في الفكر السياسي

بقلم
نعمان العش
مقالة في الثّقافة السّياسية
 لكم تغمرني بالنّشوة أبيات للشّاعر العربي الكبير «أبو نواس»:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فـإنّ اللّوْمَ إغْـــــرَاءُ
ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الـــــــــدّاءُ
صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتهـــا
لَوْ مَسّها حَجَــرٌ مَسّتْــهُ سَـــــــــرّاءُ
مِنْ كف ذات حِرٍ في زيّ ذي ذكـرٍ
لَها مُحِبّانِ لُوطــيٌّ وَزَنّـــــــــــــــاءُ
قامْت بِإبْريقِها، والليــلُ مُعْتَكـــــــِرٌ
فَلاحَ مِنْ وَجْهِها فـــي البَيــتِ لألاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَم الإبْريــق صافيَــــة
كأنَّما أخذَهـــــــا بالعيـــنِ إغفـــــاءُ
رقَّتْ عَنِ الماء حتى مـــا يلائمُهـــا
لَطافَةً، وَجَفا عَنْ شَكلِهــا المـــــــاءُ
فلَوْ مَزَجْتَ بها نُـــوراً لَمَازَجَهــــــا
حتــى تَوَلدَ أنْـــــوارٌ وأَضــــــــواءُ
دارتْ على فِتْيَة دانً الزمانُ لهــــمْ،
فَما يُصيبُهُــــــمُ إلاّ بِمـــا شـــــاؤوا
لتِلكَ أَبْكِـــي، ولا أبكــــي لمنزلــــة
كانتْ تَحُلُّ بهــــا هنــــدٌ وأسمـــــاءُ
حاشى لِدُرَّة َ أن تُبْنَى الخيــامُ لهــــا
وَأنْ تَرُوحَ عَلَيْها الإبْــلُ وَالشّــــــاءُ
فقلْ لمنْ يدَّعِي فــي العلمِ فلسفـــــة ً
حفِظْتَ شَيئًا، وغابَــتْ عنك أشيــاءُ
لا تحْظُر العفوَ إن كنتَ امرَأَ حَرجًا
فَــإنّ حَظْرَكَـــهُ فـي الدّيــــن إزْراءُ
وحالي يقوله لساني «أليست تونس اليوم، وهي كمثل النّبيذ لونه وطعمه قد يكون لمعاقره جمال، وأنا، مثلما رأى أبو نواس إبريق مدامته في خياله صفراء، أرى تونس في خيالي خضراء لا تنزل الأحزان ساحتها، أمّا حالي فلا يختلف في قليل أو كثير عن حاله فما سكر أبو نواس بخمره وما سكري بتونس لأنّه ينظر إلى خمره وأنا أنظر إلى تونس وكلانا دان الزّمان لنا فما يصيبنا إلا بما شئنا».
معراجي لن يكون إلى السّماء فذلك ما لا أتوق إليه وما لا أطيقه وإسرائي سوف يغادر إليّ وما كان ليتّجه إلي بيت مقدس يبعدني عن ذكرها وذاكرها من لا يحقّ لي أن أسمّيه ذكرا. تعوزني لكي أثبت هذا الأمر الوسيلة ولي في ذلك فضيلتي فدعوني لا أفارق، فيما أكون عليه حين أتحدّث عن تونس، أبا نواس وهو يتحدّث عن الخمرة. فضيلتي مثلما هي فضيلته الحبّ والعشق، وهو لعمري ما يدفعني إلى أن أدثّر ألمي بقوّة وشّجاعة لا ينذرهما أحد إلاّ لمن يحبّ لأنّ غنيمة المحبّ الفضلى لعلّ أرقاها تقديم حياته فداء لمن يحبّ، فيكون الشّهداء الأفاضل ثلاث، أحدهما المحبّ لله فيكون شهيدا في سبيله وثانيهما المحبّ لوطنه ودينه فيكون شهيدا في سبيلهما وثالثهما المحبّ لنفسه فيكون شهيدا في سبيل كرامته وحرّيته وعرضه وشرفه.
