الأولى

بقلم
م.فيصل العش
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2-2): مقومات النّجاح
 بين النّهي عن المنكر ومقاومته
الأمر والنّهي طلب ذو وجهين، الأوّل إيجابي هو الأمربالقيام بفعل أو بقول والثّاني سلبي هو النّهي أي طلب الامتناع عن قول أو فعل. و«الأمر والنّهي ثنائيّة تتألّف من ضدّين تنظّم السّلوك الإنساني الواعي. ونلاحظ فيها ارتباطاً جدليّاً بثنائيّة أخرى هي (الطّاعة والمعصية)، إذ بدون أمر أو نهي لا توجد طاعة ولا معصية (...) فالأمر والنّهي عند الطّرف المخاطَب المأمور مسألة اختياريّة، إن شاء أطاع المطلوب منه فنفّذه، وإن شاء عصى المطلوبَ منه فامتنع عن تنفيذه»(1) لهذا وجب التّمييز بين الأمر بالمعروف، وحمل النّاس على المعروف من جهة، والنّهي عن المنكر، وحمل النّاس على الانتهاء عن المنكرمن جهة ثانية، وبالتّالي فإنّ مهمّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يمكن أن تكون بيد السّلطة مهما كان نوع نظامها مستبدّا أو ديمقراطيّا، لأنّ السّلطة بطبعها تحتكر القوّة والإكراه، وتستعملهما لفرض القوانين التي هي ملزمة. فهي تتعامل مع المنكر بصفته خطرا يهدّد سلامة المواطنين، فتضع القوانين لمعاقبة مرتكبيه وزجرهم، وهذا لا يدخل في باب «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» وإن كان ما تقوم به واجبا من واجباتها، وأمرا لا مفرّ منه، بما أنّ كلّ اجتماع بشري بحاجة إلى وجود سلطة تمارس الإكراه من خلال القوانين، لتنظيم شؤونه وصيانة حقوق أفراده.
لنأخذ بعض الأمثلة لنوضّح هذه المسألة. تعاني بلادنا وسائر بلاد المسلمين من منكر لم يكن موجودا في عهد الإسلام الأوّل وهو التّهوّر في سياقة السّيارات، وهذا منكر لا اختلاف فيه لما له من نتائج كارثيّة على المجتمع، حيث يتسبّب في إزهاق آلاف الأرواح سنويّا (2). النّهي عن هذا المنكر تتكفّل به جمعيّات السّلامة المروريّة كجمعيّة الوقاية من حوادث الطّرقات والمرصد الوطني للسّلامة المروريّة، وذلك عبر القيام بالحملات التّحسيسيّة في الطّرقات وفي الأماكن العامّة، تنبّه فيها السّائقين من مغبّة السّياقة بسرعة مفرطة وعدم احترام قوانين المرور. أمّا دور الدّولة فهو مقاومة هذا المنكر عبر فرض قوانين تحديد السّرعة وتنظيم المرور وأخرى لمعاقبة المخالفين وردعهم. 
مثال آخر يتعلّق بمنكر «الاحتكار» وهو منكر ينجرّ عنه غلاء الأسعار وكسب المال على حساب قوت  المواطنين. النّهي عن هذا المنكر تتكفّل به جمعيّات الدّفاع عن المستهلك وتعاونيّات المواطنين، والأيمّة بالمساجد، وذلك عبر القيام بالحملات التّحسيسيّة في الأسواق وحملات مقاطعة المواد غالية السّعر...إلخ... أمّا دور الدّولة فهو «مقاومة هذا المنكر» عبر مراقبة الأسواق ومعابر السّلع وإصدار قوانين لردع المحتكرين ومتابعتهم أمنيّا وقضائيّا. وقس على ذلك في التّعامل مع منكر «تعاطي المخدّرات» و«العنف الأسري» و«الشّعوذة» و«التّحرش الجنسي» الخ.. النّهي عنها تتكفّل به الجمعيّات الأهليّة ومؤسّسات المجتمع المدني، أمّا مقاومتها والقضاء عليها فهي من مشمولات الدّولة من خلال أجهزتها وقراراتها.
المجال العام والمجال الخاصّ
يجب علينا عند الحديث عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كمهمّة مجتمعيّة ينفذها المجتمع من خلال الجمعيّات والمؤسّسات المدنيّة، التّمييز بين المجال الخاصّ والمجال العامّ، فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كممارسة ميدانيّة لا تشمل إلاّ المجال العام، ولا يصحّ أن تتعدّاه إلى الفضاء الخاصّ، الذي يتطلّب اختراقه وكشفه اعتماد الملاحقة والتّجسس والمراقبة وهي أمور منهيّ عنها. يقول تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾(الحجرات: 12)، قال القرطبي: «ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره اللّه». ولا يصحّ الحديث عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الفضاء الخاصّ إلاّ داخل الأسرة الواحدة، حيث يكون الوالدان مطالبين به مع الأبناء، ضمن المهام الموكولة لهما لتنشئتهم. 
