع أثريّة تمسح الفترة الزّمنيّة الممتدّة من الفترة البونيّة وصولا إلى آثار القرن الخامس مسيحيّ، أي قُبيل الفترة الإسلاميّة(33). ولهذا رسّخت كتب فرنسيّة أخرى سرديّة إضرار العرب بقرطاج وإرثها حيث «دمّرها العرب» بعد أن كانت «المدينة المعجزة»(34)، وهذا ما راهن عليه شارل سيمون Charles Simond منذ فترة مبكّرة(35) . 
نلاحظ هنا تشابك التمثّلات بالرّهانات الاستراتيجيّة مع تزامن صناعة السّرديّات مع شبكات المصالح، إلى جانب توجّس دائم من المطالب الإيطاليّة بتونس ومحاولة افتكاك الشّرعيّة الرومانيّة والمسيحيّة منها. ولم يخفِ المؤلّف تعرّض الوجود الفرنسي بتونس إلى خطرين أساسيّين وهما: عداء السكّان الأصليّين وتمدّد النّفوذ الإيطالي بتونس مع استخدام كلمة «الغزو الإيطالي». قدّم المؤلّف حلّا للمشكلة الأولى وهي ضمان «الحريّة» للتّونسيّين مع العدل الضّريبي وترسيخ تحالف بين الفرنسيّين والنّخبة المحليّة. أمّا حلّ المعضلة الثّانية وهي الأصعب فهو بيد «الشّعب الفرنسيّ، فعلى الحكومة الفرنسيّة أن تُعرّف بتونس وتجعلها «محبوبة» في فرنسا وأن يعرفها «العمّال والفلاحون» ومُجمل الشّباب مع السّعي لتحويل البلاد التّونسيّة إلى «فرنسا أخرى» في تمثّلات الفرنسيّين ممّا يسهّل الهجرة وبالتّالي التّغلّب ديمغرافيّا على الوجود الإيطالي بتونس(36).
اعتمد الاستعمار الفرنسي بتونس على علم التّاريخ من زاوية أخرى، حيث بيّن بول لوروا بوليي Paul Leroy-Beaulieu أنّ على فرنسا أن تستفيد من تاريخ تجربتها القاسية والمريرة والمؤلمة والكارثيّة بالجزائر في مشروعها في البلاد التّونسيّة(37). كما وظّفت أيضا فرنسا الذّاكرة في مشروعها الاستعماري في تونس عبر تنظيم المعارض الدّوليّة(38). 
من ناحية أخرى، اعتمدت الكتب المحرّرة باللّغة الفرنسيّة والصّادرة في فرنسا خاصّة بُعيد انتصاب الحماية الفرنسيّة على منهج النّظر في تاريخ البلاد التّونسيّة كركيزة أساسيّة للتّنظير لمستقبلها، وذلك في سياق الفضاء الحضاري الفرنسي والمشروع الاستعماري. وهذا ما راهن عليه أنتيشان Antichan في كتابه «تونس ماضيها ومستقبلها». بيّن الكاتب منذ بداية عمله التّاريخ «الآسيوي» للبلاد التّونسيّة، كما لم يتردّد المؤلّف في إرجاع «البربر» إلى «أصل آسيويّ» معتمدا على «الكتاب المقدّس»(39). خصّص الكاتب فصلا كاملا لكي يشرح فيه سبب توق مُجمل الامبراطوريّات لاستعمار البلاد التّونسيّة، وقد قدّم عدد من الأسباب وأوّلها «بدائيّة» السكّان المحليّين. وثانيا، وهنا يحضر خطر توظيف علم التّاريخ، حيث ذكّر الكاتب مرّة أخرى بالأصل الآسيوي للبربر وهذا ما يدلّل على أنّهم ليسوا «الأبناء الحقيقيّين للأرض الأفريقيّة الذين خرجوا من رحمها وتغذّوا بعصارتها». وهذه إحالة ذكيّة وموحية من الكاتب، فإن كان البربر أنفسهم ليسوا من السكّان المحليّين فما بالك بالعرب أو الأتراك، أو حتّى الفرنسيّين. ولهذا تتحوّل هذه السّرديّة التّاريخيّة الموجّهة نحو نزع شرعيّة امتلاك السّكّان الأصليّين لتاريخهم إلى وسيلة أساسيّة لجعل الفرنسيّين مشابهين للعرب والبربر والأتراك في علاقتهم بالبلاد التّونسيّة، فكلّهم أجانب عن الأرض. في نفس هذا السّياق، أكّد الكاتب على أهميّة الثّروات الطّبيعيّة في البلاد التّونسيّة (حبوب، زيتون، مناجم...). إذ حدّد ثلاثة أسباب أساسيّة لتتالي استعمار البلاد التّونسيّة عبر التّاريخ، أوّلا غياب دليل تاريخيّ يُحدّد بدقّة هويّة السّكّان المحليّين وهذا ما تكفّل به الكاتب عبر نزع شرعيّة سرديّة السّكان المحليّين من البربر. والسّبب الثّاني هو الثّروات الكبيرة التي تشتمل عليها تونس (إلى جانب الموقع الاستراتيجي والطّقس الملائم)، وثالثا المعاهدات التجاريّة والمبادلات الحضاريّة المتعدّدة تاريخيّا بين تونس ومُجمل بلدان البحر الأبيض المتوسّط(40). استطاع الكاتب، بُعيد تخلّصه من عبء الشّرعيّة التّاريخيّة للسكّان الأصليّين، القول بأنّه « مع كلّ هذه المزايا الطّبيعيّة، لا يمكن لتونس إلّا أن تكون موضوعا لكلّ الرّغبات، إنّ خصوبتها وتجارتها وموقعها على البحر الأبيض المتوسّط تفسّر بشكل كافٍ سلسلة الغزوات التي كان هذا البلد مسرحًا لها منذ أقدم العصور وحتّى يومنا هذا»(41). وقد حُشر الاستعمار الفرنسي ضمن هذا السّياق التّاريخي، الشّرعيّ.
