رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
طوفان الأقصى وتعزيز المشروع الإسلامي لفلسطين
 كان لافتاً للنّظر في إحدى جلسات «المؤتمر القومي العربي» الذي عُقد في 31 أيار/ ماي – 2 حزيران/ جوان 2024، وبعد أن قدَّم أصحاب الأوراق أوراقهم، وبعد أن أتمّ المُعقّبون تعقيباتهم، وردّ أصحاب الأوراق عليها، أن يقوم مدير الجلسة قبل إعلان نهايتها بإبداء ملاحظة ينتقد فيها ما ذكره أحد أصحاب الأوراق، أنّ معركة «طوفان الأقصى» عزّزت المشروع الإسلامي لفلسطين؛ وحاول المدير نفي الصّفة «الأيديولوجيّة» عن المعركة، وأنّ حماس هي حركة تحرّر وطني، محذّراً من تعزيز البعد الإسلامي أو إبرازه. وختم الجلسة دون أن يتيح لصاحب الورقة حقّ التّوضيح والردّ!!
يبدو أنّ ثمّة من يُقدِّم حركات المقاومة الإسلاميّة في شكل متعارضٍ مصطنعٍ وملتبسٍ مع حركات التّحرّر الوطني، وكأنّهما نقيضان، والحقيقة غير ذلك تماماً. فحركات المقاومة الإسلاميّة والحركات الجهاديّة تُعبّر عن أرقى درجات الوطنيّة، وعن أرفع درجات «التّحرّر» الوطني والإنساني.
نعم، لقد عزّزت معركة «طوفان الأقصى» المشروع الإسلامي لفلسطين:
أولاً: فليس ثمّة شكّ في أنّ من يقود المقاومة في قطاع غزّة ويملك القاعدة الأوسع من رجالها هم أبناء التّيار الإسلامي من حماس والجهاد الإسلامي، وبما يزيد عن 80% من المقاتلين. وأولئك الذين نفّذوا هجوم 7 أكتوبر في طوفان الأقصى هم أبناء كتائب عز الدين القسّام التّابعة لحماس؛ وهم الذين يقودون المقاومة في قطاع غزّة على مدى الأشهر الماضية. ولا شكّ أنّ للفصائل المقاومة الأخرى أدواراً مهمّة، وهي جزء أصيل من النّسيج الوطني الذي يجب التّحالف والتّعاون معه في تحقيق الأهداف الوطنيّة. من جهة أخرى، فإنّ قوى المقاومة المشاركة من الخارج هي قوى محسوبة على التّيار الإسلامي، بغضّ النّظر عن الخلفيّات الطّائفيّة.
وليس هنا مجال المناكفة أو الجدال، فالحقائق يعرفها كلّ النّاس؛ ولا أظنّ أنّ حماس والجهاد الإسلامي تشغلان نفسيها بهكذا مناكفات. وإنّما هذا كلام اضطررنا لكتابته، وبلغة منفتحة، لأنّ البعض يحرص على أن يبخس الإسلاميّين حقَّهم ليرسم صورته الرّغائبيّة لأحجام الاتجاهات وأوزانها، بما يخدم خلفيته. وربّما يستخدم ذلك لاحقاً في تشكيل صورة مشوّهة مزورة لحركة التّاريخ.
ثانياً: المقاومة الفلسطينيّة في معركة طوفان الأقصى، كانت منسجمة مع نفسها، فتحدّثت بروح إسلاميّة ولغة إسلاميّة، ورفعت شعارات إسلاميّة، واستخدمت بقوّة آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة، واستلهمت تراثها الإسلامي وهويّتها الحضاريّة، وعبّرت عن اعتزاز عميق بهويّتها وتاريخها الإسلامي. كلُّ ذلك كان يبرز بتناغم غير مُتكلَّف مع روحٍ وطنيّة عالية، ووعيٍ وطني مسؤول ومتّزن، مستوعبٍ للمصالح العليا وأولويّات العمل الوطني، ومُرحِّب بالشراكة الوطنية على أساس المحافظة على الثّوابت. وهو ما انعكس إيجاباً (وليس سلباً) وزاد من شعبيّة المقاومة واحترامها في بيئتها الفلسطينيّة والعربيّة والدّوليّة.
