الأولى
بقلم |
![]() |
م.فيصل العش |
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1-2): من الشّعار إلى الوظيفة الحضاريّة |
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الفريضة المحرّّّفة
إنّ النّاظر في حال الأمّة يستنتج أنّ «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» قد وقع تحريفه دينيّا وأصبح من حيث الممارسة مغايرا لمعناه الأصلي، ولهذا دخلت الأمّة في كهف التّخلّف والانحطاط، فقد أصبحت هذه الفضيلة منبوذة لدى النّاس وسيفا مسلّطا على رقابهم لتعيش الغربة في أتعس مظاهرها، غربة فكريّة وثقافيّة وغربة اجتماعيّة. لقد أدّى تحالف المؤسّسة الدينيّة مع السّلطان منذ قرون عديدة إلى تكريس مَعْنى جديد للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقوم على القهر والإكراه خلافاً لما نصّ عليه القرآن الكريم، حيث استغل هؤلاء لفظ «الأمر» وأخذوه على أنّه سلطة أمر ونهي واستعلاء واستطالة على النّاس. ونظّمت فريضة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» فقهياً في مؤسّسة أطلق عليها «الحسبة»(2) تجمع باسم الدّين بين سلطة الشّرطة فى التّحرى والاعتقال، وسلطة القاضى فى إصدار العقوبة، وسلطة الجلّاد فى تنفيذ الحكم.
وقد أعاد الوهابيّون إحياءها فى شكل هيئة حصرت الأمر في مراقبة النّاس في المسائل التّعبدية كالصّوم والصّلاة ومسائل شكليّة كاللّباس خاصّة بالنّسبة للمرأة، لتتحوّل إلى حركة سطحيّة ضحلة، تتلخّص في التّعرّض للنّاس بالضّرب والجرح في الأزقّة والشّوارع. فارتبط «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى أذهان النّاس بتدخّل القائمين بهذه الوظيفة فى حرّيتهم الدّينية والشّخصيّة فى تناقض صارخ مع روح الإسلام. وانطلاقا من المرجعيّة ذاتها ظهرت مختلف الجماعات المتطرّفة ومنها المسلّحة لتفرض على النّاس ايديولوجيّتها المتعصّبة تحت شعار «الأمر بالمعروف» وتمارس قتلهم ومصادرة حرّياتهم تحت شعار «النّهي عن المنكر».
فكيف نحرّر هذا العنصر الأساسي في خيرية الأمّة؟ وكيف نفهم إذن «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» ضمن تصوّرنا الإصلاحي المعاصر؟ وكيف نجعل منه عنصرا أساسيّا في تحقيق خيريّة الأمّة من جهة، وفي خروجها من ظلمات التخلّف إلى أنوار التّقدّم والازدهار، وبالتّالي إلى الفعل الحضاري من جهة أخرى؟ وكيف نحوّله إلى وظيفة مجتمعيّة شاملة، ركيزتها الأساسيّة تحقيق الإصلاح العام، وحماية المنظومة الأخلاقيّة والحقوقيّة للأمّة.
من النّص المؤسّس إلى المشروع المجتمعي
«الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» واجب شكّل قاعدةً لحركة الأنبياء والمرسلين والمصلحين وشرطا من الشّروط الأساسيّة لضمان سلامة المجتمعات وصلاحها قديما وحديثا، وهو ليس حكرا على المسلمين أو المتديّنين منهم بل هو واجب كلّ حالم بمجتمع متوازن ومتحضّر يقوم على العدل والقسط والسّلم الاجتماعي، ويرتقي نتيجة لذلك في سلّم التّقدّم والازدهار. فقد مارسته أغلب المجتمعات الإنسانيّة منذ القدم كلّ وفق منظومته القيميّة والأسس الفلسفيّة التي اعتمدها لتحديد معاني المعروف من جهة والمنكر من جهة أخرى.
ويحتلّ «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» لدينا نحن المسلمين مكانة خاصّة إذ هو بمرتبة الواجب قبل الصّلاة والزّكاة، وهو الشّرط الأساسي مع الإيمان باللّه لتنال الأمّة «خيريّتها»، ويتّضح ذلك في قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه﴾
(آل عمران:110) إذ أنّ ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾تعليل وسبب لما قبله، فإذا عطّلت الأمّة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فقدت صفة الخيريّة، لأنّ انقطاع السّبب انقطاع للمُسَبَّب.