أقرؤوا عن الدّين الوطني الجديد  إنّه دين الاستنساخ الوطني التّقدّمي الدّيمقراطي.
كتب محسن الزغلامي ([1]) : « شعور بالأسف والألم بفعل طائفة من المواقف غير المسؤولة صدرت ولا تزال عن بعض الأطراف السّياسيّة والإعلاميّة بدت من خلالها وكأنّها تسعى إلى توظيف هذه الأحداث – أحداث جبل الشّعانبي- لغايات سياسيّة ضيّقة ومواقف يرتقي بعضها إلى درجة من الخطورة مثل تلك التي تحاول الافتراء إعلاميّا على المؤسّسة الأمنيّة وقياداتها وإبرازها في صورة المتواطئ أو المكبّل العاجز، فضلا عن تلك الأطراف التي تدّعي في بياناتها أنّ القرار السّياسي غير واضح فيما يتعلّق بملف الإرهاب ومواجهة العنف، غير عابئة بما يمكن أن يترتّب عن هذه الإدّعاءات الخطيرة من شعور بالإحباط لدى المواطن وحتّى لدى أفراد الجيش والحرس الوطنيين لذلك نؤكّد أنّ المعركة ضدّ الإرهاب تتطلّب أيضا أن تتحلّى كل الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة بالقدر العالي من الوطنيّة والشّعور بالمسؤوليّة الّذي تتحلّى به قوّات الجيش والحرس الوطنيين ».
هذا قول محيط ولي فيه رأيان:
- رأي أوّل: يتعلّق بالعنف والإرهاب. أمّا ما يكون فيه فصل في مسألة العنف، فإنّي أعتقد أنّه لن يكون بإدانة السّلطة وتقصيرها الّذي، إن كان قد توفّر حقّا، فمردّه بدوره إلى رأيين:
* يؤكّد الأوّل أنّ مشروع الدّيمقراطية، وهي النّاشئة، لا يكون منطلقه في المكان الواحد في زمن واحد، أي إنّ نجاح هذا المشروع الجنيني للدّيمقراطية واثق الارتباط بتجارب مخبرية لا تنكفئ عن الانخراط في تجربة إستراتيجية، أوّلها اختباريّ افتراضي تطمح إلى أن تغيّر وتعدّل على مدى الأزمنة التّاريخية في جغرافية واحدة. إنّ هذا مطلب يتعامل مع ثلاثية حسّاسة وهي ثلاثية علوم الاجتماع والنّفس والاقتصاد، لأنّ التّردّد والتّعديل هو حسنة النّجاح الأوّلي وكلّ إبداع لجديد ومستحدث، كان مفصولا عن زمن الإنسان وعن وعيه، عليه أن يكون موافقا لفكر مؤسّس لابدّ وأن يكون منخرطا في معمل التّجربة الملتزمة بوعي تثوير الواقع، والفاعل لابدّ له أن يتّخذ القرار وهو يسير في الطّريق. ألا تكون النّجاعة متمثّلة فيما يصنعه هذا الفعل التّغييري بل المؤسّس من إنهاض لمستوى الإنسان المسبوق بإنهاض لقيمة الإنسان وكرامته؟،
ويؤكّد الثّاني أنّ ما اجتمعت عليه الإعلانات العالميّة لحقوق الإنسان وكذا المواثيق الدّولية، هو اجتماع له رهان افتراضيّ بدوره يلتقي في عملية مزدوجة:
* أوّلها تحقيق ونشر المحبّة والتّواصل والضّيافة
* وثانيها نبذ العنف والصّراع والإقصاء والحرب. إنّها عمليّة أعمدتها مبادئ كونية صيّرت إلى تشريعات قانونية دوليّة، ومع الإقرار بحجم هذه المبادئ وتلك التّشريعات كمنظومة أخلاقية، كان عليها أن تكون مهيمنة، كان ينتظر أن يقابلها إقرار بأنّ الحقّ الّذي يتّكئ على مبادئ وقوانين دولية يجب أن يصاحبه الإقرار بها لدى كلّ الأطياف والجماعات والأفراد كعماد لا يوجب اختراقه الفشل في الانتخابات وعدم تحقيق المرامي الإيديولوجية أو السّياسية أو لا توجب اختراقه الكراهية للحزب أو المجموعة المنتصرة ديمقراطيا بتأويل نصوصه بما لا يوافق الرّهانات الّتي لأجلها صيغت تلك المبادئ والقوانين وبالتّالي يكون التّأويل منفصلا، منذ منطلقه، عن رهانات الدّيمقراطية وقد أنكرها وعن كرامة الإنسان وحرّيته وقد اعتدى عليها التّأويل التّمويهيّ المخادع.
