بالمناسبة

بقلم
نجم الدّين غربال
الفقر وكيفية التخلّص منه استئناسا بـ «التحرير والتنوير» - (الحلقة الثانية)
 1 - طبيعة الفقر
طبيعة الفقر في التّصور القرآني، ليست بشريّة بقدر ما هي شيطانيّة ذات أبعاد مُتعدّدة، للفت الانتباه الى أنّ العدوّ الحقيقي للإنسان هو الشّيطان وليس الإنسان نفسه، فالإنسان أخ للإنسان ولا ينبغي للأخوة أن يكونوا أعداء، وإن كانوا كذلك فذلك بفعل عدوّ كلاهما، ألا وهو الشّيطان. وتبرز الطّبيعة الشّيطانيّة للفقر في وعد الشّيطان للنّاس من خلال أليتين إثنتين:
• الآلية الأولى: آلية الصدّّ
يصُدّ الشّيطان النّاس عن إعطاء خيار أموالهم وإغرائهم بالشّح أو بإعطاء الرّديء والخبيث، وبتخويفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم، كما ذهب إليه محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره للآية 268 من سورة البقرة: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ويتجلّى ذلك من خلال  أمره لهم بالبخل في مختلف تجلياته سواء على مستوى النّشاط الاقتصادي أو النّشاط الاجتماعي والاستغناء عن الهدي القرآني لمنهج الغنى، وعدم استحضار حتميّة المحاسبة عموما» ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرهُ لِلْعُسْرَىٰ﴾ (الليل :8-9-10)
• الآلية الثّانية: آلية الإغواء
يُغوي الشّيطان النّاس بملك لا يبلى من خلال حثّهم على اتباع المعاملات الماليّة من ربا وميسر على حساب البيع، وأكل اموال النّاس بالباطل على حساب حقوق النّاس، وباتباع كلّ انواع الفساد على حساب إعمار الارض، كل ذلك بحثا عن الرّبح السّهل والسّريع، هذا على مستوى الحصول على الموارد، أمّا على مستوى الإنفاق، فيُغويهم بالإسراف والتّبذير وما يعنيه من إهدار لمال الإنسان وذهابه، وما ينتج عنه من فقر، فالفقر لغة هو «ذهاب المال».
2 - تعدّد أبعاد الفقر
انطلاقا من تعدّد معاني الخير والقول بأنّ الإنسان الى ما أنزل إليه ربُّه من خير فقير، فإنّ الفقر ذو أبعاد مختلفة ومتعدّدة لا يمكن حصرها في دائرة محدودة هي الدّائرة المادّية، بل يتّسع معناه ليشمل أبعادا أخرى معرفيّة وروحيّة ونفسيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وأمنيّة وكذلك بيئيّة، كما يتّسع معنى الفقير تبعا لذلك ليكون هو الذي يفتقر لإحداها أو بعضها أو كلّها.
كما يمكن معرفة أبعاد الفقر المتعدّدة بالاعتماد على الأضداد انطلاقا من الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن محصن عن النبي محمد ﷺ والذي جاء فيه أنّه «من أصبح آمنا في سربه، مُعافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدّنيا بحذافرها»(1)   (حديث)
فكما أنّ الغنى في الأمن وفي الصّحة وفي توفّر القوت، فإنّ الفقر هو حرمان من الأمن ومن الصِحّة ومن القوت، وهذا يُبرز تعدّد أبعاد الفقر ذات العلاقة بالبعد المرئي للحياة.  
•البعد الغيبي للفقر: لمن يَكُون الانسان فقيرا؟
بعد أن أدركنا مِن ماذا يَكونُ الإنسان فقيرا بإدراك أوجه الخير وفقر الإنسان لها، بدرجات متفاوتة، يُطلعنا تفسير «التحرير والتنوير» عن صاحب ذلك الخير.
فالآية 15 من سورة فاطر بيّنت بوضوح فقر النّاس الى اللّه بالقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وإن كان المراد بـ «يا أيّها النّاس» حسب صاحب «التّحرير والتّنوير» هم المشركون، واتّباع صفة الغني بالحميد لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده، فهو يحمد من يتوجّه اليه، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من الإقرار بفقر كلّ النّاس الى اللّه خاصّة إذا استحضرنا مجموعة من الآيات تُؤكّد ذلك الإقرار. فالنّاس جميعا فُقراء إلى اللّه، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا فهم جميعا وبدون استثناء فقراء إليه، ولكن كيف ذلك؟
الناس فقراء الى اللّه في:
* في خلقهم، فلولا خلقه لهم، لم يوجدوا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ (النساء: 1).
