نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
الاغتراب الميتافيزيقي
 «الاغتراب الميتافيزيقيّ» كما أصطلحت عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي، والاغتراب الاقتصادي، والاغتراب الاجتماعي، والاغتراب النفسي، والاغتراب السّياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجوده بالوجود المادّي الضّيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزّق الكينونة الوجوديّة للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي. 
الاغترابُ الميتافيزيقي ضربٌ من الاغتراب لا يرادف تفسيرَ جورج ويلهم فردريك هيغل (1770 - 1831) الذي يرى أنَّ الاغترابَ ينشأ من وعي الإنسان بالهوّة الشّاسعة بين وجوده والحقيقة النّهائيّة «الرّوح المطلقة» أو العالم المثالي، فالإنسانُ يكون مغتربًا عندما لا يجد ذاتَه في العالم المثالي. 
ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ لودفيغ فويرباخ (1804 - 1872) الذي يرى أنّ خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الإنسانُ مُستلَبًا، عندما صيّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء. 
ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ كارل ماركس (1818 - 1883) الذي جعل سببَ الاغتراب استغلالَ الرّأسماليّ للعامل، واستلابَ قيمة عمله، الذي يفضي إلى: اغترابِ العامل عن ناتج عمله، واغترابِه عن عمليّة الإنتاج، ومن ثمّ اغترابِه عن وجوده النّوعي كإنسان، واغترابِ العمال بعضِهم عن بعضِهم الآخر.
كما لا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ سيغموند فرويد (1856 - 1939)، الذي رأى أنّ الاغترابَ ناتجٌ عن وجودِ الحضارة واستلابِها لغرائز الإنسان، إثر ما يحدث من تعارُض بين متطلّبات بناء الحضارة وما تفرضه الدّوافعُ الغريزية للإنسان من متطلّبات مضادّة.
أعني بـ «الاغتراب الميتافيزيقي» أنَّ الانسانَ هو الكائنُ الوحيدُ في هذا العالم الذي لا يَكتفي بوجودِ ذاته، فيشعر على الدّوام بافتقاره إلى ما يثري وجوده، لذلك لا يكفّ عن الاتصال بمنبع مطلق للوجود، يتكرّس به وجوده الشّخصي، ويظلّ يعمل كلّ حياته على توسعة وجوده وإغنائه، من خلال السّعي للعثور على ذلك المنبع اللاّمحدود للوجود، فإنْ عجز عن الاتصال بالمطلق عاش حالةَ ضياعٍ واغترابٍ ميتافيزيقي. 
ولمَّا كان كلُّ شخصٍ يحتاجُ لما يتخطَّى وجودَ ذاتِه المحدود، فإنْ لم يصل إلى المُطلق يحاول أن يعوِّض حاجتَه بما يعتقد به من مطلق، بقطع النَّظر عن نوع ما يعتقد به، سواء أكان أيديولوجيًّا، أو ميثولوجيًّا، أو فكرةً، أو أمّةً، أو إثنيّةً، أو بطلًا، أو وطنًا، أو ملحمةً، أو سرديَّةً، أو غيرها، وكلّها تنتمي إلى المتخيَّل الذي ينسجه كلُّ مجتمع لنفسه. كلُّ مجتمع يحتاج أنْ يرسم صورةً متخيّلة لهويّته، تصير مرآة يرى ذاتَه فيها مركزَ العالَم، ويرى إنتاجه الماديّ وغير الماديّ أغنى وأثمن إنتاج أنجزه مجتمع يعيش على الأرض، كأنَّ كلَّ المجتمعات خارج حدوده كانتْ صدىً لما قدَّمه هذا المجتمعُ للبشريّة. هذه الصّورة المتخيَّلة لهويته يتحقّق فيها حضورُها، وشكلٌ من أشكال حضورِ كلِّ فرد ينتمي إليها، وشعوره بالاتصال بوجودٍ مطلق يكتفي به دون غيره. 