وقد نصّ القرآن الكريم على وجوبه وجعله شرطا للفلاح في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(آل عمران: 104)، «وصيغة (ولتكن منكم أمّة) ـ كما قال صاحب التّحرير والتّنوير ـ صيغة وجوب لأنّها أصرح في الأمر من صيغة (افعلوا) لأنّها أصلها»(3).
وفي المقابل، فإنّ ترك هذا الفرض من طرف أيّ مجموعة بشريّة يؤدّي حتما إلى عدم فلاحها ويجلب لها اللّعنة والعقاب. يقول اللّه سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(المائدة : 78-79)، وجاء في الحديث:«والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ اللّه أن يبعث عليكم عقاباً منه ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم»(4)
وليس هناك أكبر من عقاب «الاستبداد» الذي يمكن أن ينزل على الأمم التي تترك هذه الفريضة جانبا ولا تمارسها. فتعيش القمع والقهر وما يترتّب عن ذلك من تردّ للخدمات وانتشار للفساد ومصادرة للرّأي وتكميم للأفواه وأفول للحركة العلميّة والثّقافية، ممّا يؤدّي حتما إلى التّأخر والتّخلف الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي.
ومقابل ذلك تعيش العديد من الأمم نتيجة ممارستها «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» حياة هنيّة تقوم على الحرّية والكرامة وتطوّر اقتصادي وتقدّم علمي وفكري وتقني، ذلك أنّ تلك الممارسة ترتقي بجميع جوانب المجتمع النّفسيّة والفكريّة والعلميّة، فتحتلّ الحرّية موقع الاستبداد والعدل مكان الظّلم والعلم موضع الجهل، فتسير تلك الأمم إلى مزيد من الرّقي والازدهار. وتلك من سنن اللّه ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا ولا تحويلا.
فرض عين أم فرض كفاية؟
إنّ المنوط بواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هو المجتمع كلّه، لكنّ المواطن مطالب بأن يتعلّم ما هو المعروف وما هو المنكر قبل المشاركة في الفِعْل، كما يتعلّم صفة الصّلاة وأركانها وشروطها قبل القيام إليها وإقامتها. مصدر التّعلم والتلقّي، هم «العلماء» و«المختصّون» ولا نقصد هنا علماء الدّين من الفقهاء والمتصدّرين للفتوى وإنّما أهل الاختصاص، لأنّنا نعيش عصرا ميزته التّخصّص، ولأنّ المعروف والمنكر يشملان كلّ مناحي الحياة ومجالاتها، فإنّ فيهما أصنافا بعدد الاختصاصات، لهذا فإنّ لكلّ صنف مختصّين، فإذا كان الحديث عن المعروف والمنكر في التّعاملات الماليّة وتصريف الأسواق فأهل الاختصاص هم رجال الاقتصاد وعلماؤه، والمشاركة في الفعل تكون عبر مكاتب الدّراسات والجمعيّات الاقتصاديّة ومؤسّسات المجتمع المدني التي لها علاقة بالميدان، وإذا كان مجال المعروف والمنكر في ميدان التّعليم فإنّ أهل الإختصاص هم خبراء المهنة من معلّمين وأساتذة ومتفقّدين، والمشاركة في الفعل تكون عبر المؤسسات الحكوميّة المشرفة على التعليم والجمعيّات التي تعتني بإصلاح التّعليم ومراكز الدّراسات المختصّة في المجال وجمعيّات التّربية والأسرة وجمعيّات المربّين... الخ...
ونؤكّد أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بما هو محاصرة لبؤر الفساد والإفساد ومنابع الشرّ في جميع مجالات الحياة، لايمكن أن تكون وظيفة رسميّة تمارسها طائفة معيّنة تحتكرها لنفسها بل هي مهمّة برتبة «فرض عين» على كلّ مسلم ومسلمة ومواطن ومواطنة، سواء نفّذها بصفة منفردة أو بصفة جماعيّة من خلال مختلف مؤسّسات المجتمع المدني، لأنّ التّقاعس عن تنفيذ هذه المهمّة أو التخلّي عنها من شأنه أن «يُشيع» الانحراف والفساد في جنبات المجتمع.
