ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة 12 : النّفس الشّريدة
 يعطي اللّه تعالى أولويّة مطلقة للعقل (الخليفة)، على النّفس (أرض الخلافة)، و يؤكّد تعالى أنّ الإنسان (العقل) هو صاحب نفسه وعمدتها ولو ادّعى خلاف ذلك ﴿بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرهُ﴾(1).
وقد تبيّن لنا أنّ النّفس الإنسانيّة تضطرب بين الطّاعة والخوف، والتّألّه والعبوديّة، والاطمئنان والرّضا والشّحّ والسّخط. وقد بينّا أنّ حركة النّفس ونوعيّة مشاعرها تكون بحسب عاقلها. ولا تخرج النّفس عن أحد عاقليْن إمّا اللّه وإمّا الشّيطان، والواسطة في ذلك الإنسان (الخليفة = العقل النّسبي). ولذلك جاء الخطاب الدّيني وعلى وجه التّخصيص الخطاب القرآني، مؤكّدا على استخلاف الإنسان على نفسه وعلى حرّيّته في توجهيها، ومطالبا إيّاه بتزكية هذه النّفس وترقيتها وتوجيهها نحو الباقيات الصّالحات وترك المحارم والموبقات. وكان خطاب الشّرع خطاب نظام وتربية وحدود وبيانا للحقّ والباطل والحلال والحرام والصّدق والكذب، حتّى يسلك المؤمن بنفسه مسلك النّجاة لا مسلك الهلاك. فصحّ أنّ خطاب الشّرع هو خطاب نجاة بالأساس، وأنّ علمه هو علم النّجاة. يقول الشّيخ محيي الدّين ابن عربي رحمه اللّه «وغرضنا من العلوم ما يوصل إلى النّجاة». ولقد بلغ خطاب الشّرع من وضوح وصرامة في تأكيد قيومية الإنسان على نفسه حدّا طالب معه اللّه تعالى بني إسرائيل لمّا ارتكبوا الجرم والظّلم الأعظم (الشّرك) بقتل أنفسهم؛ حيث قال لهم الّله على لسان موسى عليه السّلام:﴿يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(2). وسواء أكان هذا الأمر محمولا على الحقيقة أو المجاز، فإنّه صارم في تأكيد مسؤوليّة الإنسان على ما تفعل نفسه وعلى ما تهوى وتعبد. فإذا كانت أنفس بني إسرائيل قد هوت نحو الذّهب ونحو العجل الجسد، وادّاركت نحو الأرض بفومها وعدسها وبصلها، فإنّهم مطالبون حينئذ بتطهيرها. ولا طهارة من الظّلم الأعظم والجرم الأعظم (الشّرك) إلاّ بالقصاص، وهو قتل النّفس. واللّه تعالى لا يهزل ولا يلعب، بل إنّه محاسب كلّ إنسان على نفسه ولابدّ، بما استحفظه إياها. وعقاب اللّه لا ينفك عن الإنسان في الدّنيا أو في الآخرة؛ لذلك لمّا أخلد بنو إسرائيل إلى الأرض وكرهوا التّوحيد وهوت أنفسهم إلى التّعديد برفضهم للطّعام الأوحد الوحيد (الوحدانيّة)، ومطالبتهم بالأطعمة ألوانا وأصنافا (الشّرك والتّعديد)، ضرب اللّه عليهم الذّلّة والمسكنة. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾(3).
لما استبدل بنو اسرائيل الذي هو أدنى بالذي هو خير، قضى اللّه عليهم بالهبوط ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ﴾. فما داموا قد اختاروا الأدنى فليس للّه تعالى أن يفرض عليهم الخير فرضا، تعالى اللّه عن مخالفة عهده ووعده بأن يكون الإنسان خليفة على نفسه حرّا في توليها وتوجيهها، إلاّ أنّه تعالى وقد أقرّهم على ما أرادوا، ومكّنهم من الهبوط اتّخذ موقفه منهم ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾. ذلك هو موقف اللّه تعالى من أصحاب النّفوس الهابطة، وكما أنّهم أحرار في نفوسهم، فإنّ اللّه تعالى «حرّ» في موقفه منهم. وليس عليهم حينئذ وقد اختاروا لأنفسهم الضّلال والإجرام، إلاّ أن يتحمّلوا نتائج كلّ هذا؛ فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. يقول تعالى في نفس الآية مبينا سبب غضبه عليهم وإذلالهم ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
إنّ اللّه يرضى على الإنسان بأسباب الرّضا، ويسخط عليه إذا اتّخذ أسباب السّخط. وهذه قمّة عدل اللّه تعالى وتنزّهه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. 
