في الصميم
بقلم |
لسعد الماجري |
من الوحي إلى المقروء (أو مسألة الأحرف والقراءات المتعدّدة للقرآن) |
نتحدّث في هذه المقالة الجديدة عن الوحي مرّة أخرى. ذلك أن الوحي يمثّل حسب رأينا الظاهرة الأهمّ في تاريخنا والذي حكم تطوّرنا الذّهني والعقلي والممارساتي. فهم ظاهرة الوحي وتشكّله في المخيال الاجتماعي العربي والإسلامي عموما هو، حسب رأينا، مدخل ضروري لفهم النّص والتّعامل معه ومن ثمّ الإقلاع الحضاري المنشود لأمّة رزحت سنين عدّة في التّخلف والجهل وساد فيها فهم غير متقدّم للنّص القرآني. من أهمّ القضايا أيضا فهم مسألة تعدّد القراءات للكتاب الواحد. فبعد أن بيّنا في مقالنا السابق كيف أن الوحي وقع جمعه بطريقة علميّة حازمة وبعد أن تثبّتنا في صحّة الكتاب الذي هو بين أيدينا ضمن رسم عثماني متّفق عليه منذ زمن الخليفة عثمان رحمه الله، نتلمّس اليوم محاولة لفهم ظاهرة تعدّد القراءات ضمن المقروء الواحد.
1. القرآن بلسان قريش
اتخذت هذه المسألة أيضا باعا كبيرا من البحث والتحقيق من طرف علماء المسلمين انطلاقا من ملاحظة الاختلاف في اللّغات بين الأقوام التي دخلت إلى الإسلام تباعا وأن القرآن عندما نزل فقد نزل بلسان قريش وذلك ما تؤكده الآية الكريمة : «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» (سورة ابراهيم الآية 4).
وهذا شيء معقول جدا فمن شروط العملية البيداغوجيّة أن تكون بلسان المتلقي ولا شك في أن المتلقي هم قريش باعتبار أن الرسالة توجّهت في البداية لقوم الرّسول الكريم وهم قريش كما تؤكد ذلك الآية الكريمة:
« وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (سورة الشورى الآية 7).
«وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ» ( سورة الأنعام الآية 92)
وأمّ القرى كانت تعني قريشا أساسا ومن حولها تعني القبائل العربية القريبة منها. والمقصود باللغات المختلفة هنا هي اللهجات المحلّية التي تختلف بالطّبيعة من قوم إلى قوم آخرين. هنالك أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذّهن بخصوص هذا الموضوع، فالنّبي الكريم كان في بداية الدّعوة إلى الإسلام يعرض نفسه على القبائل بمناسبة الأسواق التجاريّة التي كانت تقام بمكة من سنة إلى أخرى وكانت مقصدا للكثير من قبائل العرب. ومما لا شك فيه أن النّبي صلى الله عليه وسلّم كان يعرض الرسالة ويتلو القرآن على هؤلاء القادمين بلسان قريش أو بالأحرى بلهجة قريش ومما لا شك فيه أن هؤلاء كانوا يسمعون له ويفهمون عنه وفيما بعد يعودون بالطبع إلى أهاليهم فينقلوا لهم ما سمعوه من النبي وقد يصبحوا هم بدورهم دعاة للدّين الجديد والواضح أنهم في هذه الحالة سيبلغون بلهجة قومهم فقد تصبح الألفاظ مختلفة بعض الشيء كقول أحدهم تعال بدل ائت أو أقبل أو هلمّ....الخ...
2. القراءة على أحرف سبع
والمعلوم أن اللغة العربية لم تأخذ صيغة لغة فصحى مكتملة إلا في العصر العبّاسي الذي عرف بعصر التّدوين والذي وضعت فيه أخيرا قواعد مقنّنة وواضحة للّغة وللعروض وللنّحو والصّرف. أما في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة فكان الكلام بلسان قريش.
ونذكر في هذا الإطار حديثا رواه البخاري عن عمر ابن الخطاب يقول فيه:
«سمعت هشام بن حكيم ابن حزام يقرأ سورة الفرقان في صلاته على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقرأنيها وكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته (أي أمسكته من تلابيبه) بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ (سورة الفرقان) على غير ما أقرأتنيها. فقال لي أرسله (أي أتركه). ثم قال له : «اقرأ». فقرأ، فقال النبي: «هكذا أنزلت». ثم قال لي: «اقرأ»، فقرأت، فقال: «هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسر».
وكذلك روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
وفي نفس هذا السياق روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : « إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا وَلا حَرَجَ وَلَكِنْ لا تَخْتِمُوا ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ وَلا ذِكْرَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ»
إن هذه المسألة إذا ليست من باب الافتعال وإنما من صميم المسائل التي تعرضت لها علوم القرآن.
