قراءة في كتاب
بقلم |
![]() |
مريم الخالدي |
وعّاظ السلاطين |
نبذه عن المؤلف «علي الوردي»
هو علي حسين محسن عبد الجليل الوردي، وُلد في 23 تشرين الأول/ أكتوبر في مدينة الكاظمة ببغداد عام 1913، وهو عالم اجتماع عراقي، ومؤرّخ وأستاذ جامعي اتّسمت أفكاره بالموضوعيّة، حصل على شهادتي الماجستير والدّكتوراه من جامعة تكساس بأمريكا، له الكثير من الأبحاث والمؤلّفات في قسم علم الاجتماع بجامعة بغداد. سار «الوردي» على منهج ابن خلدون، فكانت أفكاره بعيدة عن المناهج المادّيّة والقوميّة.
توفّي على الوردي في 13 تموز/ جويلية عام 1995 إثر إصابته بمرض السّرطان.
نبذة عن كتاب « وعّاظ السّلاطين»
يتكوّن الكتاب من 365 صفحة تمّ نشره من خلال شركة دار الوراق للنّشر المحدوده في لبنان، ويتكوّن من اثنى عشر فصلا تناول فيها المؤلف الوعظ والصّراع النّفسي وازدواجيّة الشّخصيّة من خلال استعراض أحداث التّاريخ الإسلامي في ضوء المنطق الاجتماعي الحديث وموقف قريش من الدّين الجديد وتطوّرات المفاهيم الاجتماعيّة بعد ظهور الدّين وأثره في قريش وما تلاها من صراع على الخلافة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول ﷺ وأيضا بعد مقتل عثمان بن عفان وما رافق مقتله من صراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وخلاف قائم بين السّنة والشّيعة تواصل إلى يومنا هذا.
يشير الكاتب إلى أنّ للوعظ ضررا بليغا في تكوين الشّخصيّة البشريّة عندما يناشد أهداف معاكسة لقيم العرف الاجتماعي، والإنسان عندما يسمع الواعظ يحثّه على ترك هذه الدّنيا الخلاّبة يمسي حائرا، فضميره يأمره بطاعة الواعظ من ناحية ونفسه تجذبه نحو الدّنيا من ناحية أخرى. وهكذا يدخل الإنسان في صراع نفسي يؤدّي إلى ازدواجيّة في الشّخصيّة، وقد لاحظ الكاتب بعد دراسة طويلة أنّ العرب مصابون بداء إزدواجيّة الشّخصية أكثر من غيرهم من الأمم، ويُرجع ذلك إلى أنّهم وقعوا أثناء تطوّرهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين هما البداوة والإسلام. وأنّ هذا الازدواج يضعف كلّما ابتعدنا عن الصّحراء، وصنّف البلاد العربية من هذه الناحية، على أساس قربها أو بعدها عن الصّحراء. ويلخّص الثّورة التي قامت على الخليفة عثمان بن عفان كمثال تاريخي متجذّر لهذا التّناقض، وعزاه لتطرّف عثمان بالاستئثار بالحكم وانحيازه لأقربائه من جهة، وتطرّف الرّعية بالجزع من جهة أخرى.
وتطرّق الكتاب إلى الثّورات التي حدثت في تاريخ الخلافة الاسلاميّة ووصفها بأنّها كانت عبارة عن مظهر خارجي لما كان يكمن في باطن النّفس من تناقض وتنازع، حيث شهد العهد الأموي ثغرة لا يستهان بها بين الدّين والدّولة، ثمّ جاء العبّاسيّون إلى الحكم وهم يدعون أنّهم يريدون إحياء السّنة التي أماتها بنو أميّة وتقويم ما أعوج من سبل الدّين. ويضرب الكاتب بهارون الرّشيد كمثال رائع على ازدواج الشّخصيّة، فقد كان يكفيه أن يبكي من خشية اللّه ويغمى عليه ولا يبالي بعد ذلك أن يفعل ما يشاء، فقد كان لديه على سبيل المثال ألفان من الجواري، اختصّ ثلاثمائة منهن بالغناء والطّرب. وازداد عدد الواعظين في ظلّ الدّولة العباسيّة وكلّما اشتهر أحدهم ببلاغته ووعظه، جاء الخليفة نفسه مع أهل بيته ووزرائه وحاشيته يستمعون إليه ويبدون بين يديه من مظاهر التّوقير والاحترام ما يشجّع غيره على اتباع طريقه.