ثمّ إنّ اللّه تعالى الذي خلق النّفوس وجعلها محلاّ للاستخلاف، ليس مقصوده تدميرها ولا قتلها وسحقها تعالى اللّه وتنزه، بل إنّ هدفه تنميتها وترقيتها وتزكيتها، لأنّه تعالى يعلم أنّ إبليس وراء كلّ نفس يطلب تدميرها ومحقها وسحقها واستعبادها وإذلالها. يقول تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا *وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾(4).
فاللّه الرّحمان الرّحيم يأبى قتل النّفس، وما فرضه على بني إسرائيل إلاّ لمّا أصبحت أنفسهم حملا ثقيلا وامتلأت بالتّعليمات الشّيطانيّة. حينئذ كانت الرّحمة في قتلها، لأنّها لن تكون إطلاقا مصدر سعادة لهم ولا خير ولا نور، ولن تعطي إلاّ ثمرة فاسدة. إنّ موقف اللّه تعالى منهم مثل موقف صاحب البقرة تمرض وتعتلّ فلا يعرف لها دواء، فإذا استيقن أنّها تؤول إلى الموت وأن لا رجاء في معافاتها أسرع بذبحها. فيكون في ذلك راحتها من الألم ومنفعته هو بأكل لحمها عوض أن يصبح فيجدها جيفة لا فائدة منها إلاّ للكلاب والقطط. إنّ شعب بني إسرائيل المتمرّدين هم البقرة (النّفس الإنسانيّة) في أسوأ حالات مرضها واهترائها وعللها. وهذه البقرة العليلة بعلّة صميميّة لا إمكان لقيامها، فلا رجاء في أن تستعمل لحرث ولا لمنح حليب، بل إنّها إذا قامت فلكي تسقط من جديد. والعجيب في تقدير اللّه العزيز الحكيم أنّه أمرهم أن يذبحوا بقرة:﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(5).
إنّ هذه البقرة التي أمرهم اللّه بذبحها هي جماع نفسهم الفاسدة التي لم يقتلوها بحسب أمر اللّه لمّا دعاهم إلى ذلك صراحة، فأنفذ اللّه تعالى حكمه فيهم بذبحهم هذه البقرة بأيديهم. وقد بدا من كثرة أسئلتهم واستفساراتهم أنّهم استثقلوا الأمر حيث سألوا عن ماهيتها وعن لونها...وقبل ذلك قالوا لموسى لمّا أمرهم بذبحها «أتتخذنا هزوا»، و ما هي في الحقيقة إلاّ أنّفسهم العقيمة التي أجدبت فجاء لون البقرة كلون الأرض المجدبة ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾(6). فليت شعري ماهي هذه البقرة الصّفراء الفاقع لونها والتي تسرّ النّاظرين إن لم تكن ذلك العجل من ذهب الذي عبدوه لأنّه سرّهم منظره وبهرهم بريقه. فذلك العجل الذّهبي الذي أُشربوه في قلوبهم، هو الذي انقلب بقرة بفعل المحلّ الذي دخله وهو النّفس الإسرائيليّة، فتأنّث لأنّه دخل محلاّ مؤنّثا هذا من ناحية، ولأنّه أيضا وفي الحقيقة قوّة أنثويّة لا سلطان لها إلاّ بالنّسبة لأصحاب الرّؤية الظّاهريّة أي للنّاظرين، حيث قال «تسر الناظرين». فبنو اسرائيل عبدوا العجل الجسد الذّهب ذا الخوار لمّا رأوا فيه القوّة والبريق نتيجة للنّظرة السّطحيّة ( القشريّة). وقد أراد اللّه أن يبيّن لهم أنّ هذا البريق ليس سوى مظهر وطلاء خارجي، وفي الحقيقة فليس الذّهب سلطان إلاّ على الغاوين الذين يؤلهون الإناث ويجعلون منها آلهة ذات سلطان ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾(7).
هذه البقرة الصّفراء الفاقع لونها والتي تسرّ النّاظرين، لا تقدر على عمل نافع ممّا تقوم به الأبقار عادة، ولذلك فلمّا لجّوا في السّؤال ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾(8). أجابهم اللّه تعالى بوضوح كاشفا عن حقيقة هذه البقرة ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَاقَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾(9).