مقومات الفعل المجتمعي
يعتبر دور المؤسّسات في تنفيذ الأمر بالمعروف دورا مفصليّا وجوهريّا، لأنه يُخرجه من دائرة «الوعظ الفردي» إلى ميدان «الإصلاح البنيوي والمستدام». ففي التّصوّر الإسلامي الحضاري، لا يُنتظر من الأفراد فقط أن يقوموا بهذه الوظيفة، بل يجب أن تتبنّاها مؤسّسات الدّولة والمجتمع المدني ضمن منظومة تشاركيّة توازن بين الحقّ والقانون، وبين الحرّية والمسؤوليّة. ولكي يتحقّق الأمر بالمعروف في صورته الحضاريّة، ينبغي توفّر ثلاثة أبعاد مترابطة:
1. التّربية الأخلاقيّة العامّة:
ويُنتجها الإعلام، ومؤسّسات التّعليم، والمؤسّسة الدّينيّة. حيث تلعب المؤسّسات التّعليميّة مثل المدارس والجامعات ومراكز التكوين دورًا محوريًّا في ترسيخ قيم «المعروف» كالعدل، والنّظافة، والعمل، واحترام الآخرين، ومكافحة الظّلم والتّمييز، وذلك عبر مناهج تعليميّة أخلاقيّة، وحصص تربية مدنيّة، وأنشطة ثقافيّة وتطوعيّة تكون نتيجتها بناء مواطن أخلاقي واعٍ يرى المعروف في سلوكه اليومي، لا كشعار ديني فقط، وبالتالي فتضمين هذه القيم في المناهج وتفعيل الأنشطة المجتمعيّة يجعل من المدرسة ميدانًا واقعيًّا لتطبيق «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».فإذا أردنا لمجتمع أن يأمر بالمعروف، علينا أولًا أن نُربّي فيه الإنسان الذي يعرف المعروف، ثم نؤسّس له مؤسّسات تحميه.
أمّا المؤسّسات الإعلاميّة والثّقافيّة، فهي تلعب دورًا خطيرًا في تحديد شكل المعروف والمنكر في الوعي الجمعي. فإن قدّمت الفساد على أنّه نجاح، أو الاستهلاك على أنّه تطوّر، فستقلب المفاهيم، وتصبح منابر للهدم بدل البناء. فـ «الكلمة مثل السّيف، إمّا أن تقيم بها العدل أو تمكّن للباطل، والإعلام مسؤول عن الوجه الذي يقدّم به المعروف.ويتمثّل دور هذه المؤسسات المجتمعيّة في نشر ثقافة المعروف في المجال العام، والتّصدي للانحرافات الفكريّة والأخلاقيّة، عبر حملات توعية، ودراما هادفة، ومنابر إعلاميّة، وشبكات تواصل تُعلي من شأن الحقّ، فتكون النتيجة صناعة رأي عام يُناصر الحقّ والخير، ويرفض الظّلم والفساد، و«المعروف الذي لا صوت له في الإعلام، منكرٌ مقنّع». 
أمّا بالنّسبة للمؤسّسة الدّينيّة، فإذا أردنا لـ «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» أن يستعيد مكانته في قلب المجتمع، فعلينا أن نمنح الخطيب أفقًا أوسع من «النّصيحة»، ونطالبه بأن يكون مهندس وعي، وشريكًا في التّنمية، وصوتًا للحقّ، وعينًا على المنكر. فالخطيب المعاصر لا يحمل العصا، بل يحمل الوعي، ولا يكتفي بالدّعاء، أو بتكرار قول «اتقوا اللّه»، بل يُشارك في بناء المؤسّسات، ويُوقظ الضّمير الجماعي، ويعيد للإسلام صورته الحيّة كدين الإصلاح والعمل والتّشييد. لهذا فإنّ من دوره تأصيل مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» من منطلق قرآني مقاصدي، وتوسيعه ليشمل قيم العصر كالحرّية والكرامة والبيئة، ونشر ثقافة العدل الاجتماعي، وتثبيت قيم العمل والاتقان. 