ثالثاً: الحاضنة الشّعبيّة الفلسطينيّة التي بهرت العالم بصبرها وصمودها وتضحيّاتها، وجّهت أنظار العالم كلّه إلى أرقى القيم الإسلاميّة الإيمانيّة في الاحتساب والتّوكّل على اللّه وعدم الخوف على الحياة ولا على الرّزق، وفي التّطلع إلى الشّهادة والفردوس الأعلى. هذه الحاضنة أظهرت التزاماً إسلاميّاً عالياً سلوكاً ومظهراً وقولاً وعملاً. ولم تكن لديها عقدة نقص، ولم تكن بحاجة لتقديم مسلكيّات وأخلاقيّات تجاري الغرب في سلوكه ومظاهر حياته وقيمه. بل إنَّ هذه الرّوح الإيمانيّة شكّلت مصدر إلهام عالمي لمئات الآلاف والملايين، الذين أقبلوا بشغف لمحاولة معرفة سرّ هذا الصّمود والثّبات الأسطوري، والذين وجدوا الفرق الأساس في القرآن والتّربية الإسلاميّة.
رابعاً: لقد ثبت أنّ الإسلام هو الأقدر على تفجير طاقات مجتمعاتنا، بحيث يستخرج منها أفضل ما لديها، من صور التّضحية والصّبر والشّجاعة والاحتساب والتّوكّل على اللّه والانفاق في سبيله، والعزّة والكرامة والحرية، والتكافل والتضامن الاجتماعي. ويكفي الإشارة إلى أنّ الأبطال الذين صنعوا التّاريخ من أبناء كتائب القسام في 7 أكتوبر كان بينهم مئات من حفظة القرآن؛ فجيل القرآن هو الجيل الأقدر على حمل أعباء التّغيير والتّحرير.
ويعلم متابعو قضيّة فلسطين والصّراع مع الكيان الصّهيوني، كيف أنّ قطاع غزّة تمّ احتلاله في العدوان الثّلاثي سنة 1956 في أقلّ من يومين، وكيف تمّ احتلاله أيضاً في سنة 1967 في أقلّ من يومين، بينما كان تحت أقوى وأكبر نظام عربي. ويعلم المتابعون أنّ قطاع غزّة نفسه وهو تحت حصار خانق هائل، وبإمكانات أقلّ بكثير وبما لا يقبل المقارنة، طوال 17 سنة ماضية خاض أربعة حروب مرغ فيها أنف الاحتلال الإسرائيلي في التّراب، ولم يمكن الصّهاينة من احتلال متر مربّعٍ واحد. وهو الآن يخوض حرباً أسطوريّة على نحو 250 يوماً، من الواضح أنّه في النّهاية في طريقه لفرض شروطه وإرغام الصّهاينة على الانسحاب. فما الذي تبدّل؟! إنّه «الإنسان»... ذلك الإنسان الذي صنعه هذا الدّين العظيم. وإلاّ فأخبرونا عن جيوشنا العربيّة والإسلاميّة الجرّارة، التي لا تجيد استخدام القوّة إلاّ على شعوبها.
ولذلك، لم يكن الإسلام ولا التّدين ولا المنهج الإسلامي «عورةً» تُغطَّى أو يُتَهرّب منها، بل هو المفخرة التي تكشف سرّ «صناعة الإنسان» في غزّة وفلسطين، وسرّ الصّبر والثّبات والتّضحية والشّجاعة والإقدام؛ وحيث ثبت أنّ الرّؤية الإسلاميّة التي تُقدّم في إطار الاعتدال ومعاني الحقّ والعدل والحرّية، ليست أمراً مُنفّراً، وإنّما تكسب قضيّة فلسطين مزيداً من القوّة والاحترام.
