تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
كوميديا
 أنا في رأيي من منظور فكري وفلسفي هذا العالم كوميديا لا يستقيم له حال ولا ينبني إلاّ على مفارقات يجسّدها شخوص مختلفون لا يلتقون على شيء سوى أنّهم بشر، يلعب كلّ الدّور الذي كُلِّف به وهو أن يصنع للآخر مقلبا يضحك منه، لا جميع المتفرّجين فحسب، بل كلّ الشّخوص الأخرى ضحايا وصنّاع المقالب. والجميع على الرّكح لأنّ مدرج الجمهور جزء منه.  
هكذا أرى العالم بعيني مفكّر، ولا أدري حقّا إن كنت ممّن ينتمون الى صنف المفكّرين، وإن كان كذلك فما هو إلاّ دور من ضمن الأدوار التي أوكلت إليّ عن وعي وأخرى عن غير وعي. ولا أظنّني أجيد أيّ دور كوميدي، ولكن أراني ربّما ممن يجيدون عملا من الأعمال الضّروريّة التي يقوم عليها المسرح من توضيب وكتابة وإضاءة وديكور وإكسسوارات أو مؤثّرات صوتيّة وضوئيّة وحاجات أخرى افتراضيّة. حتّى أنّني أتذكّر كم مرّة تعاونت مع أشخاص أو شخصيّات كان دورهم أكثر تعقيدا وخطورة. فلا يعتمد المسرح ولا الكوميديا التي تصنع على هذا الرّكح على ممثّلين مزدوجين يعوّض أحد الآخر مثلما يقع في السّينما، بل يتحتّم على الشّخصيّة لعب دورها بالكامل وإن كان يؤدّي الى الموت المحتوم، فهو ما كتبه المؤلّف وأقره السّيناريست وتعهّد به المخرج لينفّذه ممثّل الشّخصيّة.
وإذا كان الأدباء والمؤرّخون والمهتمون بالشّأن المسرحي جعلوا للكوميديا أصنافا، منها الكوميديا السّاخرة والهادفة والسّائدة -إذا اعتبرنا هاذين الاصطلاحين متناظرين- وكذلك ما يعبّر عنه بالكوميديا السّوداء أو المأساويّة. ففي الحقيقة كلّنا نعلم أنّ الحياة مبنيّة على المأساة التي لا مفرّ منها، فتعيشها الحيوانات بدرجات من الوعي فريسة تُنهش أو مفترسا يركض حتّى يسكن جوعه. ويعيشها كذلك الإنسان لتحقيق ذاته بتراكم التّجارب، وبالوعي الذي اكتسبه.   
ولهذا اعتبرت الحياة منذ زمان مأساة أو لا تكون. والشّعراء والفنانون يدركون ذلك أكثر من غيرهم، ومهتمّون بالتّعبير عنها بكل اللّغات الفنيّة لتوثيق المآسي، وهو دورهم الذي يتقنونه على نفس ركح الأحداث. 
ومن المفارقات التي تؤكّد ثبات كوميديا هذا العالم أنّها تعرض في نفس الفصل أكثر من مشهد للمسرحيّة في تزامن وعلى نفس الرّكح. فيُعدّ في الكواليس وتجسّد على الخشبة بحيرة البجعات وتفرقع سدّادات الشّمبانيا وشماريخ الفرح عند هؤلاء كوميديا استعراضيّة على أنغام موسيقى الرّومنتيكي «تشايكوفسكي»، وتجسّد رقصة البجعات الأربع، في حين تفرقع قنابل عنقوديّة وفسفوريّة عند الآخرين على نفس الخشبة من نفس ركح الأحداث، وتتجسّد موسيقى الشّجن مشحونة بالعويل وصافرات الإنذار وصفّارات سيارات الإسعاف والإطفاء، وتتلطّخ الصّورة دماء كلّ كيفما يراها تارة حمراء قانية وتارة بيضاء صافية. لا تستغربوا لأنّ الذين يقومون بدور «المشاهدين» أصبحوا يلبسون نظّارات تصفّي الصّورة وتكيّفها بفضل ما تراكم فوق العدسات من مرشّحات تصفّي الاشعاعات الضّارة بالعين، فتقيها وجع الصّورة ووخز الحياء من عري الحقيقة.