- رأي ثان: يتعلّق بالوطنية وبالشعور بالمسؤولية. أمّا ما يكون فيه من فصل فيتمثّل في ما تقرّه القوانين الدّولية من أنّه لكلّ مجتمع خصوصية تعكسها ثقافته السّائدة بين أبنائه، تلك الثّقافة الّتي تطوّرها مجموعة القيم والمفاهيم والمعارف الّتي اكتسبها عبر ميراثه التّاريخي والحضاري وواقعه الجغرافي والتّركيب الاجتماعي وطبيعة النّظام السّياسي والاقتصادي، فضلاً عن المؤثّرات الخارجية التي شكّلت خبراته وانتماءاته المختلفة، والثّقافة السّياسية هي جزء من الثّقافة العامّة للمجتمع، وهى تختلف من بلد لآخر حتّى لو كان شعباه ينتهجان نفس الأساليب الحياتية، وينتميان إلى نفس الحضارة، ويتقاسمان الاهتمامات والولاءات.
يمكن الحديث عن مجموعة من العناصر أو المكونات للثّقافة السّياسية سواء تلك الّتي تتبنّاها الدّولة (ثقافة الحكّام) أي الثّقافة الرّسمية أوتلك السّائدة لدى أفراد المجتمع (المحكومين) والّتي تسمّى الثّقافة غير الرّسمية ومن هذه المكوّنات :
‌أ.  المرجعيّة : وهى تعنى الإطار الفكري الفلسفي المتكامل، أو المرجع الأساسي للعمل السّياسي، فهو يفسّر التّاريخ، ويحدّد الأهداف والرّؤى، ويبرّر المواقف والممارسات، ويكسب النّظام الشّرعية، وغالباً ما يتحقّق الاستقرار بإجماع أعضاء المجتمع على الرّضا عن مرجعيّة الدّولة، ووجود قناعات بأهمّيتها وتعبيرها عن أهدافهم وقيمهم، وعندما يحدث الاختلاف بين عناصر النّظام حول المرجعيّة، تحدث الانقسامات وتبدأ الأزمات التي تهدّد شرعية النّظام وبقاءه واستقراره، ومن أمثلة المرجعيات تذكر الدّيمقراطية، والاشتراكية، والرّأسمالية، والعلمانية.. الخ وأغلب الظنّ أنّه لا يوجد أثر محسوس للاختلاف بين عناصر المجتمع في الدّيمقراطيات الغربية، إذ أنّ هناك اتّفاقا عامّا على الصّيغ المناسبة لشكل النّظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أمّا في الدّول النّامية فالمسائل المتعلّقة بشكل نظام الحكم وطبيعة النّظام الاقتصادي وحدود العلاقة بين الدّين والدّولة لم تحسم بعد ولا تزال مثار خلاف وصراع.
‌ب.  التوجّه نحو العمل العامّ : هناك فرق بين التوجه الفردي الّذي يميل إلى الإعلاء من شأن الفرد وتغليب مصلحته الشخصية، وبين التوجّه العامّ أو الجماعي الّذي يعنى الإيمان بأهمية العمل التعاوني المشترك في المجالين الاجتماعي والسّياسي، والتّوجه نحو العمل العامّ والإحساس بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه من أهمّ مكوّنات الثّقافة السّياسية، ذلك أنّ هذا الشّعور بالمسئولية يدفع المواطن إلى الإيجابية في التّعامل مع القضايا والموضوعات في ظلّ ثقافة متشابهة مؤدّاها الإحساس بالولاء للجماعة.
