بالمناسبة
| بقلم |
![]() |
| د.عبدالله التركماني |
| إدوارد سعيد: المثقّف الكوني والهويّة المركّبة |
كان لي شرف لقائه خلال مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني – الجزائر، في تشرين الثّاني/نوفمبر 1988، حيث كانت الانتفاضة الفلسطينيّة المجيدة ملهمة لمواقفنا وكتاباتنا، وبعد حوارات لعدّة ساعات أدركت أنّي أمام مثقّف نقديّ أكثر ما أحتاج إليه، فبدأت أتابع أغلب كتاباته، ومقاربتي هذه، في الذّكرى التّسعين لولادته، هي نتاج هذه المتابعة.
يعدّ ادوارد سعيد(1935-2003) واحداً من كبار مثقّفي العالم، وهو أكاديمي متميّز انتشرت شهرته في الآفاق منذ نشر كتابه المعروف « الاستشراق» الذي تميّز بمنهجه البنيوي في تحليل ظاهرة تاريخيّة كبرى في تاريخ العلاقات الإنسانيّة، كما اشتهر بمواقفه الرّاديكاليّة من إسرائيل ووقوفه محلّلاً ومنتقداً جملة من المواقف السّياسيّة للقضيّة الفلسطينيّة في عدّة كتب ومقالات نشرها في أمّهات الصّحف العالميّة، ولعلَّ أهمّ ما يميّزه كثرة كتاباته وإسهابه في تحليلات متنوّعة.
لقد أضاف إلى هيبة الأستاذ قيمة المثقّف ورؤيته وقدرته على الفعل، ثمّ تجلّت شخصيّته حين استطاع أن يحقّق لنفسه ذلك التّوازن الضّروري لمن يريد أن يخاطب العالم والعصر فعلاً، بحيث يقرأ له أو يصغي إليه كلاهما باحترام واهتمام. ولأنّه ينتمي إلى هذا الصّنف من العلماء وأصحاب الاجتهادات فإنّه ساجل ونافح وانتقد السّلطات المستبدّة كلّها، من هنا مصداقيته العالية وتأثيره الهائل معاً كعالم إلتزم الموضوعيّة دون لا مبالاة، وكباحث إلتزم المنهج دون محاباة، وكناقد إلتزم القضيّة دون حياد، وكأستاذ جامعة كان ملتزماً دون تحوير أو تزوير. كان مثقفاً، وحلم دائماً بمثقف فوق الارتباطات والمصالح والانحيازات الضّيقة.
إنّ محطّات حياة إدوارد سعيد شواهد صريحة على نزوعه القلق الدّائم إلى الانشقاق عن المألوف، كلّما تجمّد هذا المألوف وانقلب إلى قواعد دوغمائيّة مغلقة. لقد كان، في نشاطه الفكري والسّياسي، تجسيداً لمفهوم المفكّر والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي لـ « المثقّف العضوي» المقاوم بفكره ونشاطه « هيمنةَ» السّلطة الحاكمة، بمختلف أنماطها المادّية والسّياسيّة والفكريّة، والتي تسيطر على المجتمع بكامله من خلال سيطرتها على « البنية الفوقيّة» الاجتماعية والسياسية واحتكارها لها.
لقد شكّل إدوارد سعيد الصّورة الحضاريّة الثّقافيّة للشّعب الفلسطيني في أفضل رموزها: مثقّف عالمي، منحاز للإنسانيّة وللحقّ الفلسطيني، لم يقع في فخّ العنصريّة وتعاون مع اليهود الرّافضين للصّهيونيّة، رفض كلّ الأصوليّات العالميّة التي تنشر الشّكّ والعنف بين الحضارات، والأهمّ من ذلك أنّه رفض أيضاً كلّ أشكال الفساد والاستبداد، وكان من القلّة النادرة من المثقّفين الفلسطينيّين الذين انتقدوا الإدارة السّياسيّة والاقتصاديّة للقيادة الفلسطينيّة.
كما كان ينتمي إلى تلك القلّة من المفكّرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكريّة الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفيّة، ولكن يصعب على الدّوام حصرهم في مدرسة تفكير محدّدة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه. ذلك لأنّه نموذج دائم للمثقّف الذي يعيش عصره على نحو جدليّ، ويدرج إشكاليّة الظّواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويخضع مَلَكة التّفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النّقد. إنّه ناقد، ومفكّر، ومنظّر أدبي. وهو يساري، علماني، إنسيّ، حداثي.
