بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة السابعة: الشهادة في الآثار
 بعد أن تتبعنا ما أثاره أصحاب المعاجم من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ» متّبعين التّسلسل التّاريخي رصدا لمّا يمكن أن يطرأ من تغيّر على المفهوم من زمن إلى آخر ومن لغوي إلى آخر، مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور(1). عمدنا من خلال البحث في المدوّنة التفسيريّة بمذاهبها المختلفة إلى رصد مفاهيم «شَهِدَ» و«الشّهادة»(2)، و«الشّهيد الحي»(3) و«الشّاهد»(4). ثمّ سعينا في الحلقتين الماضيتين(5) إلى رصد التّباين الحاصل بين ما ينصّ عليه القيل القرآني من معاني الحياة والسّلم الواردة في لفظتيْ الشّهادة والشّهيد وما تقوله الرّوايات من إضافات تكشف عن حجم الانزياح والتّوسع في المعنى إلى حدّ المناقضة التّامة حيث أصبح مفهوم الشّهادة معادلا للموت أو هو شرط من شروط تحقّقها. واتخذنا من إبراز قيمة السّيف وليجة للخوض في مسألة ارتباط الموت بمفهوم الشّهادة بما أنّ النّتيجة الطّبيعية لإعلاء قيمة السّيف وتمجيده هي استساغة فكرة الموت إلى حدّ تمنّيه، باعتبار أنّ الموت سيُمثّل الشّهادة ويجسّدها، والشّهادة هي بوّابة الجنّة. فكان مفهوم «الشهيد الميّت» بديلا عن «الشهيد الحيّ». 
قد تتقاطع، أحيانا، المرويات مع المعاني القرآنيّة لتدعّم ما جاء فيها من المعاني المتعلّقة بالشّهادة حيث تبدو الشّهادة جليّة في إفادة الرّأي المبيّن والحجّة الدّامغة استنادا إلى الحضور والمعاينة وبعيدا عن الموت، عن ابن عبّاس أنّ هلال بن أميّة قذف امرأته عند النّبي ﷺ بشريك بن سحْماءَ، فقال النّبي ﷺ: «البيّنة أو حدّ في ظهرك»، فقال: يا رسول اللّه، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة! فجعل النّبي ﷺ يقول: «البيّنة وإلاّ حدّ في ظهرك»، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنّي لصادق فليُنزلنّ اللّه ما يُبرئ ظهري من الحدّ(6)، فنزل جبريل وأنزل عليه: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ» فقرأ حتّى بلغ: «إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ»، فانصرف النّبي ﷺ فأرسل إليها فجاء هلال، فشهد والنّبيﷺ يقول: «إنّ اللّه يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب»، ثمّ قامت فشهدت فلمّا كانت عند الخامسة وقّفوها، وقالوا: إنّها موجبة، قال ابن عبّاس: فتلكّأت ونكصتْ حتّى ظننّا أنّها ترْجعُ، ثمّ قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النّبي ﷺ : «أبْصِروها فإنْ جاءت به أكحل العينيْن سَابِغَ الألْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السّاقيْنِ فهو لِشريك ابن سَحْمَاءَ» فجاءت به كذلك، فقال النّبي ﷺ: «لولا ما مضى من كتاب اللّه لكان لي ولها شأن»(7).  وهكذا مثّل المولود شاهدا قاطع الدّلالة حاملا للشّبه الجنيني مع أبيه، وقد كان النّبي يقضي بيمين وشاهد على رواية ابن عبّاس(8). 
ومن ذلك أيضا ما قاله أبو نعيم: حدّثنا عُبيْد اللّه بن مُحْرز جئت بكتاب من موسى بن أنس قاضي البصرة وأقمت عنده البيّنة أنّ لي عند فلان كذا وكذا وهو بالكوفة، وجئت به القاسم بن عبد الرّحمن فأجازه، وكره الحسن وأبو قْلابة أن يشهد على وصيّة حتّى يعلم ما فيها لأنّه لا يدري لعلّ فيها جوْرا(9). فالشّاهد مطّلع وعليم بحقيقة الأمر وخفاياه، ولا يتسنّى ذلك إلاّ لحيّ يتمتّع بكلّ طاقته ومداركه. ولا أدلّ على ذلك من قول الزُّهري في شهادة المرأة من وراء السّتر: «إنْ عرفتها فاشهد وإلاّ فلا تشْهدْ»(10). 
