بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
هكذا تكلّم المسعدي
 في ثلاثينات القرن الماضي نشرت مجلة الهلال المصريّة استفتاء يتعلّق بأحقّية المستشرقين الغربيّين في عضويّة مجمع اللّغة العربيّة الذي أنشأه فؤاد الأوّل ملك مصر قبل ذلك بقليل. 
جاء هذا الاستفتاء بعد نقاش عام احتدم بمناسبة تسمية خمسة مستشرقين للمشاركة في أعمال المجمع هم: «فيشر» (A. Fischer)و«ليتمان» (E. Littmann) الألمانيان و«ماسينيون» (L.Massignon) الفرنسي و«جيب»(H.A.R.Gibb) الأنجليزي و«نيلينو»(A.Nallino) الإيطالي. نصَّ مرسوم إنشاء المجمع على أنّ غايته هي المحافظة على سلامة اللّغة العربيّة وإيفائها بمطالب العلوم والفنون في تقدّمها، وتأليف معاجم لما ينبغي استعماله أو تجنّبه من الألفاظ والتّراكيب، إضافة إلى وضع معجم تاريخي للّغة العربيّة يحدّد تاريخ بعض الكلمات وتغيّر مدلولاتها. أقرّ المرسوم أيضا اختيار أعضاء المجمع العشرين دون تقيّد بالجنسيّة من بين العلماء المعروفين بتبحّرهم في اللّغة العربيّة أو بأبحاثهم في فقه هذه اللّغة أو لهجاتها. 
انبرى، إثر هذا القرار، مفكّرون ومثقّفون عرب إلى ساحة حوار حرّ لم يقتصر في موضوعه على مسألة تسمية المستشرقين الخمسة، بل تناول جملة من القضايا تعبّر عن يقظة الوعي العربي في ثلاثينات القرن الماضي ومدى اهتمام النّخب بالمؤسّسات الوطنيّة الثّقافيّة والفكريّة وضرورة دعمها وحمايتها. من أهمّ من أغنى هذا الحوار  الدّكتور حسين الهراوي الذي اعتبر أنّ «ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم»، بينما قام الدّكتور زكي مبارك منافحا يقول «نفعهم أكثر من ضررهم». 
ملخّص موقف «الهراوي» هو أنّ أبحاث المستشرقين المتعلّقة بمصر والشّرق والإسلام فيها « أشياء كثيرة لا يقرّها عقل ولا يستسيغها منطق وليست من الحقيقة في شيء». في حين أعلن «زكي مبارك» أنّهم «طائفة من العلماء الجادّين» وأنّه من الواجب الاتصال بهم رغم ما لبعضهم من علاقات بدوائر الاستعمار الأوروبي. إلى ذلك لم ينكر «مبارك» وقوعهم في بعض الأغلاط ضمن أعمالهم التّحقيقيّة للتّراث لكنّه ثمّن رغم ذلك جهودهم في التّحقيق والتّبويب والفهرسة والتّرتيب «الذي تعجز عنه مشيخة الأزهر الشّريف».
تواصل هذا الجدل طوال العقود الموالية مع فترات قوّة وفترات تراجع كانت تعكس في غالبها حالتي الصّدام والتّوازن السّياسي والثّقافي بين الخيارات الأوروبيّة من جهة وبين النّخب الوطنيّة والمفكّرة للبلدان العربيّة من جهة ثانية. 
لكن أهمّ ما ينبغي التّأكيد عليه في هذا الحوار الممتد هو إقرار واضح بأثر الجهود الاستشراقيّة في عموم الباحثين العرب في الدّراسات اللّغويّة والأدبيّة والتّاريخيّة والإسلاميّة طوال عقود من القرن العشرين. ما يفيده البحث المقارن يتيح القول بأنّ تلك الآثار كانت أبلغ على المثقّفين العرب والمسلمين ممّا كانت على أمثالهم من الأوروبيّين فضلا عن عمومهم.   