وتفرض تحليلات إدوارد سعيد نوعاً من التّوقير والإجلال، ذلك أنّها ليست تحليلات تبسيطيّة شعبويّة غايتها المصادرة على المطلوب، وهي تستخلص المواقف والنّتائج عبر سلسلة معقّدة من الاستقصاءات والحفريّات. وفي عموم مشروعه النّقدي لا يظهر أبداً على أنّه صاحب نتائج جاهزة، وتكاد تكون إحدى أهمّ مهاراته المنهجيّة تتجلّى في قدرته على التّعمّق في قراءة المعطيات التي يشتغل عليها، ثمّ استخلاص المضمرات الأساسيّة الكامنة خلفها. إذ ترتبط مجمل أعماله بالتّيار النّقدي الذي يعنى بكشف الظّواهر وتحليلها وتفكيكها واستنطاقها، وهو تيّار أفرزته الكشوفات المنهجيّة النّقدية الحديثة، ولعلَّ ما يتفرّد به عن المجموعة الطّليعيّة في هذا التّيار، مثل «هابرماس» و«دريدا» و«تودروف» و«الآن تورين» و«بورديو» وغيرهم، كونه يترفّع عن الاتصال العقائدي بمنهج معيّن منغلق، ومع أنّ اتجاهه العام في تحليل الخطاب يستند إلى ركائز عامّة مدعومة بوجهة نظر فلسفيّة إلاّ أنّه يوظّف نتائج التّحليلات اللّسانيّة والسّيميولوجيّة من جهة، والاجتماعيّة والتّاريخيّة من جهة ثانية، ويمارس نقداً متواصلاً يهدف إلى تنقية المفاهيم الشّائعة والتّصوّرات الثّابتة، ويقوده ولع في كشف آليّات الالتباس بين الثّقافات التي تحدثها ظروف تاريخيّة معيّنة، أو مقاصد تقوم على سوء الفهم، وأحياناً سوء النّيّة. ويبدو نقده متحرّراً من أيّة مرجعيّة ثابته، سواء كانت عرقيّة أو دينيّة أو ثقافيّة، فالمرجعيّة التي يمكن اعتبارها الموجّه لعمله هي الممارسة النّقديّة الجريئة التي تتعرّض لفكّ التّداخل بين الظّواهر التي يدرسها.
وفي سياق تعامله مع قضيّة شعبه لم يرغب في إعادة السّرد الفلسطيني على غرار الرّواية الصّهيونيّة أيديولوجيّاً للشّتات والعودة، ولكن تقديم مشروع عميق قائم على رؤية علمانيّة تسمح بالتّعايش بين العرب واليهود في أرض واحدة. وفي سياق هذا المشروع مارس نقده لإسرائيل، متسائلاً في أكثر من مرّة عن سبب استثنائها من المعيار العام الذي تتمّ من خلاله معاملة الدّول الأخرى، ورأى أنّ السّبب هو عامل «الهولوكوست». ومع اعترافه بهذا العامل إلاّ أنّه انتقد استغلاله لتبرير اضطهاد الفلسطينيين وطردهم، وكتب في كتابه «سياسة الاقتلاع»(1994): «إلى متى سيتمّ فيه استخدام «الهولوكوست» و «معاداة السّاميّة» كدرع يحمي إسرائيل من النّقاشات والعقوبات ضدّ أفعالها التي تمارسها تجاه الفلسطينيّين؟ وإلى متى سنظلّ نتجاهل أنّ صرخات أطفال غزّة مرتبطة مباشرة بسياسات الحكومة الإسرائيليّة ولا علاقة لها بصرخات ضحايا «الهولوكوست»؟
هويّة متعدّدة الأبعاد لمثقّف كوني
ينطلق إدوار سعيد، في محاولته نسج خيوط نظريّة متكاملة حول مسألة الهويّة، من أنّه لا توجد هويّة صافية، وإنّما كلّ الهويّات مركّبة من عناصر مختلفة وتراثات متغايرة. فمفهوم الهويّة ليس ثابتاً ولا جامداً ولا نهائيّاً، على عكس ما نتوهّم وإنّما هو حيوي، ديناميكي، يغتني باستمرار من عناصر ثقافيّة متجدّدة.