* في إعدادهم بالقوى النّفسيّة والعقليّة والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدّوا لأيّ عمل كان ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 16)
* فيما جعل لنفعهم من تذليل للأرض وبناء للسّماء وإنزال للماء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (*) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ  فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 21-22)
والناس فقراء الى:
* ما سخّره اللّه لهم في السّماوات والأرض كعطاء دائم، حيث جعل لهم الشّمس سراجا والقمر نورا يبدّد بهما ظلمة الكوكب الذي يحيون فيه: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾.(لقمان: 20). 
* وإلى هدي اللّه وعلمه وبيانه، وإلى نوره ورحمته وحلمه، وإلى سلمه وكرمه وعفوه، وفقراء إلى عدله وإحسانه وأمنه، قضاء للحاجات وتفريجا للكربات ورفعا للأزمات.
فالمقاربة القرآنيّة تقوم على وعي من قبل الإنسان بالحاجة إلى اللّه الموصوف إطلاقا بالغنيّ الحميد، وعلى الشّعور العميق بحالة الفقر إليه دون غيره، والتي تختص بها العلاقة بين الإنسان واللّه كما ذكر في القرآن:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ (فاطر: 15)
فاللّه في القرآن هو الغنيّ الحميد:
* اللّه الغنيّ الذي له الغنى التّام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء ممّا يفتقر إليه الخلق، واللّه غنيّ بذاته وبالتالي لا يتّخذ من « تفقير» الإنسان وسيلة ليستغني بها كما هو حال الإنسان في كثير من الأحيان، وكما تثبته شواهد عديدة من أنّ الإنسان أحد أسباب فقر الإنسان.
فمن جهة نجد كثيرا من الأفراد استغنوا باستغلال المحتاجين، وكثيرا من الدّول زادت ثرواتها بإفقار دول وشعوب أخرى (تجربة الاستعمار في القرون الأخيرة) وباستعمال العديد من الأدوات كالرّبا في المعاملات الماليّة، ومن جهة ثانية تسبّب كثير من الفقراء في إفقار ميسورين في العديد من الحالات كالأزمات والانتفاضات والثّورات. 
* اللّه الحميد على ما أصبغ على الإنسان من نعم، وهو الحميد في غناه، لأنّ لولا غناه لما استغنينا،واتباع صفة الغني بالحميد حسب العلامة ابن عاشور إنّما، لإفادة أنّ غناه تعالى مقترن بجوده، فهو يحمد من يتوجّه اليه.
مُلخّص القول أنّ الفقر شدّة الحاجة الى لوازم الحياة لقلّة أو فقد ما يُقتنى بها، وهو مشتقّ من فقار الظّهر، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره، بما يعني من حالة عجز تجعله بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظهر هو مجمع الحركات، ومن هذا سمّيت المصيبة فاقرة وقاصمة الظّهر، ممّا يدفع لتعميق مفهوم الفقر على أنّه ليس مُجرّد شدّة الحاجة الى لوازم الحياة بل عجز عن تلبية تلك الحاجة. 
أمّا طبيعة الفقر فهي شيطانيّة من خلال آليتي الصّد والإغواء، وحقيقة الفقر هي فقر النّاس الى اللّه الغنيّ على وجه الإطلاق، ممّا يجعل للفقر أبعادا غيبيّة الى جانب أبعاده المشهودة، والتي تجعل الفقر على وجه النّسبيّة فقر الكلّ للكلّ، ويبرز ذلك المفهوم النّسبي من خلال آليّة تسخير الكلّ للكلّ، الآلية الملازمة لحياة كلّ النّاس في كلّ زمان وأينما كانوا، ويتجاوز ذلك التّسخير الزّمان حيث نُعاين تسخير النّاس الذين خلوا لخدمة من هم على قيد الحياة اليوم، وتسخير الجيل الحالي لخدمة الجيل القادم وهكذا دواليك. 
بعد تحرير المعنى السّديد للفقر من خلال بيان مضمون مصطلح الفقر واكتشاف طبيعته وتعداد أبعاده بقي تنوير العقل، بما يرفع التّحديات ويُعالج الإشكاليّات، وفي المقال القادم نجد فيما ألفه العلاّمة ابن عاشور ما يُساعدنا على إعادة النّظر في تحليل الفقر ونحن نبحث عن الكيفيّة التّي تحتوي بها البشريّة الفقر.
الهوامش
(1)   http://www.nabulsi.com