‌ج.  التوجّه نحو النّظام السّياسي : الاتّجاه نحو النّظام السّياسي والإيمان بضرورة الولاء له والتعلّق به من ضرورات الإحساس بالمواطنة وما ترتّبه من حقوق والتزامات فكلّ ثقافة سياسية عليها أن تحدّد النّطاق العامّ المعقول للعمل السّياسي والحدود المشروعة بين الحياة العامّة والحياة الخاصّة ويتضمّن هذا النّطاق تحديد الأفراد المسموح لهم بالمشاركة في العملية السّياسية ووظائف المؤسّسات السّياسية كلّ على حدة، كما تفرض الثّقافة السّياسية معرفة حدود المشاركة في هذا النّظام مثل السنّ والجنس والمكانة الاجتماعية والوضع العائلي، بالإضافة إلى أنّ بعض الثّقافات السّياسية تحرص على تحديد الأبنية والوظائف السّياسية في الدّولة، وكذلك الأجهزة المنوط لها تحقيق الأهداف الّتي تحدّدها الدّولة، فالثّقافة السّياسية هي التي تدعم النّظام، وتحدّد أطره، وتغذّيه بالمعلومات المستمدّة من واقع البيئة وخصوصيتها، وتحافظ عليه وتضمن بقاءه.
‌د.  الإحساس بالهويّة : يعتبر البعض أنّ الإحساس بالانتماء من أهمّ المعتقدات السّياسية، ذلك أنّ شعور الأفراد بالولاء للنّظام السّياسي يساعد على إضفاء الشّرعية على النّظام، كما يساعد على بقاء النّظام وتخطّيه الأزمات والمصاعب الّتي تواجهه فضلاً عن أنّ الإحساس بالولاء والانتماء للوطن يساعد على بلورة وتنمية الشّعور بالواجب الوطني وتقبّل الالتزامات، كما يمكّن من فهم الحقوق والمشاركة الفاعلة في العمليات السّياسية من خلال التّعاون مع الجهاز الحكومي والمؤسّسات السّياسية، وتقبّل قرارات السّلطة السّياسية والإيمان بالدّور الفاعل لها في كافّة مجالات الحياة ([2]).
لا يمكننا إلاّ أن نستفيد من هذا التّقديم نتيجة مثبتة على أنّ أي نظام سياسي يحتاج إلى وجود ثقافة سياسية تغذّيه وتحافظ عليه:
* فالحكم الفردي توائمه ثقافة سياسية تتمحور عناصرها في الخوف من السلطة والإذعان لها، وضعف الميل إلى المشاركة، وفتور الإيمان بكرامة الإنسان وذاتيته، وعدم إتاحة الفرص لظهور المعارضة،
* أما الحكم الدّيمقراطي فيتطلّب ثقافة تؤمن بحقوق الإنسان، وتقتنع بضرورة حماية الإنسان وكرامته في مواجهة أيّ اعتداء على هذه الحرّيات، حتّى لو كان من قبل السّلطة نفسها، كما يشترط، لاستمرار النّظام والحفاظ على بقائه، توافر شعور متبادل بالثّقة بالآخرين في ظلّ مناخ اجتماعي وثقافي يُعِدُّ الإنسان لتقبّل فكرة وجود الرّأي والرّأي الآخر، ويسمح بوجود قدر من المعارضة في إطار قواعد وأطر سياسية موضوعة بدقّة لكي تنظّم العلاقة بين أفراد المجتمع السّياسي وتساهم الثّقافة السّياسية السّائدة في المجتمع، إلى حدّ كبير في بلدان كثيرة، في تحديد شكل نظام الحكم، بل إنّها قد تساهم في تحديد عناصر القيادة السّياسية فقد تكون القيادة السّياسية حكرا على عائلة معيّنة أو على مجموعة صغيرة ذات وضعية خاصّة -دينية أو مذهبية أو عرقية أو تعليمية، وحيث يقدّر المجتمع كبار السنّ ويعلى الذّكور على الإناث، يغلب أن تجيء القيادة من صفوف المسنّين الذّكور، وفى كثير من الأنظمة السّياسية ينظر إلى فئة معيّنة على أنّها الأجدر بالسّيطرة على المستويات العليا للسّلطة. 