المتعدّد المبدع هي صفته الأكثر مطابقة، فهو الأميركي الذي شاء أن يكون فلسطينيّاً، والفلسطيني الذي أراد أن يكون أميركيّاً، والنّاقد الأدبي الذي صاغ خطاباً سياسيّاً، والمثقّف النّاقد الذي انفتح على فنون كثيرة... وكان في هذا كلّه مثقّفاً إنسانيّاً شاملاً، يرى ذاته في « الآخر» ويرى « الآخر» في ذاته، دون أن يقع في التّبسيط، أو يسقط في المحاكاة الفارغة.
فرادته لا تصدر عن احتضانه هويّة واحدة من الهويّات المتعدّدة التي تنطبق عليه، ولا من خلال الجمع بين هذه الهويّات على وجه منفصل، واستخدام الواحدة منها أو الأخرى، تبعا لما يقتضيه المقام، وإنّما من خلال احتضانها جميعها بما أدّى إلى إرادة تكرّس هويّة متعدّدة الأبعاد لمثقّف كوني، لا يعدم - في الآن نفسه - صلة وثيقة بما هو محلّي وشخصي تاريخيّاً.
ثمّة في مذكّرات سعيد، كما في الكثير من مقالاته السّياسيّة، ما يرجّح الظّنّ بأنّ مشايعة الكاتب للوطنيّة الفلسطينيّة حلٌّ لما ما انفك يتنازعه من حيرة تعدّد الهويّات المصطرعة، وهو حلّ انجلى عن إرادة أن يكون فلسطينيّاً. فلقد كانت حرب حزيران/يونيو 1967، وما تلاها من حوادث، بمثابة فرصة سانحة له لكي يحسم أمره ويعلن ولاءه السّياسي للهويّة الفلسطينيّة دون أيّة من الهويّات الأخرى، فيما أنّه يؤمن بأنّ الهويّة بناء ثقافي، ومثلها في ذلك مثل أي بناء ثقافي آخر، هي إعراب عن إرادة قوّة ما، فإنّه رأى أنّ للمثقّف إرادة واعية يمكن الإعراب عنها من خلال الدّور الذي يلعبه، وهو كمثقّف شاء أن يكون فلسطينيّ الهويّة والولاء.
وربّما كان من حسن حظ القضيّة الفلسطينيّة، والتّفكير العقلاني بشكل عامّ، أنّ إشكاليّة الهويّة لم تقد سعيد إلى التّفكير الفلسفي الذي يتعالى على المشاكل اليوميّة والحياتيّة ليبذل جهده في مسائل الوجود، ويغرق في فلسفة متعالية لدينا منها الكثير، وكان من الممكن - لولا حدّة وطأة المشكلة الفلسطينيّة - أن يربط بين منفاه المكاني والنّفسي وبين الوجود ذاته.
المثقّف، النّاقد، السّياسي
يعرّف إدوارد سعيد المثقّف بأنّه « شخص يواجه القوّة بخطاب الحقّ»، إلاّ أنّه يذهب إلى مناطق أكثر حساسيّة وصعوبة بأن يصرَّ على أنّ وظيفة المثقّف هي أن يخبر مريديه ونفسه بالحقيقة. وفي هذا السّياق، تجسّد أعماله ثلاث قيم جوهريّة للمسؤوليّة الفكريّة، هي: اتساع المعرفة وعمقها، والصّرامة البحثيّة، وأساس عميق من الأخلاقيّات السّياسيّة من النّوع الذي يجعل المدنيّة ممكنة. وتتعلّق هذه الفضائل بالشّخصيّة التي تكّون وظيفة الفرد، كما أنّها تحوّل أعماله إلى آثار له تقوم على فضائل هذه الشّخصيّة وتعكسها في تجسيد الشّخصيّة لتلك الأعمال وتشكيلها إياها. هذا بالإضافة إلى أنّها تحدّد شكل نتاج العقل وبؤرته وتجعل منه مشروعات، رغم تباين مفرداته واختلاف مظهرها، يمتلك تكاملاً وصدقاً يظلاّن بحاجة إلى أن نميّزها ونجعلها نموذجاً.
نقده لحياديّة المثقّف
كتب « الاستشراق» متّهماً مثقّف السّلطة ومتّهماً أكثر السّلطة التي تقولب المثقّفين، وكتب « الثّقافة والإمبريالية»، مدافعا عن « المثقّف الآخر»، الذي يعيش في « المركز» وينصر الأطراف. كان، في الحالتين، يتمرّد على الثّقافة الأكاديميّة الطّقوسيّة، التي تحوّل الثّقافة إلى احتكار فقير، تتبادله نخبة ضيّقة أقرب إلى عالم الكهنة، بقدر ما كان يتمرّد على السّلطة السّياسيّة التي تحتكر المثقّفين، وتفصل بينهم وبين القضايا العامّة. يقول في دراسة له عنوانها « معارضون... جماهير، دوائر وجماعات»: «بكلام عام جداً، يعني عدم التّدخّل بالنّسبة للاختصاص في العلوم الإنسانيّة، فلهم « هم»، أي السّياسيّون أن يديروا البلاد وأمّا نحن فسنذهب في شرح وردزوورث(1) وشليغل (2)» (3).