3.مرحلة الاستقرار أو الحرف الواحد
من الواضح أنّ أغلب علماء القرآن تحدثوا عن هذه المسألة وأغلبهم ينح منحى تاريخيا أي أنهم في مجملهم اعتبروا أن هذا الاختلاف في القراءة بسبع أحرف والتي قبلها الرّسول الكريم إنما كانت ظرفية أي في ابتداء الدّعوة الإسلاميّة لأن العرب الدّاخلين في الدّين الجديد كانت لهجاتهم مختلفة وكان من الضروري في البدء التيسير لهم والسّماح بأن يقرؤوا بلهجاتهم الخاصّة إلى أن تعوّدت ألسنتهم شيئا فشيئا بالقراءة للقرآن. فاقتصرت فيما بعد على حرف واحد أي على طريقة لغوية واحدة وكان ذلك قبل وفاة الرّسول الكريم. وهذا ما يؤكّده أكثر هؤلاء العلماء كالقرطبي وابن العربي والزركشي ...الخ والذين ذهبوا إلى القول بأن هذا الاستقرار وقع في حياة النبي الكريم.
فما هي علاقة الأحرف السبعة بالقراءات السبعة هل هي نفس الشيء أم أن معنى القراءة يختلف عن معنى الحرف؟
4.في معنى الحرف
البعض اليسير من العلماء ذهب إلى الخلط بين معنى الحروف السبعة والقراءات السبعة فهي نفس الشيء حسب رأيهم كمذهب الخليل ابن أحمد واضع علم العروض. لكن هنا ك الكثير من علماء القرآن الفطاحل الذين يذهبون مذهبا آخر وهو الأكثر رجحانا : بأن القراءات السبع لا يمكن أن تكون الأحرف السبع فالأحرف السبع قد كانت في بداية تقبل القرآن على لهجات متلقيها من الأعراب وغيرهم في حين استقرت في النهاية على حرف واحد أما القراءات السبعة فهي في الحقيقة ضمن حرف واحد أي ضمن تلك الطريقة اللّغوية الواحدة التي استقرت عليها زمن الرسول الكريم عليه الصّلاة وأزكى التسليم، في حين أن القراءات السّبع، وبعضهم عدّدها إلى عشر أو أربعة عشر، لم تظهر إلاّ خلال القرن الثّالث للهجرة. وهذا يؤكّده الإمام الطّبري رحمه الله حينما قال: «اختلاف القرّاء إنما هو كلّه حرف واحد من الأحرف السّبعة التي نزل بها القرآن وهو الحرف الذي كتب عليه المصحف».
إذا اقتنعنا بأن مسألة الحرف أو الحروف السّبع هي تلك اللّهجات المحلّية للقبائل العربيّة التي اعتبرت قراءاتها للقرآن مقبولة على لهجاتها فكان الهدف قبولها بالدّين الجديد والتّيسير عليها في القراءة بلهجاتها دون إشكال ودون تعقيد. فكانت هناك حروف سبعة منها حرف قريش وحرف أهل اليمن وحرف هذيل وحرف هوازن ... وهكذا بحسب القبائل السّبعة التي كانت ترد على مكة من حين لآخر. وكان إذا من الطبيعي وجود الاختلاف بين قراءة شخصين من قبيلتين مختلفتين فكيف نفهم إذا الاختلاف بين قراءة عمر ابن الخطاب وقراءة هشام ابن الحكيم وهما الاثنان قرشيان؟.