ويتّضح من هذا أنّ مشكلة الدّين عند النّاس أصبحت هيّنة، فالفرد يجوز له أن يعمل ما يشاء وينهب ما يشاء، ولكي يرضى عنه اللّه يجب أن يعطي جزءا ممّا ينهب إلى الوعّاظ لينوبوا عنه أمام اللّه يستغفرونه له. ومن الممكن القول بأنّه كلّما كان الظّلم الاجتماعي أشدّ كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر.
وقد يتزعزع إيمان أيّ إنسان يرى أمير المؤمنين ينهب أموال الأمّة ثمّ يبذّرها على ملّذاته وشهواته، والعجيب أن نرى النّاهب معذوراً والمنهوب معاقباً. وسار النّاس في هذا السّبيل المزدوج، وهم لا يزالون يسيرون فيه حتّى يومنا هذا.
يرى الكاتب أنّ شعار الوعّاظ هو أنّ القدوة العالية خير من القدوة الواطئة، والواقع أنّ القدوة الواطئة خير وأبقى، فهي تحفز الإنسان على العمل وتبعث فيه التّفاؤل، أمّا القدوة العالية فلا يستطيع اتباعها إلاّ القليلون. وقد حلّق الوعّاظ بمواعظهم في السّحاب فرجعوا إلى رجال السّلف يزكّونهم ويزيلون عنهم جميع عيوبهم ليجعلوا منهم قدوه للنّاس، لقد صنعوهم بأيديهم كما يصنع الفنّان تمثالا، ثمّ جاؤوا بهم إلى النّاس ليكونوا أمثالهم، وبهذا وضعوهم أمام غاية لا تنال. لقد صنعوا أنماطا من السّلوك فوق متناول البشر، وتركوهم يركضون وراءها من غير جدوى- كمن يركض وراء السّراب.
خلقوا مجتمعا مزدوجا، والمجتمع المزدوج يقلّ فيه ظهور الزّعماء الأقوياء غالباً، والأمّة لا تستطيع أن تخلق من شخص تافه زعيماً، كذلك الشّخص الموهوب لا يستطيع أن يكون زعيماً في أمّة لا تقدّره.وعندها يظهر زعيم يراه النّاس لا يليق بالزّعامة. لأنّهم يقارنونه بتلك القدوة الخياليّة التي صنعها الواعظون. يريد الواعظون أن يرجعوا بنا إلى صدر الإسلام ويرى المؤلّف أنّ هذا منطق سخيف، فالمسلمون الأوّلون نجحوا ثمّ فشلوا، وليس لنا إلاّ أن ندرس عبرة النّجاح والفشل في تاريخهم لكي نتّعظ بها. ولا يقصد المؤلّف ذمّ المسلمين الأوّلين، لكنّهم بالنسبة له بشر كغيرهم من البشر، إذ تنطبق عليهم النّواميس الاجتماعيّة وتجرفهم في تيارها، أرادوا ذلك أم كرهوا. فالمسلمون الأوّلون كانوا يكافحون الظّلم والتّرف والتّعالي في أيّام محمد ﷺ، فلمّا علوا في الأرض وكثر لديهم المال أصبحوا بحاجة إلى من يكافحهم.