وظّف أنتيشان Antichan مرّة أخرى التّاريخ لشرعنة الاستعمار الفرنسي للبلاد التّونسيّة. أشار أساسا إلى أنّ الدّولة التّونسيّة مستقلّة فعليّا عن الامبراطوريّة العثمانيّة منذ القرن 17، وقد سعت فرنسا إلى حماية استقلال الأسرة الحاكمة الحسينيّة من أيّ هيمنة استعماريّة مع توجّس دائم من امكانيّة إعادة الهيمنة العثمانيّة بتونس خاصّة بعد السّيطرة على طرابلس (1835). كما استرجع مرّة أخرى الكاتب الإرث الغربي للبلاد التونسيّة حيث «لا يوجد ركن واحد في تونس لم تترك فيه روما الآثار الواضحة لهيمنتها وقوّتها وعبقريتها»(42)، ونفس هذه المرتكزات التّاريخيّة حثّت إيطاليا على المطالبة بحقّها بتونس باعتبارها «أرض إيطاليّة»(43). لكن هل من حقّ إيطاليا استعمار تونس؟ يستحضر الكاتب هنا المعطى الجغرافي/التّاريخي قائلا أنّ «إيطاليا جارة قريبة جدّا» من تونس ولكّن فرنسا أقرب منها لوجودها في الجزائر، وتونس هي «الامتداد الطّبيعي للجزائر» خاصّة على مستوى التلّ التّونسي وارتباطه بهضبة قسنطينة. كما استحضرت الرّواية التّاريخيّة مرّة أخرى حيث ذكّر الكاتب بأنّ لفرنسا تاريخ عريق بالبّلاد التونسيّة سواء من خلال الحملة الصّليبيّة للقديس لويس في القرن 13 ميلادي أو من خلال بناء كنيسة بتونس زمن لويس فيليب (1841)(44). كما حاول الكاتب تفنيد حجّة إيطاليّة أخرى راسخة وهي التّفوّق الدّيمغرافي للإيطاليّين بتونس حيث حاجج بأنّ نفوذ دولة على دولة أخرى لا يعتمد على عدد مواطنيها بها بل بطبيعة «المصالح» وأهميّتها وهنا «لن يكون لفرنسا منافس محتمل في تونس»، فالجزائر تتشارك مع تونس خمسمائة كيلومتر من الحدود، كما تحتكر فرنسا 70% من الديون التونسيّة الخارجيّة، ومُجمل التجارة الخارجيّة، كما احتركت فرنسا امتياز صيد المرجان في طبرقة مدّة قرنين من الزّمن، كما يمتلك الفرنسيّون عقّارات بتونس بقيمة 50 مليون، وبنت فرنسا أكثر من 200 كيلومتر من السّكك الحديديّة وهي على اتّصال مباشر بالجزائر، إلى جانب الإشراف على مشاريع تعمير أخرى مثل مشروع نقل المياه من زغوان إلى مدينة تونس(45). 
أعلنت السرديّة الرسميّة أن السبب المباشر للاستعمار الفرنسي للبلاد التونسيّة هو الاعتداءات الكثيرة لقبيلة خمير على التّراب الجزائري. مرّة أخرى، لم يتردّد أنتيشان Antichan في سحب الشّرعيّة التّاريخيّة من السكّان المحليّين، حيث أنكر ماضي قبيلة خمير وقال أنّه لا يُعرف لها تاريخ، واختفى كلّ دليل على جذورها وأصولها، والقبيلة نفسها تجهل أصولها(46).
أعاد لوديفيك كامبو Ludovic Campou، بعد ثلاث سنوات، إنتاج السّرديّات الأساسيّة التي راهن عليها أنتيشان Antichan. حيث مجّد الماضي الفينيقي والرّوماني لتونس مع تجاهل للتّاريخ الإسلامي، وإنتاج صور نمطيّة تحقيريّة للبلاد التونسيّة قُبيل الاستعمار، فقد وجدت فرنسا تونس كآلة بلا ميكانيكي وقائد عسكري بدون أسطول ولا جنود(47)، وسوف يُعيد الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسيّة «روعتها» و»رونقها» القديم(48)، وهذا سياق آخر يُستحضر فيه الماضي.  تسعى فرنسا لحسم مسألة الشرعيّات التاريخيّة وما عليها سوى توفير «مبشرون متحمسون، وجنود شجعان، وإداريون ماهرون، ورأس مال متاح»(49). ويُشبك لوديفيك كامبو مثل نماذج أخرى قمنا بدراستها بين رهانات الذاكرة والتاريخ وبين شبكات المصالح المادية والجيوبوليتيكيّة، حيث أشار إلى أهميّة سيطرة فرنسا على افريقيا فإمّا أن تُصبح «قوّة افريقيّة عظمى»، أو تنهار إلى درجة «قوّة ثانويّة» خلال قرن أو قرنين لو تتخلّى عن القارّة(50).