لقد لجّ بنوا اسرائيل في التّنصّل من تبعات عبادة العجل، وأنكروا ما فعلوا، فحكم اللّه عليهم بقتل أنفسهم فعصوا(10) وهذا واضح في تعاملهم مع ذبح البقرة حيث لم يتّجهوا مباشرة إلى تنفيذ الأمر بل سألوا عن ماهيتها ثمّ عن لونها ثمّ أعادوا السّؤال عن ماهيتها، وفي كلّ ذلك كانوا يتهرّبون من شيء، وهذا الذي يتهرّبون منه واللّه أعلم، هو جرمهم الفظيع باتخاذهم العجل، حيث أهلكوا أنفسهم بهذا الصّنيع المرعب. ولقد حاولوا أن يتلاعبوا، وأن يستعملوا الآيات المتشابهات: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾. فأيّ بقر هذا الذي تشابه إن لم يكن أنفسهم التي اختلط عليها المعنى، فطلبت الرّحماني في الشّيطاني، فآلت إلى استبدال عبادة اللّه بعبادة عجل الذّهب. وكان اللّزه واضحا صريحا فدمغهم بآخر الحقائق لما قال لهم «إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون». تلك هي النفس الاسرائيلية لا فارض أي مسنة هرمة ولا بكر أي صغيرة، لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أما لونها فـ «صفراء فاقع لونها تسر الناظرين» أما عملها فلا شيء «لا ذلول تثير الأرض و لا تسقي الحرث». و قد نفذ فيهم الله حكما بقتل أنفسهم، وسواء علمه من علمه وجهله من جهله منهم، فإنهم في ظاهر الحال اعترفوا وأقروا بكل ما وصفهم الله به ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾. لماذا ذبحوها؟ يجيب القرآن: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(11).
فلمّا ذبحوها أحيا اللّه باللّحم الميّت نفسا حيّة قتلوها وادّارؤوا فيها ﴿كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ﴾. فصنع اللّه تعالى من الموت حياة، وتلك آية اللّه تعالى الذي يخرج الحيّ من الميّت  ويخرج الميّت من الحيّ. فالنّفس المقتولة التي كتموا سرّ قاتلها وادارؤوا فيها، هم الذين قتلوها ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾، وما هي في الحقيقة إلاّ نفسهم المظلومة، قتلوها بعبادة العجل. فحكم اللّه بقتل النّفس البغي «البقرة الصّفراء الفاقع لونها» رغم أنّها تسرّ النّاظرين، لكي تخرج نفس جديدة يحييها اللّه بكرمه ورحمته، ويجعلها آية لبني إسرائيل. لذلك قال لهم: ﴿كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. فدعاهم إلى العقل وهو عقل المعنى في حقيقته بحمل الأمر على باطنه وحقيقته لا على ظاهره؛ لأنهم إن فهموا سر الأمر بذبح البقرة، وإن عقلوا حقيقة البقرة بعد أن بينها لهم بدون لبس ولا غموض «صفراء فاقع لونها تسر الناظرين»، وإن عقلوا كيف يتم إحياء النفس الميتة بإذن الله وقد رأوا آية أمام أعينهم، حينئذ يتحررون من أسر الظاهر، ومن هيمنة الذهب الأصفر الفاقع لونه الذي يسر الناظرين. فهل استوعبوا الدرس وعقلته قلوبهم؟  تجيبنا الآية التي بعدها مباشرة بالنفي ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(12).
مأساة بني اسرائيل بل جريمتهم النّكراء أنّهم لا يعترفون لقلوبهم بشيء، وأنّهم لا يعقلون بقلوبهم بل بأعينهم؛ ولذلك تحجّرت هذه القلوب وقست نتيجة للإهمال. وإهمال القلب يكون بنسيان آيات اللّه والغفلة عنها. فآيات اللّه عقلها وفهمها والإيمان بها هو غذاء القلب.
لذلك لم يكن الأمر بقتل النّفس عامّا، بل توجّه نحو بني اسرائيل خاصّة لمّا كفروا وأشربوا العجل يقول تعالى:﴿..وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(13). أمّا المؤمنون، فقد أمرهم اللّه بأن لا يقتلوا أنفسهم، ونبّههم إلى أنّ قتل النّفس عدوانا وظلما يؤول بصاحبه إلى النّار. وقد مهّد اللّه تعالى للأمر بعدم قتل النّفس بقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾(14).