ويتضّح كذلك معنى الحياة الماثل في الشّهيد القائم بشهادته على نفسه قبل أن يُسأل ويُحاسب، فعن زيد بن خالد الجُهنّي أنّ النّبيﷺ قال: «ألا أُخبرُكُمْ بخير الشّهداء الّذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْأَلَهَا»(11). وقال شُرَيْح القاضي: وسأله إنسان الشّهادة فقال: ائْتِ الأمير حتّى أشهدَ لكَ، وقال عِكْرمةَ: قال عُمَرُ لعبد الرّحمن بن عَوْفٍ: لو رأيت رجلا على حدٍّ: زنا أو سرقة وأنت أمير فقال: شهادتُك شهادةُ رجل من المسلمين قال: صدقت(12). 
وقال أهل الحجاز: الحاكم لا يقضي بعلمه شهد بذلك في ولايته أو قبلها. ولو أقرّ خصم عنده لآخر بحقّ في مجلس القضاء الحاكم فإنّه يقضي عليه في قول بعضهم حتّى يدعو بشاهديْن، فيحْضِرَهما إقراره. وقال بعض أهل العراق: ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلاّ بشاهديْن. وقال آخرون منهم: بل يقضي به لأنّه مؤتمن، وإنّما يُرادُ من الشّهادة معرفة الحقّ فعِلْمُه أكثر من الشّهادة. وقال بعضهم يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي في غيرها، وقال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يُمضي قضاء بعلْمه دون علم غيره مع أنّ علْمه أكثر من شهادة غيره، ولكنّ فيه تعرّضا لتُهمة نفسه عند المسلمين، وإيقاعا لهم في الظُّنون(13). 
ومثل ذلك شهادة السّمع والبصر على صاحبهما يوم القيامة، ورد عن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: «اجتمع عند البيت ثقفيّان وقُرشي أو قرشيّان وثقفي كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أنّ اللّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إنْ جهرنا ولا يسمع إنْ أخْفيْنا، وقال الآخر: إنْ كان يسمع إذا جهرنا فإنّه يسمع إذا أخْفيْنا، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾(فصّلت: 22) (14).
 والملاحظة الّتي يتوجب على الدّارس إبداؤها هي أنّه لا معنى لذلك إلاّ أن تشهد الملائكة المُوكّلة بالسّمع والأبصار والجلود. وتستمرّ إقامة الشّهادة في الزّمن لتشمل يوم الحساب ساعة يشهد المرء على نفسه بما كان يعمل. ورد عن صفوان بن مُحْرز، قال: بينا ابن عمر يطوف إذ عرض رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن أو قال: يا ابن عمر سمعت النّبي ﷺ في النّجوى؟ فقال: سمعت النّبي ﷺ يقول: «يُدْنى المؤمن من ربّه» وقال هشام: يَدْنُو المؤمن حتّى يضع عليه كنفه فيُقرّره بذنوبه تعرف ذنب كذا يقول: أعرف، يقول: ربّ أعرفُ مرّتيْن، فيقول: ستَرْتُها في الدُّنيا وأغْفِرُها لك اليوم، ثمّ تُطْوى صحيفة حسناته. وأمّا الآخرون أو الكفّار فيُنادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم. وقال شيْبانُ عن قَتَادَةَ، حدّثنا صَفوانُ»(15). 
ولمّا كانت الملائكة تحضر صلاة الجماعة وتشهد قرآن الفجر، فإنّ ذلك ما فضّل صلاة الجماعة على صلاة الفرد وما جعل قرآن الفجر يُوصف بالمشهود، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبي ﷺ قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة اللّيل وملائكة النّهار في صلاة الصُّبْح»، يقول أبو هريرة: اقرأوا إنْ شئتم ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾(الإسراء: 78)(16)‏. 
وعليه، فإنّ الشّاهد هو المؤدّي لشهادته والمُبلّغ لرسالته بالكيفيّة الّتي أرادها الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فقد ورد عن  عبد الله بن عمْرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ الآية الّتي في القرآن:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾(الأحزاب: 45)، قال في التّوراة: «يأيّها النّبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا وحِرْزًا للأُميّين، أنت عبْدي ورسولي سمّيْتُك المُتوكّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب بالأسواق ولا يدفع السّيئة بالسّيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللّه حتّى يُقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا اللّه، فيفتح بها أعيُنا وآذانا صُمّا وقلوبا غُلْفًا»(17). 