5.في معنى القراءات السبع:قراءات داخل الحرف الواحد
ولعله من المهمّ هنا، لفهم هذه المسألة المعقّدة نوعا ما والوقوف عند خفاياها، التسلّح بفهم ذي طابع تاريخي واجتماعي، فلا يمكن أن نذهب مذهبا في هذا يتناقض مع مقتضيات التّاريخ وطبيعة الاجتماع : نفهم معنى أن يكون هناك في فترة الرّسول لهجات محليّة تمثل مختلف القبائل والتي لم ترفض قراءاتها بادئ ذي بدء. فكان ذلك من متطلّبات الدّعوة المحمديّة وأن الدّين دين يسر وليس دين عسر وهذا مقبول جدّا من النّاحية الاجتماعيّة. ونفهم أيضا أنه في الفترة النبويّة كان النّاس يتقبّلون القرآن من القرّاء مباشرة وليس من كتاب موحّد مكتوب في مصحف يقرأ. فكان تاريخيّا من الطبيعي أيضا أن يكون كل قارئ للوحي له طابع خاص في القراءة وقد مرّر ذلك إلى مستمعيه وذلك اعتمادا على أن اللّغة العربيّة كانت تكتب دون تنقيط ولا شكل. فكان من الطبيعي أن يكون للكلمة الواحدة أوجه مختلفة للقراءة ومن هذا الأساس أيضا نفهم كيف أن قراءة عمر اختلفت عن قراءة هشام وهما من قبيلة واحدة. وهذا يعزى إلى أخذهم النصّ القرآني عن قرّاء مختلفيـــن وكان الحرف بهذا المعنــــى. فيقال حرف نافع نسبة إلى نافع وحرف ابن مسعــــود نسبــــة إلى ابن مسعود وهكذا... هذا في فترة النّبي الكريم عندمــــا لم يكن للقرآن مصحف واحد تجتمع عليه كل القراءات. فعندما جمع عثمان رضي الله عنــــه وأرضاه الصحف كلها ورتبهــــا في مصحف واحد ثم أمر بحرق ما خلافه كان ذلك يعتبر إذا ولادة حرف واحد وانهيار كل الحروف السبعة. فلم يبق لها بعد مصحف عثمان أي مبــرّر. ولكن نعرف أيضا أن عثمان أمر بتوزيع النسخة الجديـــدة على جميع الأمصار البعيدة والقريبة ولكن وهذا الأهم أرســـل مع كل نسخة قارئ للقرآن يدرّب النّاس علــــى قراءة المصحف العثمانــــي. ومن النّاحية البيداغوجيّة والعلمية يمكن أن نستنتج من هذا أن كل قارئ سافر ومعه النسخة العثمانية (ضامنة التوحد) ومعه طريقته في القراءة التي تعوّدها(مؤكدة التعدد داخل الحرف الواحد) فاختلفت القراءات من جديد. ولكن ليس من ناحية اللّهجة هذه المرّة ولكن من ناحية القراءة للقارئ المعيّن الذي أرسل. وسينحصر الاختــــلاف هنا داخل الحرف الواحد وهو مصحف عثمان في حين كان فيما قبل دون حدود أي على أحرف عديدة. ثم أن هذا التعدّد الجديد رغم أنه داخل الحرف الواحد فإنّه وجب تقنينه بعدئذ مخافة أن يتّسع مدى التّعدد بانتشار الصّحابـــة القراء في البلدان واتّساع رقعة الدولة الإسلاميّة وهذا الخوف له ما يبــرره. فكلّما تقدمنا في تقنين الأشياء ضبطــــت أكثر وقلّ مجال الاختلاف والتبعثر فظهرت إذا القراءات السّبعة والتي تعتبر مقبولة كلها من الناحية الدينيّة اعتمادا على شروط معيّنة منها مثلا أنها وجب موافقتها للمصحف العثماني ولو تقريبيّا وأن توافق قواعد اللغة العربيـــة بوجه من الوجوه وأن يصحّ إسنادها فالقراءات من هذا الوجـــه هي توقيفية من النبي صلى الله عليه وسلّم وليست اختياريّة. فكلّ قارئ بهذه القـــراءات يردّ ذلك إلى أخذه مباشرة عن النبي ومن هنا فهي مقبولة أصلا. وفي هذا الإطار نسب عاصم قراءته إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وأسند ابن كثير قراءته إلى أبّي وأسند عبد الله ابن عامر قراءته إلى عثمان وهكذا... وكل هؤلاء الأسناد قالوا بأخذهم مباشرة عن النبي الكريم.
6. مسألة اختصاص القرآن بالترتيل
إن القرآن كوحي من الله سمي في الأصل قرآنا نظرا للعلاقة الوطيدة بين محتواه وشكل القراءة الفنّي. فهو كتاب يقرأ ككل الكتب السّماوية من قبله من توراة وأناجيل ولكن يختصّ بشكل فنّي للقراءة وهو الترتيل. وقد أكد القرآن نفسه هذا المنحى الشكلي لعرض المضمون على الناس بشكل بطيء حتى يتسنى لهم التدبّر في معانيه فهو آخر كتاب وبالتّالي فهي الفرصة الأخيرة للإنسان لفهم ما أنزل الله من معاني والعمل بما فيها. وهي الفرصة الأخيرة للإنسان للتناغم مع الوحي الإلهي كي يكون من المفلحين :« وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا» ( سورة الإسراء الآية 106).