يريد الواعظون منّا أن ندرس منشأ الإسلام ونبارك حركته الأولى باعتبارها الحركة الخالدة التي لا تحتاج إلى تبديل أو تطوير، وهذا رأي لا يرضاه مؤسّس الإسلام نفسه، فمحمد ﷺ جاء للنّاس بخطوة اجتماعيّة كبرى، وهو يعلم أنّ التّاريخ يسير بخطوات متتابعة، فلابدّ إذن أن تعقب خطوته خطوات أخرى على توالي الأجيال من غير توقّف. ويرى الكاتب أنّ الدّين لا يردع الإنسان عن عمل يشتهي أن يقوم به، إلاّ بمقدار ضئيل، فتعاليم الدّين يفسّرها الإنسان ويتأوّلها حسب ما تشتهي نفسه.
من جهة أخرى، يتّضح للكاتب أنّ الإنسان مسيّر ومدفوع بظروفه، فتقويم أخلاق النّاس لا يتمّ بالتّخويف والتّرهيب من عذاب اللّه أو بالإنذار بالويل والثّبور «غيّر ظروف النّاس، تتغيّر بذلك أخلاقهم». ويظنّ وعّاظ السّلاطين أنّ العدل أمر بسيط، فهو فكرة تخطر ببال الإنسان فيحقّقها، لذا فأنّهم يعظون الإنسان بأن يكون عادلا ويظلّون يعظونه إلى مالانهاية، مع العلم أنّ الظّلم باقٍ والدّنيا سائرة على مجراها القديم.
ويرى الكاتب أن وعّاظ السّلاطين يعتبرون كلّ من تولّى السّلطة صالحاً، أمّا الثّائر على السّلطان فهو شرّير، ويكرّر الوعاظ قوله تعالى:﴿ ... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ...﴾ (النساء: 59) وهم بذلك يأمرون النّاس بطاعة السّلطان مهما كان ظالما، وينسون طاعة اللّه والرّسول، وينصبّ جلّ اهتمامهم على طاعة أولي الأمر، أي طاعة السّلاطين. ويقارن الكاتب بين المنطق القديم للمجتمعات «يأمر السّلطان فيطاع»، والمنطق الحديث القائل بحتميّة التّغيير. فالمجتمع الذي لا يستطيع تبديل حكّامه بالتّصويت يبدّلهم بالثّورة والعنف.
وفي موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقول الكاتب: «فرض النّبي واجب النّهي عن المنكر لكي يحرّض أمّته على مكافحة الظّلم، فاستغلّ ذلك السّلاطين وجعلوه سوطاً بيد الجلاوزة يسلطونه على رأس البقّال والحمّال والمعلّم من أهل السّوق المساكين». ويرى الكاتب أنّ خير تطبيق لهذه السّنّة، في هذا العصر، هو استعمال حقّ الانتخاب، وأنّ اللاّمبلاة في هذا الموضوع جعلت الانتخابات ألعوبة بيد الطّغاة. ويرى أيضا أنّ حركة «ابن سبأ» وهم كبير، وهي آلة فكريّة لاءمت جميع المذاهب، فتمسّكوا بها.
وأشار الكاتب في الفصل السّادس من الكتاب إلى أنّ الواعظين صنّفوا رجال التّاريخ إلى أخيار وأشرار، وأشار أيضا إلى أنّ أصحاب النّبيّ ﷺ كانوا بشرا مثل غيرهم من النّاس، وليسوا ملائكة معصومين من الذّنوب. وأنّ دخول قريش في الإسلام أفاد الإسلام بأن جعلته دولة فاتحة منتصرة تعنو لها الرّقاب، ولكن من ناحية أخرى جعلت من الإسلام ذاته نظاما للطّغيان والغزو لا يختلف عن نظام القياصرة والأكاسرة. ويعتقد بأنّ قريش لم تكن مخلصة لأوثانها عندما حاربت محمدا، بل كانت مخلصة لمصلحتها وكرامتها، ولذلك عندما وجدت مصلحتها وكرامتها في الدّين الجديد تركت آلهتها.