فكان التّمهيد حاويا لأسرار الحفاظ على النّفس وهي الالتزام بحدود اللّه تعالى. فإذا التزم البشر بالحدود العادلة في التّعامل فيما بينهم، ولم يعتد بعضهم على بعض، فإنّ مشاعر سحق النّفس واحتقارها والرّغبة في قتلها تقلّ، لأنّه حيث يكون الظّلم تموت النّفس. فالنّفس الإنسانيّة لا تحيا في أجواء الظّلم بل تموت وتضمحل، ذلك قانون الهي صارم، وهو ظاهر إذا تأمّلنا حياة الإنسان أفرادا ومجتمعات. فالأفراد الذين تجاوزوا الحدود بالاعتداء والطّغيان سواء كقابلين أو كفاعلين، آلوا إلى ظلم أنفسهم وسحقها. وهكذا استوت في الانسحاق أنفس المجرمين وأنفس ضحاياهم الذين رضوا بالقتل دون دفاع عن أنفسهم.
أمّا المجتمعات التي تفسد قوانينها بزوال العدل وشيوع الظّلم والنّهب، فإنّ ميل النّاس فيها إلى شتّى مظاهر ومعاني قتل النّفس واضح تنبّئ عنه الدّراسات والإحصاءات الاجتماعيّة. وليس أدلّ على ذلك ممّا يقع اليوم في البلدان الرّأسماليّة ذات الاقتصاد الرّبوي من عزوف عن الحياة وإقبال النّاس على إنهاك أنفسهم وتدميرها بكلّ الوسائل والطّرق. 
وبعد النّهي عن قتل النّفس عدوانا وظلما يقول تعالى:﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا﴾(15) . فأشار إلى القانون العام الضامن لبقاء النفس وحياتها والموصل إلى رحمته تعالى المتمثلة في العفو عن الإنسان والتوسيع عليه. فالله تعالى الرحمان الرحيم الغفور لن يؤاخذ الإنسان بكل شيء، بل يدعوه إلى اجتناب الكبائر التي إذا اقترفها أهلك نفسه وغيره. فإذا فعل ذلك، فإن الله يغفر له صغائر ما يرتكب من ذنب. وهكذا يحرر الله الإنسان من العقد النفسية المرتبطة بمشاعر الذنب خاصة؛ ورغم أنه وحده الحسيب الرقيب، إلا أنه لا يطرح رقابته كفعل تدميري للإنسان بل يحرض هذا الإنسان على إحياء نفسه بعمل الصالحات وتجنب المنكرات. إن الله خالق النفس وبارئها يعلم خفاياها وأسرارها ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾(16).
يعلم اللّه تعالى أنّ النّفس ليست ذات حياة مطلقة، وإنّما هي وجود مشروط تماما مثل الجسد، لابدّ له من هواء وماء وطعام وكساء...بل إنّ هذه النّفس هي هذا الجسد ذاته، وقد رأينا أنّ النّفس بمعنى الجسد لدى اللّغويين. فإذا كانت النّفس لا تحيا إلاّ بنظام وضمن شروط، فلابدّ للإنسان حينئذ من مراعاة هذه الشّروط وحفظ هذه الأنظمة التي بها قوام حياتها، وتلك هي حدود اللّه. فحدود اللّه هي الأنظمة الحافظة للحياة، يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(17).
فالقصاص هو الجزاء العدل، هو الحافظ لحرمات الله أن تنتهك. وإذا كان هذا جاريا على مستوى الأبدان فأولى وأحرى أن يجري على مستوى القلوب. ولذلك نبه الله تعالى بقوله «يا أولي الألباب»، أي أن مسألة القصاص وأحكام الحدود الموجودة في ظاهر التشريع تصحّ كلها على باطن الإنسان، أي على نفسه في أحوالها الباطنة، في إيمانها وشركها، في عدلها و طغيانها.. في فجورها وتقواها.
الهوامش
(1) سورة القيامة- الآيتان 14 و15
(2)  سورة البقرة- الآية 54
(3) سورة البقرة- الآية 61
(4) سورة النساء- من الآية 29 إلى الآية 31
(5) سورة البقرة- الآية 67
(6) سورة البقرة- الآية 69
(7) سورة النساء- الآية 117
(8) سورة البقرة- الآية 70
(9)السورة نفسها - الآية  71
(10) لاعجب، فهم أئمّة الضّلال وأساطين العصيان بدون منازع ، وموقفهم الذي يسجّله عليهم القرآن الكريم كلّما دعوا إلى السّمع والطّاعة لربّهم هو قولهم:«سمعنا وعصينا» قال تعالى:«وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم» وعبارة أشربوا محكمة الدّلالة على أنّ الكفر قد خالط أنفسهم فتشرّبته تشرّب الصّوف للماء. 
(11) سورة البقرة - الايتان 72 و73
(12) سورة البقرة - الاية 74
(13) سورة البقرة - الاية  93
(14) سورة النساء- الاية 29
(15) سورة النساء- الاية31
(16) سورة ق - الاية 16
(17) سورة البقرة - الاية 179