ويعيدنا هذا المسار الفكري لعمله، وإنجازه على صعيد البحث وتاريخ الأفكار، إلى السّؤال الأساس لوظيفة المثقّف وموقفه ممّا يدور في هذا العالم. لقد رفض سعيد أن يتقوقع في بيئته الأكاديميّة أستاذاً مرموقاً للأدب الإنكليزي في الجامعات الأميركيّة، وفضّل، على رغم ما كلّفه ذلك على صعيد المكانة الأكاديميّة والسّلامة الجسديّة، أن يكون منافحاً عن القضيّة الفلسطينيّة في قلعة الغرب المعادية لحقوق الفلسطينيّين، وأن يفكّك المفاهيم الزّائفة المصطنعة التي بناها الغرب خلال قرون من الزّمن عن نفسه وعن الآخر. ويمكن أن نعثر في كتبه الكثيرة على الباعث الشّخصي لمسيرته الفكريّة والثّقافيّة، على جذوره كمثقّف منفي لا منتمٍ، مستقلّ يقول الحقيقة للسّلطة، أيا كانت هذه السّلطة فكريّة أو سياسيّة.
أمّا محطّة النّقد الأدبي التي وصل من خلالها إلى قمّة شاهقة تشير إليها الدّوائر العلميّة المرموقة بالبنان، يقول «جيم ميرود»(4): «لم يستطع أحد ممّن يكتبون عن النّظريّة الأدبيّة والثّقافيّة اليوم تفادي تناول قبضة سعيد، وهذا المدى هو عن حقّ مدى شخص هاوٍ، ممّا يعني أنّ العمل الشّاقّ المؤسّس على المعرفة لا يعوقه شيء بالنّسبة لفرد شديد الاهتمام بعمله. أمّا الفوائض العاطفيّة المحتملة لهذا الاهتمام فهي تركز هي ومداها خارج نطاق مجرّد المهنيّة، وفي هذا الصّدد فإنّ مشروعه كناقد هو توسيع مجال البحث الذي يحيط بالنّصوص، وبالافتراضات الفكريّة السّائدة وتعمّق تحليل التّعبيرات والنّصوص والمواقف، بالإضافة إلى السّياقات التي تدعّمها بحيث يكتسب نسق الفكر في أكثر حالاته حدّة صبغة حادّة الذّكاء والرّهافة»(5). ويضيف ميرود قائلاً: «إن كان عمل سعيد الفكري هو مشقّة من أجل الحبّ والعذاب والكياسة والتّروي والكبرياء والقلق والالتزام والأمل، وأعتقد أنّ كلّ مشهده اللّفظي يعرض هذه الضّغوط، فقد أنتج أيضاً نتائج ملموسة من النّوع الذي يتطلّع إلى إنتاجه جامعات ومفكّرون قلائل، وليس بالإمكان بعد تقدير قيمتها الرّائعة، بيد أنّها ستحمل بين مآثرها، وإلى زمن لا محدود، نموذج سعيد الذي يتعذّر إطفاؤه، أي نموذج رفض اليقينيّات ورفض الدّوغما» (6).
صورة أخرى لسعيد النّاقد نراها في بحث «تيري كوتشران» (7) الذي يقول: «ربّما كان سعيد أكثر من أيّ ناقد آخر في النّصف الأخير من القرن العشرين، هو من عالج - بشكل منتظم - قضايا تؤكّد على تداخل الاهتمامات الأدبيّة والمصالح السّياسيّة، وفي حالة سعيد ردّد هذا التّوجه أو هذه الضّرورة في مجادلات وردود أفعال لا تنتهي عبر النّطاق السّياسي والأدبي من جميع التّوجّهات، الأمر الذي بدا ظاهريّاً أنّه يصدق على تأكيده على أنّ الأدب والسّياسة تربطهما روابط لا تنفصم عراها. وبشكل أكثر تحديداً فإنّ أكثر إسهامات سعيد عمقا، في الفكر المعاصر، هو أنّه بذل غاية الجهد حتّى نجح في البرهان على أنّه لا يمكن فقط تطبيق آليّات الإدراك الأدبي المفاهيميّة على مجالات وإنتاجات أدبيّة أخرى».