لقد كان موت محمّد ﷺ خسارة للإسلام فبكاه المسلمون بكاء لا ريب فيه، لكنّ أمر الخلافة شغلهم وجعلهم ينسون أهمّية فقده. وذكر أنّ أبا بكر أوصى بالخلافة إلى عمر لكنّ قريشا -من وجهة نظر الكاتب - ساءها أن يتولّى أمورها رجل من أسرة «تيم»، ثمّ يتولّى الأمر من بعده رجل من أسرة «عديّ» لكون الأسرتين لم يكن لهما شأن في أيّام الجاهلية. وأنّ عمر لم يتقيّد بالشّكليّات ولم يتمسّك بحرفيّة الدّين كما يفعل رجال الدّين هذه الأيام، لذلك أبطل نصيب (المؤلّفة قلوبهم) رغم أنّ ذلك مذكور في القرآن مبرّرا ذلك أنّ رسول اللّه ﷺ كان يعطيهم يوم كان الدّين ضعيفا ومحتاجا إلى نصرتهم، أمّا اليوم فقد أصبح الدّين قويّا ولا يحتاج إلى استرضائهم. ويشير الكاتب بأنّنا يجب أن نأخذ العبرة من عمر وأن ننظر في مصالحنا العامّة نظرة موضوعيّة ونجتهد غير متقيّدين بما ورد في القرآن أو الحديث من أحكام تنافي ظروف وقتنا الحالي.
وفي أواخر أيام عمر كانت قريش قويّة غنيّة، ولو أنّ عمر ولّى عليّاً من بعده لرأينا قريشا تقلب الدّنيا على رأس عليّ عدوّها اللّدود. وبعد أن تمّت البيعة لعثمان استاء عليّ بن أبي طالب وقال لإبن عوف « ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا(يعني بني أمية)، فصبرا جميلا واللّه المستعان على ما تصفون». ويرى الكاتب بأنّ جميع القرائن تشير إلى أنّ عليّاً كان يكره قريشا وكانت قريش تكرهه، وكان يحاربها لنفس السّبب الذي حاربت به النّبي من قبله.
يشير الكاتب أنّه من سوء حظّ الإسلام أن دخل فيه أناس من نوع «مروان بن الحكم» الذي أطرده الرّسول من المدينة، ولكن أرجعه عثمان وزوّجه إبنته، وجعله وزيره وعضده الأيمن، فهذا النّوع من النّاس -حسب وجهة نظر الكاتب- مهما صار مخلصا فإنّ العقد النّفسيّة المغروزة في عقله الباطن لا تدعه يسلك سبيل المؤمنين المخلصين. لذلك كان مروان يُهيّج الثّوار ليمنع الصّلح بينهم وبين عثمان. ويحدثنا التّاريخ بأنّ معاوية منذ أيام عمر أراد أن يجعل من الشّام عاصمة ملكه القادم، وأنّ السّياسة التي ابتكرها معاوية قد اتبعها موسوليني حيث كان يقول إنّ جماعة منظمة قليلة تستطيع أن تتغلّب على جماعة مبعثرة كبيرة، وأسّس حزبه الفاشستي ونجح نجاحا كبيرا. وقد اتضح للكاتب من تتابع الحوادث التّاريخيّة أنّ الغموض يكتنف مقتل عثمان من جميع جوانبه. ويعتبر أنّ قتله على يد الثّوار خطّة أُحكم تدبيرها بدقّة. ولقد كان معاوية يطالب عليّاً بأن يسلّمه قتلة عثمان ولكن عندما صارت إليه الخلافة وجد عذرا لنفسه وقبل النّاس العذر. ثم تطرّق الكاتب إلى الشّعر وتأثيره في قريش أيّام الجاهلية حيث كان الشّعراء وسيلة كبرى من وسائل فخارهم القبلي، واهتمّت أمّة العرب بالشّعر لدرجة أنّه أصبح سلاحا ثانيا يساعد السّيف في تنازع البقاء، وفضّل العرب الشّاعر على الفارس لأنّهم اعتبروا الشّعر أقوى عونا للقبيلة البدوية من الفارس أحيانا. وفي الإسلام ذهبت دولة الشّعر وحلّت محلّها دولة الخطابة، وتحوّل المجتمع من نظام قبلي قديم إلى نظام ديني جديد. لكنّ مع العهد الأموّي أخذت قريش تعمل على استرجاع سؤددها الذي كان لها قبل الجاهليّة، وعاد العرب الى شرّ ما كانوا عليه من التّنافس والتّفاخر، فاستخدموا الشّعر لذلك. فقد كان معاوية من مشجّعي الشّعر وكان يميل أكثر من أبيه إلى القيم البدوية القديمة حيث كان هو نفسه شاعرا، يحبّ الصّيد والخمر والغزل. وكذلك يزيدا، فقد كان يكره بني هاشم ويكره الأنصار كرها شديدا، لذلك لم يستطيع أن يزيح عن قلبه العقد الدّفينة التي أورثتها فيه حروب محمد ﷺ عندما قتل أخواله وأعمامه، ولعلّ القسوة التي قتل فيها بنو هاشم في واقعة كربلاء تشير إلى ما في قلب يزيد من كره. وأخذت قريش تعمل على استرجاع سؤددها الذي كان لها قبل الجاهليّة، وعاد العرب في العهد الأموي الى شرّ ما كانوا عليه من التّنافس والتّفاخر، فاستخدموا الشّعر لذلك.