هذه الفئة قد تكون متشكّلة من رجال الدّين أو العسكريين أو المحامين.. الخ وفى مثل هذه الحالة يتوقّع أن تعكس السّياسة العامّة مصالحهم في المقام الأوّل، وتؤثّر الثّقافة السّياسية كذلك على علاقة الفرد بالعملية السّياسية، فبعض المجتمعات تتميّز بقوة الشّعور بالولاء الوطني والمواطنة المسؤولة، وهنا يتوقّع أن يشارك الفرد في الحياة العامّة وأن يسهم طواعية في النّهوض بالمجتمع الّذي ينتمي إليه، غير أنّه فى دول أخرى يتّسم الأفراد باللامبالاة والاغتراب وعدم الشّعور بالمسؤولية تجاه أيّ شخص خارج محيط الأسرة، وفى بعض الأحيان ينظر المواطن إلى النّظام السّياسي على أنّه أبويٌّ يتعهّد من المهد إلى اللّحد ويتولّى كلّ شيء نيابة عنه ويعمل على ضمان رفاهية الجماعة، وفى المقابل قد يتشكّك الفرد في السّلطة السّياسية ويعتبرها مجرّد أداة لتحقيق مصالح القائمين عليها ليس إلاّ. لذلك يمكن القول أنّ الاستقرار السّياسي يعتمّد على الثّقافة السّياسية، فالتّجانس الثّقافي والتّوافق بين ثقافة النّخبة والجماهير يساعدان على الاستقرار أما التّجزئة الثّقافية والاختلاف بين ثقافة النّخبة وثقافة الجماهير، فإنّه يشكّل مصدر تهديد لاستقرار النّظام السّياسي.
في مثل هذا إشارة كان قد صبغها بمثل هذه المعاني الّتي أسبغت عليه وجاهة وثبات وهي تصريح للشّيخ « راشد الغنّوشي » رئيس حزب حركة النهضة الإسلامية بتونس قال فيه :« الجهاد الحالي - والذي يجب أن تشهده البلاد- هو جهاد التّنمية وجهاد الدّيمقراطية والمصلحة الوطنية».
أجدني، مع اكتفائي بمثل هذا التّصريح للشّيخ راشد الغنّوشي، متواصلا مع فكرة تلازم الباحثين وهي حاملة لمعاني جدّ عميقة فيما تحمله من مضامين مبشّرة بمشروعين:
- أوّلهما وطنّي ناجح.
- وثانيهما كونيّ لعلّه يمثّل مفتاحا لعالميّة جديدة تنفصل في درجات الانغراس والترّسّخ إضافة إلى الصّدق عن مشاريع بعضها قديم والآخر حديث وفيها المعاصر،
وأجدني كذلك أثني على من كان صادقا ممّن أختلف معه وهو يقيّم بعض الأحزاب التّونسيّة أو أثنّي على من كان واضحا في إثبات البيّنة عليه بما صرّح به. أمّا الثّناء الأوّل فهو على ما صرّح به عبد الواحد اليحياوي عضو المكتب السياسي للحزب الجمهوري بقوله بأنّ الاستمرار في التواجد داخل الإتحاد من أجل تونس هو استثمار في الفشل وأنّه لم يشعر بالمهانة والاحتقار مثلما شعر به وهو يتابع مبادرة السّبسي بالترشح للانتخابات الرّئاسية ومبايعة الحزب الجمهوري لذلك وأنّ علاقة الحزب الجمهوري بنداء تونس مبنيّة على دبلوماسية هي أقرب إلى النّفاق السّياسي وأنّ تركيبة نداء تونس انطلقت كفكرة لليسار الثّقافي باستعمال التّجمعيين في مواجهة الإسلام السّياسي وأنّ نداء تونس هو استعادة لحزب التّجمع مع فارق في حجم التّركيبات من حيث حضور اليسار في قيادته، كما أشار إلى أنّه ضد الإتّحاد من أجل تونس لأنّه تحالف ضدّ الطّبيعة ومبنيّ ضدّ الآخر فلا يكفي أن تكون ضدّ الإسلاميين لتكون مشروعا للتّونسيين. إنّ الإتّحاد من