الخاتمة
تبيّن لنا من خلال هذا البحث الدّور الحيويّ للرّحلة في إنتاج معارف خاضعة لرهانات الفاعلين المؤثّرين. سعينا عبر ثنايا هذا المقال إلى الإجابة على الاشكاليّة الأساسيّة التي طرحناها منذ المقدّمة وهي: ما هي علاقة الرّحلة الفرنسيّة للبلاد التّونسيّة خلال المرحلة الأولى للاستعمار بإعادة ابتكار وإنتاج أجزاء من التّاريخ التونسي؟ وما هي طبيعة علاقة مؤسّسة الاستعمار بذلك؟
وقد استخلصنا مجموعة من الاستنتاجات وهي: 
- تشابكت معارف وتمثّلات الرّحّالة الفرنسيّين مع رهانات مؤسّسة الاستعمار الفرنسيّة حيث أنتجت صورا نمطيّة تحقيريّة ووصوما اجتماعيّة سلبيّة عن البلاد التونسيّة، وتلاقت السّرديّة الاستعماريّة مع المعرفة المنتجة في الرّحلة.
- لم تخفِ الدّولة الفرنسيّة هوسها من قوّة الوجود الإيطالي بتونس وصلابة الحجج الإيطاليّة المتعلّقة بأهمّية التّاريخ الرّوماني التّونسيّ، ولهذا سعت فرنسا جهدها إلى إعادة إنتاج هذا التّاريخ واحتكاره لمصلحتها سعيا لسحب ورقة مؤثّرة من يد إيطاليا.
- وظّفت فرنسا التّاريخ الرّوماني للبلاد التّونسيّة من زاوية أخرى، حيث سعت إلى اقناع الفرنسيّين بالهجرة إلى تونس في سبيل التّغلّب ديمغرافيّا على الإيطاليّين. ولهذا بُذلت جهود لإنتاج تاريخ غربيّ/روماني للبلاد التّونسيّة، سواء ما قبل المسيحيّة أو خلالها.
- وُجّهت رهانات فرنسا لإعادة إنتاج تاريخ روماني لتونس لاستهداف فاعلين آخرين وهم السكّان المحليّين. فإلى جانب القوّة العسكريّة، فقد احتاجت فرنسا إلى سرديّة تُقنع من خلالها السكّان بشرعيّة وجودها في تونس. سواء عبر مسألة السّبق التّاريخي وعراقته أو تشابه الحملات الفرنسيّة مع من سبقها من فينيقيّين وعربٍ وعثمانيّين.
يمكن التّأكيد أخيرا على الدّور الحيويّ للرّحلة في إعادة إنتاج السّرديّات التّاريخيّة المُحملّة برهانات الفاعلين، وخاصّة أنّ فرنسا اعتمدت أساسا خلال الفترة قيد الدّرس على الرّحلة العالمة. تشابكت سرديّات الرّحلة مع أهداف الاستعمار من ناحية، ومع ظرفيّات الدّاخل التّونسي وصراعات المتوسّط من ناحية أخرى.
الهوامش
(31)  François Bournand, Tunisie et tunisiens, Paris, 1893, p.x-xiv
(32) المرجع نفسه ص 101 
(33)  Alfred-Louis Delattre, Tunisie : photographies exposées par le directeur du musée de Saint-Louisde-Carthage, Tunis, 1892
(34) Eugène Brieux, Les beaux voyage: Tunisie, LES ARTS GRAPHIQUES, Paris, 1912, p.60
(35) Charles Simond, Tunis et la Tunisie, Paris, 1887, p.60
(36) Eugène Brieux, Les beaux voyage, op.cit, p.112-113
(37)  Paul Leroy-Beaulieu, L’Algérie et la Tunisie, Paris, 1887, p.VI
(38) Pauline Savari, La Tunisie à l’Exposition, Paris, 1890
(39) P.-H. Antichan, La Tunisie, son passé et son avenir, Paris, 1884, p.1 -5
(40) المرجع نفسه ص 97-120 
(41) المرجع نفسه ص 149
(42) المرجع نفسه ص 155
(43) المرجع نفسه ص 156
(44) المرجع نفسه ص 158
(45) المرجع نفسه ص 159-160
(46) المرجع نفسه ص 193-201
(47) Ludovic Campou, La Tunisie française, Paris, 1887, p.5
(48) المرجع نفسه ص 227
(49) المرجع نفسه ص 238
(50) المرجع نفسه ص 238-239