لقد نفى إدوارد سعيد أن يكون هناك صراع بين الحضارات، وأكّد، اعتماداً على تجربته المعرفيّة الخاصّة، أنّ الثّقافات والحضارات تتلاقح، وتتغذّى من بعضها البعض. وتطرّق إلى المأساة الفلسطينيّة، وقال إنّه كان ولا يزال يعتقد أنّ التّعايش بين الشّعبين الفلسطيني والإسرائيلي ممكن، وأنّ العمل في سبيل تحقيق ذلك كفيل بأن يجنّب الشّعبين ومنطقة الشّرق الأوسط المزيد من الفواجع والآلام والدّموع. وانتقد العرب والفلسطينيّين الذين يعتبرون « الهولوكست» وما تعرّض له اليهود خلال الحقبة النّازية «خرافة صهيونية»، وقال: «إنّ التلذذ بآلام الآخرين لن يفيد الفلسطينيّين ولا العرب في شيء، بل هو يشوه صورتهم أمام العالم».
لقد وصل إدوارد سعيد إلى السّياسة عن طريق المعرفة، ووصل إلى تسييس المعرفة عن طريق الأخلاق. وهذا المتّكأ، الذي يختلف عن غيره، انطق فيه صوتاً أخلاقيّاً عالياً، ينطوي على إنسانيّة عالية وحسّ بالمسؤوليّة يقترب من الفرادة. إنّه استهلّ حياته ناقداً أدبيّاً وباحثاً في شؤون الاستشراق والحضارة، ودخل الفكر السّياسي من باب الفلسفة والفكر والثّقافة وكان مفكّراً سياسياً لامعاً، دأبه طرح الأسئلة والسّعي الحثيث للإجابة عليها.
المشروع الحضاري العربي
كان في الغرب « مهجرياً» من نوع آخر ومختلف، متعب كالجسر بين شرق غامض وغرب بلا قلب، يدافع عن القضيّة العربيّة بقيم الحريّة والعقلانيّة والثّقافة الأصيلة، وفي شجاعة أدبيّة مميّزة. كتب مرّة يقول أنّه « عربيّ أدّت ثقافته الغربيّة، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربيّة، وأنّ تلك الثّقافة إذ تلقي ظلال الشّكّ على الفكرة القائلة بالهويّة الأحاديّة، تفتح الآفاق الرّحبة أمام الحوار بين الثّقافات» (8).
والواقع أنّه فتح الباب للكثير من المفاهيم لأن تدخل في نسيج الثّقافة العربيّة والعالميّة وتعابيرها ومصطلحاتها، ودائماً كان يكتب في خطّ النّقد والحوار والمراجعة والمساءلة، وفي مساحة البحث عن الحرّيّة.
لكن هناك فرق بين معرفة بالشّعوب الأخرى، والتّواريخ تقوم على الفهم والتّعاطف والدّراسة المقصودة لذاتها، والمعرفة التي تأتي جزءاً من حملة شاملة تهدف إلى إثبات الذّات. إذ هناك، في التّحليل النّهائي، تباين عميق بين إرادة الفهم خدمة للتّعايش وتوسيع الأفق، وإرادته كوسيلة للسّيطرة.
يقول سعيد في إجابته على سؤال: «كيف ترى ملامح مشروع حضاري عربي؟»(9): «نحن نعيش في فترة زمنيّة صعبة جداً، وهناك تهديد للمشروع الحضاري العربي، وللأسف يساهم العرب في هذا التّهديد، يوجد نوع من الانتحاريّة العربيّة التي تنعكس في السّياسة العربيّة وهي لا تؤدّي إلى مستقبل إيجابي، ويوجد تغييب في المفاهيم العربيّة، وأنا شخصيّاً أعاني من ذلك في الغرب، أي نحن غير معنيّين في الحوار العالمي أو المصير البشري، وأعتقد بأنّنا نستثني أنفسنا وغير مستعدّين للدّخول في الحوار العام الدّائر في الكرة الأرضيّة، وهذا شيء مؤسف».