عندما يستفيق الإنسانُ متأخِّرًا يجد ذاتَه مقذوفةً في متاهة، كأنّه يهرول وراء سراب، لإدراكه بأنّ كلَّ ذلك لا يشعره بأنَّ وجوده الفرديَّ يتكرّس بمزيدٍ من الوجود. بمعنى أنَّ لدى كلِّ فرد حاجةً إضافيَّةً في ذاته لوجود واسع غنيّ بلا حدود، حاجةً عابرةً لوجوده الشّخصيّ الفقير الضيّق المحدود، وهذا الوجودُ لا يفيضه سوى الاتصال الحيوي بالوجود المطلق. إذ يتّسع وجودُ الإنسان بمدى قدرتِه على تحقيق ضربٍ من الاتِّصال الوجوديّ بذلك الوجود اللاّمحدود. 
وجودُنا الفقيرُ يبحثُ عن وجودٍ يتَّسِعُ له ويتحرَّرُ به من كلِّ حدود وقيود الوجود الضيّق. الزمانُ والمكانُ واللغةُ والثّقافةُ والأيديولوجيا والهويّةُ قيودٌ وحدودٌ تُفقِر الوجودَ، وتغرقه في اللاّمعنى أحيانًا، لذلك يبحث الإنسانُ عن لغةٍ بديلةٍ للغتِه؛ تتَّسع لاستيعابِ ما يتوالد في مخيَّلته وأحلامه وأوهامه وقلقه وآلامِه، فينتقل للرّمزِ الذي يتّسعُ لما لا تتّسعُ له أيّةُ لغةٍ. الرّمزُ يتكفَّل بتزويدِ الإنسانِ بمعانٍ تختنقُ بها اللّغةُ، الرّمزُ لغةُ الأديانِ والفنون، لذلك كانت الأديانُ والفنونُ من أثرى منابعِ المعنى في حياة الإنسان. 
كلُّ وجودٍ يقترنُ بالمادّة فقيرٌ، لأنَّ الوجودَ الماديَّ للكائنِ البشري يفرضُ عليه أن يقترنَ بزمانٍ ومكانٍ ولغةٍ، أي يفرضُ عليه الافتقارَ والاحتياجَ إلى غيره. الزّمانُ والمكانُ واللّغةُ قيودٌ تقيِّدُ الوجودَ وحدودٌ تحده، وكلُّ قيدٍ وحدٍّ نهايةٌ، والنّهايةُ افتقارٌ، وكلُّ افتقارٍ ضربٌ من الظّلامِ. لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ كينونتَه إلاّ عندما يتحرَّرُ من حدودِ الزَّمانِ والمكانِ واللّغةِ. الزّمانُ الذي هو غطاءٌ من الظّلامِ يحتجبُ به الوجودُ، فيغترب عن ذاته. الصّلةُ الوجوديَّةُ بالوجود المطلق وهو اللّه، هي ما يحرّرُ الوجودَ المحدود من اغترابه، أي من فقرهِ النّاتج عن قيوده وحدوده، التي عندما يتخلَّصُ منها يمتلكُ كينونتَه، فيكتمل وجوده، وتُمحى غربتُه عن ذاته. لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ ذاتَه إلاّ بصلته الوجوديّة بالوجود المكتفي بذاته. هذا هو المعنى الذي أفهمه من آية النّور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورهِ مَن يَشَاءُ﴾(النور: 36). ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾( الزمر: 69). 
هذا النّور هو الوجود الغنيّ المكتفي بذاته، الذي يخرج به الوجودُ المحدودُ للإنسان بعد أن يلتقيَ فيه من فقره، أي من ظلمته واغترابه، ويشرق وجوده بنورٍ على نور. 
الدّينُ هو ما يخلِّص الإنسانَ من الاغتراب الميتافيزيقي من خلال الاتِّصال الوجوديّ بالمطلق، الذي هو اللّه في الأديان الإبراهيميّة، والإله أو الرّوح الكلّي في أديان أخرى. والمطلقُ يمثّل أغزرَ منبع يستقي منه الكائنُ البشري مزيدًا من الوجود، وهذا الوجودُ هو الذي يحدِّد كيفيةَ حضور الذَّات في العالَم، لأنّ الإنسانَ يتحقّقُ فيه بمرتبةٍ أكمل من الوجود. 