فالشّهادة، حينئذ، وظيفة اجتماعيّة وأخلاقيّة وقضائيّة يؤدّيها الشّهيد على الوجه المطلوب بشروطها المستحقّة وهو المعنى الذي أجمله علي الجرجاني في تعريفاته بقوله: «الشّهادة في الشّريعة هي: إخبار عن عَيان بلفظ الشّهادة في مجلس القاضي بحقّ للغير على الآخر، فالإخبارات ثلاثة: إما بحقّ للغير على الآخر، وهو الشّهادة، أو بحقّ للمُخْبر على آخر، وهو الدّعوى، أو بالعكس، وهو الإقرار»(18).
وإزاء ما تقدّم من عرض المرويّات المتعلّقة بالشّهادة والشّهيد لا يجد الدّارس مناصا من ملاحظة تهافتها البادي في إلحاق الموت بالشّهيد، من جهة، وإسناد وظيفة أداء الشّهادة إليه، من جهة أخرى. وإذا لقي هذا التّناقض الحادّ مبرّرا لوجوده ضمن الثّقافة الشّفويّة، فإنّ بقاءه في حالة التّدوين يُعدّ  مسألة تستوجب  مزيدا من النّظر والمراجعة والغربلة.
الهوامش
(1) براءة الشهادة، الحلقة الأولى: مفهوم الشهادة  في الفضاء اللّغوي،  مجلّة الإصلاح، العدد 191، جوان 2023، 
(2) براءة الشهادة، الحلقة الثانية : مفهوم شهد و الشهادة في الفضاء التفسيري،  مجلّة الإصلاح، العدد 192، جويلية 2023،
(3) براءة الشهادة، الحلقة الثالثة : مفهوم الشهيد الحي  في الفضاء التفسيري،  مجلّة الإصلاح، العدد 193، أوت 2023،
(4) براءة الشهادة، الحلقة الرابعة : مفهوم الشاهد  في الفضاء التفسيري،  مجلّة الإصلاح، العدد 194، سبتمبر 2023،
(5) براءة الشهادة، الحلقة الخامسة: مفهوم الشهادة في فضاء المرويات - السيف والقتل،  مجلّة الإصلاح، العدد 195، أكتوبر 2023، والحلقة السادسة: الشهيد الميت، الفضل والمصير، مجلة الغصلاح، العدد 196، نوفمبر 2023.
(6) جعل الفقه من مفردة «الحدّ» مصطلحا يعني العقوبة . وهي مفردة قرآنية لا تمتُّ بصلة إلى هذا المعنى، ما يدعو إلى المزيد من مراجعة الجهاز الاصطلاحي الموروث.
(7) البخاري، الصّحيح، م ن، باب قوله تعالى:  وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ  إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، حديث رقم4747، ص996. 
(8) مسلم، الصّحيح، مج6، ج12، م ن، كتاب الأقضية، باب: وجوب الحكم بشاهد ويمين، حديث رقم 1712، ص158.
(9) البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الأحكام، باب: الشّهادة على الخطّ المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيقُ عليهم وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي، ص1430.
(10) البخاري، الصّحيح ، م ن،  باب: الشّهادة على الخطّ المختوم وما يجوز من ذلك وما يَضيقُ عليهم وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي، ص1430.
(11) مسلم، الصّحيح، مج6، ج12، م ن، كتاب الأقضية،  باب: بيان خير الشّهود، حديث رقم 1719، ص166.
(12) البخاري، الصّحيح، م ن، باب: الشّهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك للخصم، ص1432.
(13) البخاري، الصّحيح، م ن، باب: الشّهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك للخصم، حديث رقم7170، ص1432.
(14) سورة فُصّلت 41، الآية 22. وانظر البخاري، الصّحيح، م ن، باب: قول الله تعالى: ‏ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ»، حديث رقم 7521، ص1495.
(15) البخاري، الصّحيح، م ن، وبالتّحديد باب قوله: «ويقول الأشهاد هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين» واحد الأشهاد شاهد، مثل صاحب وأصحاب، حديث رقم 4685، ص974.
(16) البخاري، الصّحيح، م ن، وبالتّحديد باب: إنّ قرآن الفجر كان مشهودا» قال مجاهد: صلاة الفجر، حديث رقم4717، ص984.
(17) البخاري، الصّحيح، م ن، وبالتّحديد باب: إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا، حديث رقم4838، ص1024.
(18) علي الجرجاني، معجم التّعريفات، م ن، ص111.