***
من ناحية ثانية، فإن حركات التّحرّر الوطني أو الحركات الوطنيّة هي «أوعية» يُمكن أن تُملأ بأي محتوى عقائدي أو أيديولوجي أو فكري؛ فقد تكون حركات يساريّة شيوعيّة كما في الثوّرة الفييتناميّة، وقد تكون ذات محتوى علماني ليبرالي، أو ذات محتوى قومي، أو ذات محتوى قُطري منغلق على ذاته، أو ذات محتوى عقائدي ديني... والسّاحة الفلسطينيّة فيها نماذج لحركات وطنيّة يساريّة، وقوميّة، وإسلاميّة. وجوهر السّؤال هنا يكون في القدرة على المحافظة على الثّوابت وصحّة المسار والبوصلة والكفاءة والفاعليّة في تعبئة الشّعب وقدراته، وفي استنهاض الأبعاد العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة بالشّكل الأفضل. ولا يجوز للبعض أن يقبل كلّ النّماذج إلاّ النّموذج الإسلامي!!!
***
من ناحية ثالثة، وفي مواجهة أيّ تعارض مفتعل، نقول إنّ الإسلاميّين هم مثلهم مثل غيرهم من أبناء الأمّة، شديدو الإخلاص لأوطانهم، ووطنيتهم وطنيّة إيجابيّة منفتحة، غير منغلقة على حزبيّات، أو عرقيّات أو طائفيّات، وهي وطنيّة غير مُمزِّقة ولا مُشتِّتة للأمّة، ومقتضى حبّ الأرض لا يعني الأنانيّة والتّكبّر والتّعالي على الآخرين، ولا ظلمهم وبخسهم حقوقهم.
فهذه الوطنيّة الرّاقية هي وطنيّة حبّ وشوق وحنين وارتباط بالأرض، وهي وطنيّة عزّة وكرامة ومقاومة للظّلم والاستعمار، وهي تحرير الأرض والإنسان، وهي وطنيّة المجتمع المتعاون المتكافل المتراحم، الذي يرعى الأقربين. وأساس وطنيّة المسلمين هي العقيدة الإسلاميّة، والتّحرّر الوطني هو جزء من التّكليف الرّبّاني بتحرير الأرض من العدوّ الغاصب. والارتباط بالأرض هو ارتباط الأمّة المسلمة بأرضها، غير محصور بقطريّة ولا قوميّة، وهو ما يفتح المجال لقيام المسلمين بواجبهم وتحمّل مسؤوليّاته تجاه فلسطين. وهذا أولى من استفراد المشروع الصّهيوني الغربي بفلسطين وشعبها وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، وبالتّالي تسهيل تصفيتها وإغلاق ملفها.
***
من ناحية رابعة، فإنّ دوائر العمل الوطني والعربي والإسلامي والإنساني هي دوائر عمل متكاملة متناغمة، يمكن أن تسير بشكل منسجم جنباً إلى جنب دونما تعارض، ولا حاجة لاصطناع تناقضات بينها. والإسلام بطبيعته «رحمة للعالمين»، وهو رسالة إنسانيّة عالميّة لتحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد؛ وإلى تكريس القيم الإنسانيّة الكبرى في العدالة والمساواة والحرّية والكرامة...
وإنّ الذين انتفضوا لصالح فلسطين من دولٍ وشعوب من شتّى القوميّات والأديان والاتجاهات، يعرفون المقاومة وطبيعتها، وقد لمسوا الجانب الإنساني الذي نجحت المقاومة في تقديمه، كما لمسوا الوجه الصّهيوني البشع للاحتلال والعدوان. ونحن عندما نركّز على المشترك الإنساني، فلا حاجة لإلغاء هويّتنا، كما لا حاجة لتغيير الآخرين لهويّتهم، ففي القيم الإنسانيّة الكبرى ما يكفي لجمعنا وتحشيدنا ضدّ المشروع الصّهيوني، الذي يسير ضد الإنسان وضد حركة التّاريخ، ويهدّد السّلم والاستقرار العالمي.
الهوامش
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «عربي 21» ، 15/06/2024.