لتفسير أهمّية هذا الأثر البالغ، الذي لا ينفي أخطاء وهنات وقع فيها العديد من المستشرقين، يبرز عنصران: الجدّيّة العلميّة في تحقيق التّراث العربي الإسلامي والصّرامة المنهجيّة المعتمدة عند تناول مختلف القضايا المثارة للبحث.
لكن أهم ما اختطّه الدّرس الاستشراقي في علاقته بالنّصوص المؤسّسة وبالتّراث العربي الإسلامي هو خطابه الذي تميّز به، حيث كان يقرأ النّصوص ويحاورها، ويسائلها فتجيب بما يتيح القول إنّ الخطاب حوّل التّراث مادة للتّفكير. هذا ما فعله البعض مع الفقه، وآخرون مع السّيرة النّبويّة، وقسم ثالث مع التّاريخ ورابع مع اللّغة والأدب، وهلمّ جرّا.  لا نعني أنّ ما انتهى إليه هذا أو ذاك كان صائبا فيما يطرحه من أسئلة وما صاغه من إجابات، الأهمّ من ذلك أنّهم كانوا يبدؤون بالمعرفة والمناهج ليصلوا من ذلك إلى وجهة تنبجس من الأثر المدروس لتضيء جانبا من جوانب الحاضر. تحوّل النّص بذلك إلى كائن حيّ قابل للقراءة حامل لراهنية، ينقدح منه معنى متجاوب بشكل ما مع اللّحظة وتساؤلاتها. تلك هي الإضافة النّوعيّة لخطاب الاستشراق: إنطاق النّصوص وإقدار القارئ على تمثّل ذلك المعنى أو التّوصّل إلى معنى آخر عبر بناء معرفي استدلالي مغاير. 
غدت بذلك أعمال الاستشراق أطروحات في الفقه والكلام ونشوء علم التّفسير وعلم الحديث، كما عبّرت عن وجهة نظر في علاقة الدّين بالدّولة والعقيدة بالشّريعة. بتلك الأطروحات، القابلة للنّقاش والردّ، أصبح التّعامل مع التّراث منتجا للمعنى ومُسهِمًا في إبداع رؤية حيّة أتاحتها العودة إلى النّصوص ومساءلتها ومحاولة امتلاكها بفهم للظّروف والقوانين التي حكمتها. 
نتيجة ذلك اكتسب عموم المستشرقين هالة من التّقدير والتّبجيل لدى العرب والمسلمين يعلنها البعض ويداريها آخرون، لكنهم كانوا قد أدركوا جميعا قوّة إحياء الماضي وما يمكن أن يفضي إليه من معان في مستوى الحاضر. كان ذلك إيذانا بتراجع أكيد لمكانة العلماء التّقليديّين وانطفاء شعلتهم في أعين النّخب الصّاعدة في مرحلة شهدت تحوّلا حضاريّا بالغ الأهمّية. لقد تبيّن بصورة جليّة أنّ التّكوين التّقليدي في المؤسّسات العلميّة العتيقة لم يعد قادرا على الإيفاء بالغرض لأنّه ظلّ يعتمد مناهج تقريريّة قائمة على التّلاوة والتّكرار ممّا أفقده قوّة الخطاب الذي تنبجس عنه رؤية جديدة تجعل الموروث مصدرا للمعنى والفاعلية. 
بين مثقفي تونس يبرز  الأديب والمفكر محمود المسعدي كخير من تمثّل أهمّية الخطاب وقدرة التّراث التّجديديّة. لذلك فلا غرابة إن وقفنا معه اليوم مشدوهين أمام انسداد الآفاق التي يصنعها استشراقنا المحلّي الرثّ. تقرأ المسعدي فتجد عقلا قيّما متسربلا بجبّة الصّوفي، متوشّحا بحيرة الوجودي، متشرّبا من فيض القرآن ونسغ الحديث النبوي ورحيق كبار الأدباء العرب والأعاجم والغربيين مولّدا من كلّ ذلك لمجتمعه إنسان الإرادة. تقرأ « السّد» أو « زاد المسافر» فلا يمكنك إلاّ أن تلمس عبق التّراث وتحسّ دفق النّصّ الدّيني في كتابات تلتئم كلّها لتنتهي إلى مصبّ واحد: لم يوجد الإنسان ليموت بل ليحيا !