الاغترابُ الميتافيزيقي حالةٌ أنطولوجيّة، تُستلَب فيها كينونةُ الكائنِ البشري، ولا يتخلّص منها الإنسانُ إلّا ببناءِ صلةٍ ديناميكيّةٍ يقظةٍ بالمطلق، تتحقّق فيها أُلفةُ الإنسان مع الوجود الأوسع من المادي، بعد أنْ تحدث عمليةُ توطينٍ له، بنحو يتحوَّل هذا الوجودُ الواسع إلى مَسكَنٍ يقيم فيه، وحيث يسكن الإنسانُ الوجودَ يجدُ ذاتَه، وعندما يجدُ ذاتَه يشعر بالأمان في المأوى الذي يأوي إليه. ويتبدَّل نمطُ علاقتِه بإلهِهِ، فيتحوّل من عَدَاءٍ إلى حُبٍّ، بل قد يتسامى الحُبّ إلى مرتبةٍ يكون فيها الحَبِيبُ هو الأنا. 
على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنّفسي والسّياسي، لكنّ الخلاصَ من أنواع الاغترابِ هذه لا يعني الخلاصَ من الاغتراب الميتافيزيقي، لأنّ الاغترابَ الميتافيزيقي اغترابٌ لكينونة الإنسان عن وجودها، وهذه الحالةُ من الاغتراب تنتج القلقَ الميتافيزيقي، إذ بعد أن تنقطعَ صلتُه الوجوديّة بإلهه، يفتقدُ ذاتَه، وعندما يفتقد الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال التبعثر والتّشظِّي، وربّما يتردَّى في حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزِّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانيّةَ.
الصّلة الوجوديّة باللّه لم أقرأْها في مدوَّنة علم الكلام القديم، الذي أنتجَ غُرْبَةَ المُسْلِم عن ذاتِه وعالَمه. نشأ اغترابُ الإنسان الميتافيزيقي عن إسقاطِ المتكلِّمين لصورة الإنسان على اللّه. تورّط المتكلّمون بقياس الغائب على الشّاهد في دراسة توحيدِ اللّه وصفاتِه وأفعالهِ، كان نموذجُهم المحسوس علاقةَ السّيد بالعبد، فصاغوا في إطارها نمطَ علاقةِ اللّه بالإنسان. ووُلدتْ الرّؤيةُ التّوحيديّة الكلاميّة في أفق هذا الفهم، وكُتبت المدونةُ الفقهيّة في سياق هذه الرّؤية، وتبعًا لذلك أنتجت فقهًا يشرعن بعضِ أشكال العنف. بل تغلغلتْ رؤيةُ المتكلّمين في معارفِ الدِّين المختلفة، وظهر أثرُها في كثير ممّا استلهمه المسلمون من النّصوص الدّينيّة. 
لم أقرأ ‏مصطلحَ «الاغتراب الميتافيزيقي» في آثار متنوعة طالعتُها لفلاسفة ولاهوتيين ومتصوّفة وعرفاء وغيرهم. هذا ‏المصطلحُ اقترحتُه في كتاب: «الدّين والاغتراب الميتافيزيقي»، ‏وهو أحدُ المحاور المركزيّة في هذا الكتاب. وعلى أساسِ مفهومَي: الظّمأ الأنطولوجي والاغتراب الميتافيزيقي يبتني القولُ بأنّ: «الدّينَ حاجةٌ وجوديّة للإنسان»، ‏وفي ضوءِ ذلك اقترحتُ تعريفًا للدّين بوصفِه: «حياةً في أُفق المعنى، ‏تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجوديّة لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفرديّة والمجتمعيّة». لا ترادفَ بين مصطلحِ الاغتراب الميتافيزيقي ومصطلحِ الظّمأ الأنطولوجي، وإن كان كلٌّ منهما يعكس الحاجةَ الأنطولوجيّة للدّين.