 2. الرّقابة المدنيّة المؤسّسيّة: 
وتتمثّل في تفعيل دور مؤسّسات المجتمع المدني، والنّقابات، والهيئات الرّقابيّة. ففي عالمنا المعاصر المتغيّر، لم يعد «المعروف» مجرّد نصيحة أخلاقيّة، بل مشروعًا متكاملًا لحماية الإنسان والبيئة والكرامة، تقوم بتنفيذه منظمات المجتمع المدني من خلال: كشف المنكرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحقوقية: كالفقر، والتّهميش، والعنف الأسري، وتقديم الدّعم القانوني والنّفسي للمظلومين، وإطلاق حملات ضدّ الفساد، وضدّ التّمييز العنصري أو الجندري، وترسيخ القيم الإنسانيّة والدعوة إليها: كالعدل، والتّكافل، والمساواة، والشّفافيّة، والدّفاع عن البيئة والعدالة المناخيّة. لقد أصبحت هذه الجمعيّات، كما يقول المفكر المغربي أحمد عبادي، «ضمير الأمّة في عصر المعلومات»، لأنّها «تتوسّل بالأدوات المدنيّة والرقميّة لتُعيد للأمر بالمعروف صداه وسط الزّحام الإعلامي»(3).
3. القدوة النّخبويّة: 
في عالم مشبع بالخطاب، ومتْخم بالشّعارات، لم يعد النّاس يثقون بالكلمات فقط، بل يتطلّعون إلى أفعال منسجمة مع القيم. وهنا تأتي أهمّية قدوة النّخبة: أن ترى الصّدق في السّياسي، والنّزاهة في الإداري، والإتقان في العالم، والتّواضع في الدّاعية، والتّجرّد في المثقّف. وبحسب مالك بن نبي، فإنّ «القيمة لا تُعلَّم بالقول بل تُبرهن بالفعل» و «القيم لا تشتغل في فراغ، بل تحتاج إلى حاضنة حضاريّة تجعلها فاعلة لا شعارات» (4).
فإذا أردنا أن يكون «الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر» أحد ركائز التغيير الاجتماعي والإصلاح المستدام، علينا أن ننتج نخبًا تعيش المعروف قبل أن تدعو إليه، وتقف في وجه المنكر قبل أن تحاضر عنه. وعندما يكون الفقيه منصفًا، والطّبيب نزيهًا، والصّحفي شجاعًا، والسّياسي أخلاقيًّا، فإنّهم يتحوّلون إلى دعاة صامتين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا عن طريق الموعظة، بل عن طريق الإلهام والقدوة. يقول الدكتور طه جابر العلواني: «إنّ أعظم موعظة قد تكون حياة رجل».(5)
لهذا وجب إعادة تشكيل تعليم النّخب وتكوينهم عبر برامج تعليميّة تُغرس فيها القيم مع المعارف، وعلى قواعد المواطنة والأخلاق والعمل الجماعي. والاهتمام بالتّربية الأخلاقيّة في الجامعات والنّقابات والفضاءات العامّة. وللإعلام دور في هذا المجال، إذ بتسليطه الضّوء على النّماذج الحقيقيّة وتقديمه القدوات الحقيقيّة من الميدان لا من الأبراج العاجيّة. وبإنتاج محتوى يكون أبطاله المعلّم النّزيه، والطّبيب النّبيل، والقاضي العادل، نكون قد أعددنا العدّة لمواجهة  ثقافة «البطل الفاسد» و«الشّهرة الفارغة».
خاتمة
إننا بحاجة إلى «أمر بالمعروف ونهي عن المنكر» لا يُشهَر في وجه النّاس، بل يُمارَس في سياسات التّعليم، والعدالة، والإعلام، والاقتصاد، والإدارة، حتّى نكون بحقّ أمّةً تُصلح ولا تُفسد، وتُقيم القسط ولا تساوم عليه. 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن ضمن التّصّور الإصلاحي المعاصر ليس مجرد «نصيحة» أو سيفا يسلّط على رقاب النّاس، بل هو مكوّن من مكوّنات البنية الحضاريّة، تتكامل فيه الأخلاق بالقانون، والعبادة بالعدالة، والحرّية بالمسؤوليّة. التّحدي المعاصر هو تحرير هذا المفهوم من أَسْر الشّعارات، ورده إلى مركز الفعل الإصلاحي المجتمعي. فلا إصلاح بدون أمر بالمعروف، ولا أمر بالمعروف بدون وعي شامل ورؤية حضاريّة. 
الهوامش
(1) د.محمد شحرور، تجفيف منابع الإرهاب،مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة- 5، ص145 ط،1
(2) تشير الأرقام المنشورة على الموقع الإلكتروني لمرصد سلامة المرور في تونس، إلى تسجيل 5625 حادث مرور في تونس طيلة سنة 2024،  خلّفت 1167 قتيلاً ، و 7716 جريحًا.
(3) أحمد عبادي ، مجلة «يتفكرون»، العدد 15، ص 41
(4) مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، ط7، 2000، ص 65
(5) د. طه جابر العلواني، «أدب الاختلاف»، ص. 54