اقرأ إن شئت إهداءه الذي صدّر به كتاب «حدّث أبو هريرة» يقول فيه: «إلى أبي الذي رتّلت معه صباي على أنغام القرآن وترجيع الحديث، ممّا لم أكن أفهمه طفلا، ولكنّي صغت من إيقاعه منذ الصّغر لحن الحياة، وربّاني على أنّ الوجود الكريم مغامرة طهارة، جزاؤها طمأنينة النّفس الرّاضية في عالم أسمى فأسمى، وفي أثناء ذلك كلّه علّمني بإيمانه سبيل إيماني».    
في «مولد النّسيان» يتراءى أمامنا التّراث روحا تجديديّة تنقض الواقع العليل المتهالك على نفسه حين يعلن البطل:«كانت في نفسي عندما جئنا هذا البلد شعلةُ الأنبياء تريد محق الأمراض وإحياء الموتى.. وأقمنا المارستان ونشرنا على النّاس الدّواء». 
أمّا رواية « السّدّ» ففيها يتجلّى خطاب المسعدي الذي يصدر عن شغف بالتّراث في بنيته ودلالاته، وما يكتنزه من قدرة على تفعيل الرّموز من أجل إنسان الإرادة المنتصر على السّدود التي تقمع الحياة. يقول: «سننشيء ونخلق، سنعلّم هذه الأرض الشّجاعة والعقل والبأس والشدّة، ونهز أهلها هزّا حتّى يتوبوا من الهزال والجبن وكره المياه وحبّ القحط،ويعرضوا عنها. وسنرسل فيهم كلامنا وروحنا سبلا جُحَافا حتّى يعلموا قوّة الرّوح ويذعنوا إليها».    
بعد هذا لا مفر من أن نسأل: أيّة علاقة بين هذا الخطاب الذي به يتمّ « إحياء» ما كان مواتاً أو كالموات، وبين من يريد تجفيف منابع الهويّة والتّراث ودوس الرّموز الثّقافيّة؟ لقد خبت الشّعلة المجدّدة للمسعدي، أديبا ومفكّرا، لتصبح صورا حائلة مع استشراقنا المحلّي غير الملتزم بقضايا وجود الإنسان العربي المسلم. حصل ذلك عندما انحسر الجانب الأهمّ من مشاغل هذا الاستشراق المحلّي في إيديولوجيّة التصدّي لـ «لأصوليّة» و«الظّلاميّة» باستباحة للتّراث وبعثرة المخزون الثّقافي الدّيني عوض تجسيد الأصالة في الإجابة عن مطالب العصر بكفاءة تتجاوز ما كان للسلف من قدرات. 
عاهة تلك النخب التي ظنّت أنّها عثرت مع نتف بعض المستشرقين على مفتاح سعادتنا، أنّها قبعت في ظلّ اللاّحوار والتّنافي، فلم تتجاوز النّظام الثّقافي المفضي إلى العنف البدائي المنتج للتمزّق، والحائل دون الخروج من حالة التّهميش في السّياق المعولم. 
تلك هي آفة الفكر المعرض عن خطاب الحوار مع الذّات، إنّه لا يزيد الثّقافة الوطنيّة إلاّ تخفيضا بما يهمله من الطّاقات الكامنة في الفكر والشّخصيّة الذّاتيين وما يتولّد منها من حراك حضاري اجتماعي مدني متناسب مع مقتضيات العصر المادّية والعقليّة والرّوحيّة.