أجل تونس، بحكم تركيبته، محكوم عليه بالفشل وهو لا يمكن أن يصمد أمام الاستحقاقات القادمة، لذلك لا داعي لإضاعة الوقت في تحالف يعرف الجميع أنّه لن يؤسّس لتحالف انتخابي. أشار كذلك إلى أنّ أغلب المكاتب الجهوية للحزب الجمهوري كانت ضدّ التّحالف مع نداء تونس لكنّ هذا التّحالف بدا كأمر دبّر بليل وتسليم بأمر من أجل الحفاظ على وحدة الحزب، وإنّي موقن من قراءة في أحداث أرادت أن تربك مشوار التّقدّم نحو الدّيمقراطية موافقة لرغبتي في الثّناء على من يثبتون بالبراهين على لاوطنيّتهم وافتقادهم للالتزام الأخلاقي والسّياسي. إنّي أجد ذلك في ما كتبه خالد الحدّاد:
« إنّ من يقفون وراء حادثة اغتيال بلعيد وأحداث الشّعانبي ومن عاضدهم بالتّوظيف والاستغلال السّياسي والحزبي قد فشلوا في المناسبتين في استدراج الشّارع إلى الفوضى العارمة أوّلا وفي إدخال البلبلة في المؤسّستين الأمنية والعسكرية ثانيا، فكلّ الدلائل والمؤشّرات تؤكّد أنّ هناك وعيا شعبيّا واسعا رافضا للانجرار إلى المجهول لما فيه من عواقب وخيمة إضافة إلى وطنيّة أمنيّة وعسكريّة عالية حريصة على حماية مسار الثّورة والانتقال الديمقراطي، فالأحداث الأخيرة على خطورتها لن تتمكّن من انجاز فعلها العبثي والإجرامي والتّدميري في الّدولة والمجتمع فهناك قدر كبير من الوعي الشّعبي والفطنة لدى رجالات الدّولة بما يحاك من مؤامرات ودسائس لخذلان الثورة وأهدافها ونحن نقول أنّه لن تخيّب إلاّ المؤامرات ولن تخذل إلاّ الدسائس ولن ترتمي البلاد في المجهول » ([3])
أخيرا هاؤم اقرؤوا معاني لن تجدوا فيها إلاّ دلالات أوجبت حسرة على تونس من لدني شبّهتها بحسرة من لدن أبي نواس على خمرته، وكلاهما جميل، أمّا تونس فهي مشروع للنّهضة والحضور وأمّا الخمرة فهي مشروع للنّكوص والغياب، وشتّان بين حضور فاعل وغياب مغمض. لقد قيل:
« كلّ ذات لديها حرمة تقوم على العدالة وهي الّتي، حتّى بالنّسبة لخير مجمل المجتمع ككلّ، لا يمكن انتهاكها، لهذا السّبب، تحظر العدالة أن يبرّر فقدان حرّية البعض عبر حصول بعض الآخرين، على منافع أكبر. إنّها لا تقبل الاعتراف بأنّ التّضحيات المفروضة على عدد ضئيل قد يعوّضها تزايد المنافع التي يتمتّع بها الأغلبية »([4]).
أمّا في فكرة التّاريخ العالمي، حسب رؤيـــة السّياســـة الكونيـــة « الكوسموبوليتيكية »، فإن ّ« إيمانويل كانط Emmanuel Kant » يسعى للتّفكير في التّاريخ بعقلانية. إنّه ينطلق من الافتراض بأنّ السّلوك البشري غير قابل للتّفسير، لا بالأسباب الطّبيعية (مثل الغريزة) ولا بافتراض مسبق بوجود عقلانية لدى الأفراد توجّههم، ومن ثمّ الظّهور العبثي وغير المفهوم الّذي يبدو أنّه يستغرق -في معظم الأحيان- التاريخ البشري، ولكن لا يجب أن ننظر إلى التّاريخ الإنساني من خلال المقاييس الفردية. أنشأ، كانط تطبيقات أولى للإحصاءات على الدّيموغرافية تبرز أنّ التّاريخ الإنساني في تناوله الإجمالي يمكن أن يكون مفهوما لأنّه يمكن الكشف، من داخله، على أسس الانتظام([5]).