ويستعرض الكاتب من خلال قصّة عمار بن ياسر العديد من المواقف ويرجعها لأصلها النّفسي. ويذكر أنّ عمارا تأثّر كثيرا في عقله الباطني بما تلقّاه من تعذيب قريش له ولوالديه، وقد ظهر ذلك في عصبيّته وحدة مزاجه تجاه القرشيّين. حيث اعتبرهم كفّارا يتظاهرون بالإسلام، وأنّهم استسلموا ولم يسلموا. ولم يفرّق بين عثمان وأيّ من قريش، حتّى كفّره وهو معروف بتقواه.
وتحدّث المؤلف عن عليّ بن أبي طالب وشخصيّته التي فيها من الغرابة والتّفوق ما جعلها محطّ أنظار النّاس ومركز اهتمامهم، فقد كان عليّ من أعظم المجاهدين في الحروب التي خاضها حيث أعجب النّبي محمد ﷺ ببسالته النّادرة في خدمة الإسلام وخدمته، فانثال عليه بالمدح في كلّ مناسبة، وتناول النّاس هذا المديح وحفظوه وتداولوه. لقد كان عليّ قريبا إلى قلب النّبي ﷺ وإلى عقله. ومن يطالع سيرة محمد ﷺ يجد أنّه كان حكيما واقعيّا لا يفرض على أصحابه أمرا لا يرضون به، وهو لم يرث السّلطة عن أبيه ولم يملك جلاّدين يفرضون إرادته على النّاس. لقد كان محمد داعيا ولم يكن دكتاتورا.
كان علي بن أبي طالب يرى أنّه أحقّ بالخلافة من غيره، ولكن حين رأى النّاس يبايعون أبا بكر، بايع معهم. ثم توسّع الكاتب في المقارنة بين نظرة علي للإسلام كدين رحمة ومساواة، وبين اهتمام قريش بالفتوحات التي علّت أغنياءها ووسّعت الفجوة بين الحاكم والمحكوم. ويسوق الأمثلة على التّرف الفاحش الذي عاشه الخلفاء فيما بعد، فابتعدوا ابتعاداً كبيراً عمّا بدأ به الدّين. ويعيب الكاتب على المؤرخين لومهم عليّاً كونه لم يحسن إدارة ظروفه السّياسيّة ولم يتآلف النّاس أو يساوم الولاة، بوصفه خليفة ونسوا أنّه كان ثائرا، وأنّ الثّائر يرى بمنظار غير منظار الحاكم والسّياسي.
