خواطر

بقلم
شكري سلطاني
العاطفة والوجدان، العقل والإتزان
 إنّ سوء سلوك البشر وضياعهم وعثراتهم وخيباتهم من انفلات عاطفتهم ومن سذاجة تفكيرهم وسطحيته، ونتيجة لواقعهم المادّي الضّاغط. وقد يتوهّم من فكّر أنّه أحسن التّفكير، وما علم أنّه قد انحرف عاطفيّا وشوه تفكيره بفداحة غلوّ أحاسيسه وشعوره. هؤلاء يعتقدون أنّهم يحسنون صنعا، إذ أنّ داءهم عويص وشفاءهم صعب، لتركيبتهم النّفسيّة والذّهنيّة المعقّدة. كيف نفهم فشل غالبيّة البشر وإخفاقاتهم، إذا لم يكن لمثاليّتهم وحماقتهم وسذاجتهم وسطحيتهم دور أساسي في كلّ ما تجتنيه أفئدتهم وعقولهم ونفوسهم من حصائد أفعالهم وأوهامهم؟
إنّ العاطفة التي تتلبّس ذهنيّة الإنسان وتصبغها دون رويّة وإستبصار، تؤدّي إلى السّطحيّة والسّذاجة، وعدم إدراك حقائق الأمور ومجريات الأحداث وأسبابها، وعدم التّفطّن إلى بواطنها وعللها، لينحاز كالدّهماء إلى تفسيرات خاطئة، فلا يصيب في إختياراته وتوجّهاته، فيكون مآله الفشل وعاقبته النّدم.
إنّ العاطفة سابقة عند الفرد منذ الصّبا على إكتساب ذهنيّة متزّنة وعقل رصين صاح يدقّق في الأحداث وينقد السّياقات والأنساق، وذلك لأسبقيّة التعلّقات العفويّة التّلقائيّة في بيئة الاتّصال والتّواصل، فقد يصاحب الإنسان خليلا يخاله صديقا وهو في الحقيقة عدوّ في ثوب صديق، وكم من مبتزّ عاطفي استنزف قرينه، وقد يصدق آخر خليله وهو في الحقيقة كذوب.
« كم من خليل لك خاللتـه **  لا ترك اللّه لــه واضحــة
فكلّهم  أروغ  من  ثعلـب** ما أشبه اللّيلة بالبارحة»(1). 
إنّ نزع الغشاوة المسيطرة على النّفس المتسرّعة واجب وأكيد لصفاء الذّهنيّة وطرد المثاليّة المنفلتة لحسن السّير والأداء والسّلوك. فحسن السّير والسّلوك هي نتيجة اتزان الذّات وتوازنها في بعديها العاطفي_الوجداني والعقلي_الذّهني.
التكيّف والتّجاوز والتّوجه الصّحيح من نعمة العقل المتبصّر والعاطفة المستقرّة غير المنفلتة، وكلّه توفيق من اللّه عزّ وجلّ، فمن ابتعد عن حماه ضلّ وأضلّ تابعيه والمتعلّقين به. حياة الإنسان فرصة وحيدة وما مضى منها لا يعاد ولا يستردّ، فلا بدّ إذن من اغتنامها وعدم تضييع فرص التّأسيس والتّرميم وإعادة البناء. المحن والبلايا والإخفاقات دروس في الحياة الدّنيا لاكتساب الخبرات والاتّعاظ بالتجارب: 
« لا تأمنّ الدّهر الصّروف فإنّه ** لازال قدما للرّجال يُهذّب»(2)
وما الإدراك الحسّي إلاّ نتاج منبّهات وإشارات العالم الحسّي وكثائفه وغبشه. إنّ لوثة الأحاسيس الشعوريّة غالبا ما تخطئ لغلبة الحسّ والضّجيج على المعنى والصّمت. فلقد خاب من حمل وهما وحجب نافذة عقله بتكبّر نفسه وغرورها وبسطحيّة تفكيره وفهمه البسيط.
إنّ وعي الضّرورة من هوامش الحسّ وآثاره وضروريّات الحياة الماديّة الجسميّة، أمّا وعي الكمال والإرتقاء إلى مدارج العرفان فمن إتزان العاطفة وثباتها واستقرارها، وطمأنينة النّفس وسلامة العقل وإفلاته من غبش الحسّ وكدوراته، وإنقداح زناد الرّوح وإيقاد جذوتها وشعلتها.
لا تغيير لسلوك البشر إلاّ بتغيير النّفس (إذ هي قلب الرّحى) وبتغيير أدوات إستهلاكها وفعلها العقليّة والقلبيّة والجسديّة وتحوّلها إلى مراتب الصّفاء والنّقاء والبهاء في مدار وحضرة الرّوح والقيّم السّليمة.﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(3). فلينظر كلّ إنسان إلى مجال حيويّة تعلّقاته وجذبه وفي ماذا يفكّر ودائرة إهتماماته، فإنّ « همّه ما أهمّه»، ولن يفلح حتّى يقصي وهمه ويلغي هواه.
تعتبر التّجربة الصّوفيّة الأصيلة الكادحة نحو اللّه سبحانه وتعالى، السّالكة طريق الحقيقة وسيلة مجديّة فعّالة بجهد الطّاقة وجهاد النّفس، حيث السّير على أشواك النّفس لمداواة عللها، والسّعي لإجتثاث بذور الهوى المغروسة في تربة النّفس جسر العبور من الحيوانية والغرائز المنفلتة المبثوثة في ذات البشر إلى إنسانيّته وصفائه وسعادته وهنائه وروحانيّته المفقودة الغائبة في عتمة وقتامة نفسه وحجاب الظّلمة، فتمنعه وتعيقه للتطلّع وتبيّن الحقائق والمعاني المتجليّة في الآفاق الرّحبة وفي النّفوس الهائمة التّائهة الضّائعة عن مقاصدها بتعلّقاتها بحظوظها الدّنيويّة الفانية.
متى يتيقن الإنسان أنّ وجوده مستعار والرّوح فيه وديعة وعن قريب تُسْلَبُ.﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾(4).
الهوامش
(1) من ديوان الإمام علي ابن أبي طالب عليه السّلام
(2) المرجع نفسه
(3) سورة الشمس ، الآيتان 9 و10 
(4) سورة الغاشية ، الآية 26