أوّل شكل من أشكال العصيان يتمثّل في التمرّد، والمتمرّد هو كلّ من لا يلتزم بأوامر، لأنّ التّمرّد ليس ردّ فعل انعكاسيّ، بل هو منطبع في المتمرّد. مالّذي يسبق هذا الإقرار ألا تراه القطع مع شروط إمكان تحقّقه؟ نعم، فلقد قيل:
« كان وصول أناس صُنعوا على عين الحضارة الغربية وسياسة دولها إلى سدّة الحكم، عاملاً في قيام المؤسّسات التّربوية والتّعليمية والإعلامية والثّقافية والتّوجيهية، الرّسمية منها وغير الرّسمية، على أساس الحضارة الغربية فكانت معظم الأطروحات الّتي ناقشت مسألة النّهضة والارتقاء ووضعت لها التّعاريف والفلسفات والأسس والتّفاصيل، متأثّرة بشكل أو بآخر بالحضارة الغربية بشكل كامل، بوصفها «الحضارة الإنسانية المعاصرة» وغاية ما وصلت إليه البشرية في مسيرة الارتقاء، إلى أطروحات تدعو إلى اقتباس «محاسن» تلك الحضارة من أجل:
-«هضمها وإخراجها حضارة متميّزة تتوافق مع هويّتنا الحضارية»
- وإلى أخرى تدعو إلى تلاقح الحضارات وتفاعلها من أجل مزيد من الارتقاء،... إلى ما هنالك من آراء ومقولات »([6]).
لقد كان « شبنغلر Spengler » الفيلسوف الألماني يذهب إلى أنّ: « التّاريخ حضارات مستقلّة فريدة، تكوينات عضوية فائقة لكلّ منها مصيرها الفردي وتمرّ بفترات النّشوء والازدهار والموت »([7]).
اعتقد « توينبي Toynbee » بأنّ نهضـة الشّعوب ورقيّهــا كــان: « نتيجة تحدٍّ تواجهه الشّعوب، سواء كان ذلك التّحدي داخلياً، أي بين فئات الشّعب الواحد وطبقاته، أو كان تحدّياً بين شعب وآخر، ممّا يؤدّي إلى نشاط حيوي في المجتمع ينتج عن استجابة النّخبة الواعية من ذلك المجتمع لمواجهة تلك التّحديات، فيكون ذلك سبباً لنهضته ».
يوافق « توينبي » « شبنغلر » في فكرة « أنّ تاريخ العالم يسير في دورات كبرى من الارتفاعات والانخفاضات وهو محصلة كلّية للحضارات المختلفة الّتي تمرّ بالمراحل نفسها أي الميلاد والنّموّ والسّقوط والتّفكّك والتّدمير»([8]).
بالقدر نفسه من الأهمّية الّتي يمنحها « توينبي » إلى النّهضة يحدّد أهمّية دور النّخبة فيرى أنّ سقوط الحضارات سببه عجز النّخبة الخلاّقة عن الاستمرار في مواجهة التّحدّيات المستمرّة كما واجهتها بداية الأمر، فيقول في ذلك:
« عندما تنحط الأقلية الخلاقة في تاريخ أي مجتمع من المجتمعات إلى أقليّة مسيطرة تحاول أن تحافظ بالقوة على مركز لم تعد تستأهله، هذا التبدل الهدام في طبيعة العنصر الحاكم يحفز البروليتاريا (الأكثرية) على الانفصال عنه والتخلي عن تلقائيّتها وحريتها في الانجذاب إليه ومحاكاته(...) وهكذا يشكل سقوط الحضارة طبقة محاربة داخل مجتمع واحد لم يكن كيانه في دور النمو الحضاري منقسماً على ذاته انقسامات حادة...» ([9]).