وفي حديثه عن الشّيعة والسّنة يذكر الكاتب بأنّ كلتا الطّائفتين كانتا حزبا واحدا، وأنّ من فرّق بينهما هم السّلاطين ووعّاظ السّلاطين، ثمّ يورد الأمثلة على هذا التوافق الذي ما لبث أن أصبح تنافرا، ويذكر أثراً جمّاً لحادثة حصلت بين المنصور ومحمد الحسني فكانت بداية الشّقاق. واشتدّ الخلاف في أيّام الرّشيد لأنّه كان شديد الكره للعلويّين وأشياعهم من قبل أن يتولى الخلافة، وبلغ الخلاف أشده في عهد المتوكّل حيث أمر بهدم قبر الحسين وما حوله من المنازل، وأمر بقطع لسان اللّغوي المعروف ابن السكّيت حين سمعه يمدح الحسن والحسين.
ثم يعرج الكاتب على حادثة سمّيت بالمحنة، من ثمّ ما آل إليه البحث الدّيني في الأندلس إلى أن أصبح ذكر معاوية يعلو تدريجيّاً في قلوب أهل السّنة والجماعة في المشرق، فأصبح في نظرهم من أصحاب رسول اللّه وكاتب وحيه وخال المؤمنين. وأصبحت العراق فيما بعد ساحة لحوادث تؤجّج هذا الصّراع الفكري بين موالٍ لآل الرّسول، وموالٍ لأصحاب الرّسول. ومن ثمّ جاء صراع الصّفويّين والعثمانيّين، فأزال الصّفويّون عن التّشيّع النّزعة الثّوريّة وجعلوه مذهباً رسميّاً. ودخل طاحونة السّلاطين.وأدخلوا مذهبهم عنوة إلى بلاد الفرس، وأخذ يصطبغ بصبغة الغرور القومي. ودخلت فيه الزّوائد.
يرى «على الوردي» في كتابه أنّه لو اسقرأنا حوادث التّاريخ الاسلامي في ضوء المنطق الاجتماعي الحديث، لوجدنا فريق السّلاطين من جانب وفريق الثّوار من الجانب الآخر.
إنّ المنطق الاجتماعي الحديث لا يميّز بين النّاس حسب مطامعهم وأغراضهم. إنّما هو يميّز بينهم حسب الجهة التي ينتمون إليها في تأييد الوضع القائم أو معارضته. وأنّ العدالة الاجتماعيّة لا تتحقّق بمجرد أن تعظ الحاكم أو تخوّفه من عذاب اللّه. إنّ العدالة ظاهرة اجتماعيّة لا تحدث في المجتمع إلاّ بعد تنازع الحاكم والمحكوم فيه. وأنّ الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان، وصديقك الذي تستعذب حديثه ويعجبك مظهره وأدبه قد يكون من أظلم النّاس إذا تولّى زمام الحكم.
رأيي حول كتاب وعّاظ السّلاطين :
الكتاب الذي صدر منذ خمسين عاماً مازال يعبّر عن واقع نعيشه في العالم العربي، وهو في استعراضه الجدل حول أحداث التّاريخ الإسلامي في ضوء منطق علم الاجتماع، تطرّق في مواضيع حسّاسة وحلّلها بجرأة قد لا تعجب البعض وقد يكذّبها البعض الآخر، لكنّها تبقى وجهة نظر المؤلف من منطقه الاجتماعي. الكتاب مختلف، حيث تجرأ فيه مؤلّفه فقال ما يعجز عنه الآخرون، فشكّ وانتقد ولم يعطِ تبريرا للصّراع القائم حتّى الآن بين الطّوائف، بل وضع اللّوم على شيوخ الدّين ووعّاظ السّلاطين، كتاب يخوض في أمور كثيرة تهدم أفكارا نشأت عليها أجيال، تحتاج إعادة تدوير لتكوين فلسفة مجتمعيّة جديدة بنظرة أكثر واقعيّة ربّما تزيل التّشاحن بين المجتمعات، وتبني منطقا يحمي المسلم من التّنازع الطّائفي والمذهبي، ويزيد من وعيه الدّيني حتّى لا يكون فريسة سهلة لكلّ من يطلقون على أنفسهم «رجال الدّين» الذين يلعبون دورا أساسيّا في تغييب الشّعوب وإعطاء صفة الشّرعيّة على التّناحر الطّائفي والمذهبي. |