الحكومات العربيّة ليس لديها فكرة عن الحضارة أو التّربية أو التّعليم، وعلينا كعرب في المهجر أن نتعاون، ولكن ليس بطريقة تربطنا بالحنين وبالإخلاص المحض السّخيف إلى الأنظمة والأحزاب، بل في صنع المستقبل الحضاري كجزء من المشاريع، هناك ندوات عالميّة كثيرة، لكنّ الدّور العربي مفقود أو منخفض، ومن الضّرورة الدّخول في المشاريع الحضاريّة الكبيرة ونعطي بطريقة متواصلة تمثيلاً آخر للصّوت العربي أو وجود آخر يختلف عن الماضي».
وهكذا، سيبقى فكر إدوارد سعيد شعلة تنير الدّرب الفلسطيني والعربي والعالمي، درب الذين يفكّرون ويحاولون بناء عالم لا مكان فيه للإرهاب، ولا للعصابات الاحتلاليّة العنصريّة التي تعتبر إسرائيل خير مثال عليها، والولايات المتّحدة الأمريكيّة خير راعٍ لها. وسيبقى دور إدوارد سعيد حيّاً في كلّ فلسطيني وطني يعي ويعرف ويعلم خطورة ما تلا اتفاقيّات أوسلو وأخواتها من مآسي وويلات عصفت بالفلسطينيّين وأضرّت بقضيّتهم الوطنيّة.
لن يغيب إدوارد سعيد، فالذين يغيبون هم الذين يمثّلون الماضي حتّى وهم أحياء، أمّا ادوارد فيمثل المستقبل، المستقبل الذي نحلم به لنا ولأولادنا ولأحفادنا ولوطننا المكتوي بآلام تبدو كأنّها لا تنتهي. لن يغيب إدوارد لأنّه حليف بفكره وإبداعه ونموذج حياته للمستقبل، ولحبّ الحياة.
إدوارد سعيد، سيظل في النّهاية، حاضراً بحضور وعيه الثّقافي وانفتاحه على العالم، فهو الفلسطيني الذي حمل فلسطين في داخله كهويّة وذكرى، لم يكن قادراً على التّكيّف أو الاعتراف بالانتماء للمكان، وظلّ كما وصف نفسه، رجلاً وباحثاً غير قادر على الاعتراف بعلاقته بالمكان الذي يعيش فيه ويتحرّك من خلاله.
بقي علينا أن نسير على دربه، وأن نستلهم انفتاحه الفكري الواسع، لكي نخرج من هذه الورطة الجهنميّة التي وقعنا فيها منذ أكثر من نصف قرن على الأقل. نعم إنّ صوت إدوارد سعيد سوف ينقصنا في السّنوات القادمة، لأنّه كان أحد المثقّفين العرب القلائل الذين وصلوا إلى مرحلة العالميّة أو الكونيّة.
الهوامش
(1) ويليام وردزورث (1770 - 1850) شاعر بلاط المملكة المتحدة من عام 1843 حتى وفاته وهو شاعر رومانسي إنجليزي ساهم مع صامويل تايلر كولريدج في إطلاق العصر الرومانسي في الأدب الإنجليزي من خلال عملهما المشترك «الأغاني الغنائية» الذي نُشر عام 1798.
(2) فريدريش شليغل (Friedrich Schlegel)، كاتب وشاعر وناقد ألماني(1772-1829). يعتبر المنظر الحقيقي للرومانسيين الأوائل.
(3) سعيد، إدوارد «معارضون، وجماهير، ودوائر انتخابية والمجتمع المحلي» Critical Inquiry، المجلد9، العدد 1، سياسات التفسير (سبتمبر 1982)، الصفحات 1-26 (26 صفحة)، النشر: مطبعة جامعة شيكاغو، https://www.jstor.org/stable/1343271
(4) جيم ميرود،(ولد سنة Jim Merod) (1942) أستاذ الأدب الأمريكي بجامعة سوكا الأمريكية، بالإضافة إلى عمله كمدرس وناقد وكاتب، عمل جيم مهندسًا لتسجيل وإتقان موسيقى الجاز والبلوز لأكثر من 20 عامًا.
(5) “Lyrical Abstractions of Edward Said,” Boundary 2 (vol. 25, no. 2 Summer ‹98) Duke Univ. Press, 1998
(6) نفسه
(7) تيري كوتشران، أستاذ الأدب المقارن بجامعة مونتريال. متخصّص في التّاريخ الأدبي والمعرفي.
(8) إدوارد سعيد، « خارج المكان»، ترجمة فواز طرابلسي ، دار الآداب، 2000، ص 10
(9) آخر حديث صحافي أدلى به لصحيفة « الرأي العام» الكويتية نُشر في 27 سبتمبر/أيلول 2003.
|