أمّا القول بأنّ « النّمط الأفضل للمجتمع الإنسانـي والأكثـــر رقيّـــاً فهو الشّكل اللّبرالي الرّأسمالي »، هو ما يقرّ به الفيلسوف الألماني « هيغل Hegel »ف([10]) الّذي حاول إحياء نظريته المفكّر الأميركي « فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama » في كتاب « نهاية التاريخ والإنسان الأخير La Fin de l'Histoire et le dernier homme » الذي يبشر فيه بأنّ التّاريخ وصل إلى مرحلته الأخيرة الفضلى بانتصار اللّبرالية ذات الطّراز الأميركي على كلّ ما سواها من أنماط العيش الأخرى.
بينما القول بأنّ أرقى نمط يصل إليه المجتمـــع فهو يكون حين يصل إلى مرحلة الشّيوعية الكاملة الّتي تعقب الدّولة الاشتراكية فهو ما يراه « كارل ماركس Karl Marx ».ف([11])
هذه تفسيرات استدلّ بها مفكّرون لبناء حركة النّهضة ولفهم حركة الانحطاط في بلدانهم، كما اهتمّوا بإعداد شروط حركة انحطاط بُذل لتقييد الحضارات الأخرى بها. إنّ أهمّ رهان، لم يكن ليعلن صراحة من طرف النّخبة أو القادة الغربيين، بل ليكشف على قارعة التّاريخ، فضيحة تعرّي العملاء الخونة من نخبة الحضارة المستهدفة وتدثّر أبناءها الوطنيين ونخبتها الثّورية، هو حسب موارده التّاريخية تطعيم نخبة هذه الحضارة الموجّهة إليها عقولهم لطمرها، بمبادئ التّبعية. هؤلاء المفكّرون انفتحت دراساتهم لوضع فلسفة للنّهضة أو لفهم حركة الحضارات عبر التاريخ، بينما انغلـــق تفكير التّابعيـــن في نسخـــة غير أصلية لنمطي الحضارة الغربيــــة –الرّأسمالية والاشتراكيـــة- فلا إمكان لنهضــــة تنطلـــق من « الهنــــا» و« الآن». ألا تكـــون هذه الغايـــات تأليب الأنظمـــة الدّوليــــة والرّأي العامّ الدّولي والمحلّي على حكومة أرادت أن تكون ديمقراطية فلبس لها أعداؤها وأعداء الدّين لباسا ليس لباسهم وقاموا بأفعال هي أفعالهم كانت في سليانة الرّوحية وأصبحت في جبل الشّعانبــي؟ ثمّ اتّهمهـــا باللاّوطنيّة وباللاّثوريّـــة من لفظهم الشّعب فأرادوا أن يؤمنوا بدين جديد لعلّ هذا الدّين يسمّى بدين الاستنساخ أو الدّين الوطني الجديد إنّه دين الاستنساخ الوطني التّقدّمي الدّيمقراطي !!!
 الهوامش
[1]. افتتاحية صحيفة الصباح بتاريخ 04/05/2013
[2]. محمد إسماعيل حكيمي الأفغاني
[3]. افتتاحية الشروق: رفض المجهول
[4]. جون راولز، نظرية العدالة، 1971
[5]. الفلسفة والسّياسية، الموقع الشّخصي لـ«دينيس كولّين».
[6]. أحمد القصص، أسس النهضة الراشدة، من منشورات رابطة الوعي الثقافية طرابلس – لبنان، الطبعة الأولى، 1416هـ - 1995م، دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، ص.ب: 135190، بيروت – لبنان، صص. 16- 26.
[7]. الموسوعة الفلسفية - مادة شبنجلر.
[8]. الموسوعة الفلسفية - مادة توينبي.
[9]. نقلاً عن: عماد الدين خليل - التفسير الإسلامي للتاريخ - ص 84.
[10]- الموسوعة الفلسفية - مادة هيغل.
[11]- ألاسدير ماكانتاير - مقال من كتاب أعلام الفكر السياسي - تصنيف موريس كرانستون ص 103.
--------
-  أستاذ فلسفة باحث في الفكر السياسي
noomen_e@yahoo.com