وبهذا فإنّنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه البعض في اعتبار الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض كفاية، وهو من حيث القول من مشمولات فئة معيّنة وهم الفقهاء وعلماء الدّين لما لهؤلاء من معرفة بالشّرع وحدوده، وهو من حيث الفعل من مشمولات السّلطة الحاكمة أو من ينوبها لما لها من سلطان على النّاس(5) ويرتكز هؤلاء على معنى كلمة «منكم» في قوله تعالى:﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾
(آل عمران:104) على أنّها للتّبعيض والحال أنّها هنا للتّبيين، والدّليل السّياق الذى جاءت فيه الآية، فقد توجّه اللّه بالخطاب إلى كلّ الأمّة في ما سبق هذه الآية وفيما جاء بعدها في آية أخرى من نفس السّورة:﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه﴾. وفي قوله:﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(التوبة: 112) لدليل آخر على أنّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ليس مقتصرا على فئة من المسلمين، ففي الآية سرد لصفات المفلحين المؤمنين المبشّرين بالجنّة، وقد ذكر من بينها الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر.
ولأنّ «المعروف لا يُحدّ بالأمر الدّيني فقط، بل هو كلّ ما توافق عليه الضّمير الإنساني من خير عام وصلاح مشترك»(6) فهو ليس عملًا تطوعيًّا هامشيًّا، وإنّما شرط لتكوين هويّة الأمّة، ومكوّن من مكوناتها الوظيفيّة. وقد أكّد النّبي ﷺ هذا المعنى في قوله:«مَن رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(7). فالحديث يُرتب مراتب التّغيير لا على درجات «الوعظ»، بل وفق الإمكانات المجتمعيّة والتّنظيميّة، ما يعني أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يتطلّب مؤسّسات، وتشريعات، وثقافة وتكوين. وهو حسب تعبير طه عبدالرحمان، «ليس مجرد احتجاج على الانحراف، بل هو ممارسة إصلاحيّة جماعيّة تعيد نسج الواقع على صورة القيم» (8) وتهميش هذا الدّور يؤدّي إلى تفكّك المجتمع وخفوت أثر القيم في الحياة العامّة.
وفي كتابه «دستور الأخلاق في القرآن»، يوضّح المفكر محمد عبد اللّه دراز أنّ الأخلاق في الإسلام ليست معزولة عن الحياة الاجتماعيّة، بل تُترجم إلى وظائف عمليّة مثل «الأمر بالمعروف»، الذي لا يقوم به الأفراد منفردين، بل الأمّة كلّها كمجتمع مؤسّسي وقيمي، إذ «ليس المعروف قيمة فرديّة، بل هو قاعدة تقوم عليها العلاقات الإنسانيّة كافة، ويكون المجتمع في خطر إذا تخلّى عنها أو سكت عن اختراقها»(9). و«كل مجتمع لا يملك أدوات تفعيل «المعروف» سيتحوّل إلى بيئة للفوضى واللاّمبالاة، مهما علا فيه صوت الدّين»(10)
إن الأمر بالمعروف في الإسلام ليس وظيفة سلطويّة، ولا دعوة إلى التّشدّد، بل نداء دائم إلى الإصلاح والعمل والتّكافل والعدل. هو مسؤوليّة جماعيّة تتكامل فيها الحقوق والحرّيات، والرّحمة والعدالة، والعبادة والعمران.
فكيف يمكن تنزيله في أرض الواقع وماهي آليّات ذلك؟ وماهي شروط نجاح تنفيذه في مجتمعاتنا المعاصرة؟ هذا ما سنحاول التّطرّق إليه في الحلقة القادمة إن شاء اللّه.
الهوامش
(2) يعد الماوردي (ت 450هـ) أول من كتب في الحسبة وجعلها ضمن الولايات الدّينية وميزها عن ولاية المظالم في كتابه «الأحكام السلطانية»، وقد قال عنها أنها «من قواعد الأمور الدينية، وكان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها».. الماوردى: الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، تحقيق أحمد مبارك البغدادى، الكويت، دار ابن قتيبة، 1989، ص: 339.
(3) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور ، مجلد 2، الجزء4 - ص 37
(4) الترمذى: كتاب الفتن، جـ4، حديث رقم (2169)
(5) انظر قول ابن تيمية « وذوو السّلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم» أ هـ الفتاوى 28/65
(6) طه عبد الرحمن، روح الدين، المركز الثقافي العربي، ط1، 2012، ص 219
(7) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، حديث رقم: 49
(8) طه عبد الرحمن، روح الدين، المركز الثقافي العربي، ط1، 2012، ص 221
(9) دستور الأخلاق في القرآن، محمد عبد الله دراز، مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1998، ص 344
(10) مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، ط7، 2000، ص 82
|