طبقات أصبحت ضروريّة يتمّ إلصاقها منذ الصّغر في دروس التّربية باعتبار الأصل والانتماء حتّى ترسخ ثقافة وإيديولوجيا. وبفضل هذه النّظّارات المكيّفة لا يخشى على لابسها الوجع ولا قلّة حياء بما أنّه «دلتوني»(1) صادق فيما يرى من الألوان التي وضعت له وشِيءَ له ألا يرى سواها.
بل إنّ تجارة النّظارات الإيديولوجيّة أصبحت موضة القرن. انتبه أن تغفل عن نظّاراتك المعدّة بعناية فائقة لتحمي نفسك من جرم مناهضة السّاميّة -في مفهومها الجديد- وأنصحك بتلك المدعّمة بفلتر «الهولوكوست» فإنّ القانون الدّولي لا يرحم، أو إن كنت شيعيّا أن تنسى انتماءك أو تغفل عن إمامك، فلا تنفعك إلاّ النّظارات ذات الفلتر الأصفر. أمّا إن كنت سنيّا فاعتدل ولا تتطرّف. وإن نزلت أرضا غير أرضك وبلدا غير بلدك، فلابدّ من عدسات لتتذكّر من حين لآخر لون بشرتك ولا تنتظر حتّى يذكّروك. 
ومن آخر صيحات الموضة النّظارات الجديدة تحت عنــوان « No ifs, ands or buts » التــي تسرّبـــت من الولايات المتّحدة إلى بلدان الاتحاد الأوروبــي فخرجت عن أفـواه الفرنسيّين دفعا واستدراكا :
«Oui, oui, Sans mais ni conditions… » 
فترجمتها لمن يستمع هي «بدون أعذار أو مبرّرات ولا حجج». تجعلك هذه النّظارات ترى كلّ من حولك أطفالا لا يستطيعون فهم ما يصير، فلا تتردّد في أن تأمرهم «أفعل كذا وكفى، ولا تناقش».  
نعم هكذا أصبحت المشاهد ومؤثّراتها على ركح المسرح الكوميدي تختلف باختلاف النّظارات المستعملة، فمنها المعدّلة تخفي جانبا من الصّورة أو لونا من الألوان، أو تمدّد أو تقصر في وحدات الأبعاد الثّلاثة، وحتّى الزّمن فلا ترى من خلالها إلاّ ما أريد لك أن ترى. ونظارات أخرى توفّر لحاملها مشاهد ثلاثيّة الأبعاد، فيعيش اللّحظة كأنّه بطل أحداثها. فلمّا تأخذ مكانك بين المشاهدين لتلعب دورك المحدّد لابدّ أن تغيّر نظّاراتك بما يفرضه نصّ السّيناريو. 
نعم أدرك ذلك، وهو قانون مسرح الحياة فرض على كلّ منّا أن يلعب دوره. ولكنّني في الحقيقة لا أريد أن أكون بطلا في هذه الكوميديا، ولا أراني قادرا على لعب دور لا يمثّلني وإن كان على مدرج كمشاهد، لأنّ كلّ مشاهد سيكون يوما ما شاهدا على نفسه، لأنّه لم يختر القناع المناسب له وشاهدا على عصره خاضعا لمحاسبة الأجيال اللاّحقة. وأنّا لا أريد نظّارات، فقط لأنّني أريد رؤية الحقيقة كما هي. ولأنّه يستهويني عريها، فأخجل منه وكثيرا ما أبكي لأجلها. كما يستهويني عري الملك فأهزأ منه، ومثل طفل أضحك على مؤخّرته الظّاهرة للعيان. 
الهوامش
(1) دلتوني: «daltonien» من هو مصاب بعمى الألوان أي هو من لا يميّز أحد الألوان الأساسيّة، فتختلّ الألوان المرتبطة به