فهذا القرآن الذي بين أيدينا في كتاب لم ينزل جملة واحدة وإنما نزّل تنزيلا أي على مراحل حتى يتسنّى للنّبي الكريم إيصاله على مكث أي بيسر وعلى أجزاء وذلك من أجل تربية الجنس البشري. وتلك متطلبات العملية البيداغوجيّة الناجحة فالأستاذ النّاجح هو من يقدّم الدّرس على مراحل معيّنة ضمن بصيرة وضمن فهم مسبق لمستوى تلاميذه فيأخذ بأيديهم بيسر وتفطّن إلى مستويات علمية متقدمة. فيقع البناء بحكمة على أسس للتّعليم سليمة وتقدّم الكفايات الأساسية قبل غيرها من المسائل التي تتطلب تركيبا وتأليفا وتعقيدا أكثر. وقد تطلّبت هذه العملية البيداغوجية شرطين أساسيين بالنسبة للكتاب الجديد أي القرآن :
أ- أن تكون القراءة على مكث كما بينّا آنفا أي البداية من البسيط إلى المعقّد والقراءة بتريّث دون إسراع لكي يتسنّى الفهم والتدقيق وهذا شرط عقلي تطلّب الحضور العقلاني للمتلقّي أي تطلّب التركيز على المعنى المراد تبليغه ويعزّز ذلك قوله تعالى : « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (سورة محمد الآية 24) وكذلك قوله :«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»( سورة النساء الآية 82).
والقلب هنا بمعنى مركز العقل وليس بالمعنى العاطفي الصرف، فالقلب استعمل في القرآن في كثير من المناسبات بهذا المعنى العقلي. وهذا شرط أساسي في العملية البيداغوجيّة النّاجحة لأنّ تبليغ الدّرس يتطلب تركيزا من التلاميذ والله قد علم أن الأقوام قبلنا والذين أنزلت إليهم كتب منه لم يتلقّوا الرّسالة على أحسن وجه وإنّما كفروا وتمرّدوا على سنن الله في الكون. وهم في أغلب الأحيان كذّبوا الرّسل ولم تنجح العملية البيداغوجية التي ترمي أساسا إلى تربية الجنس البشري حسب نظرنا. وفي الحالة الجديدة التربوية التي مثّلها الإسلام وكانت الأداة التربوية فيها القرآن رمى الله إلى إقحام العقل في عملية التلقّي وبذلك اشترط أن يكون المتلقّي تامّ التركيز وأن تكون الجوارح العقلية في حالة استنفار قصوى. ولذلك فالقرآن فرقه الله على مكث أي قسّمه الله في التنزيل وأراد أيضا قسمته في القراءة على مراحل وبتؤدة كي تحصل الفائدة لهذا الجنس البشري المتعنّت على العلم الحقيقي والمتمرّد على التربية.
ب- أن تكون القراءة ترتيلا أي بلحن كما قال تعالى: «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (سورة المزمل الآية4 )
وكما قال أيضا : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا» (سورة الفرقان الآية 32)
وهو أيضا الإعادة كي يفهم والترتيل بلحن هدفه انخراط العاطفة في العملية البيداغوجية. فمن الواضح أنه عندما نستمع إلى القرآن يتلى على مسامعنا فذلك له تأثير أكبر من أن يقرأ علينا سردا وبلهجة القراءة الجافة. وهذا تنبيه إلى أهمية الجوارح العاطفية في العملية. فالتلميذ عندما يستمع إلى الدّرس من أستاذه ويكون الصّوت جافا نوعا ما تكون شروط النّجاح في التبليغ عنه جدّ بسيطة وتكبر نسبة النجاح في التلقّي والفهم عن الأستاذ إذا كان صوته أكثر انسيابا وحنانا وقربا من التلاميذ. فعندئذ فقط تفتح مجالات التلقّي على مصراعيها ويمرّر الدرس بسلاسة كبيرة. فعن الله نتعلم وعنه نأخذ الطّرق البيداغوجية فعقل وقلب حاضران شرطان أساسيان في العملية البيداغوجية. ولا تكتمل هذه العملية النبيلة إلا بالتواجد والحضور التام العقلي – العاطفي للمتلقي. فإذا حضر العقل دون العاطفة كان القلب غائبا وكان التفاعل والتواصل جافا وكان الدرس يشابه الدروس ذات الخاصية المعقدة كالرياضيات أو الفيزياء النظرية أو علوم الإعلامية الهندسية أي تلك العلوم الصحيحة التي لا تتعامل إلا مع العقل و لا تتطلب تفاعلا إنسانيا أو سلوكا بشريا. وإذا حضرت العاطفة دون العقل كان الدرس عبارة عن هلاميات وحوارات لا ترتكز على منطق علمي وممعنة في السفسطة الكلامية وتحتكم إلى شكل الخطاب وتأثيره العاطفي على السامع لا إلى مضمونه العلمي الفعلي. لذلك اشترطت العملية البيداغوجية الإلهية السّامية حضورا متكاملا للعقل والقلب لأن القلب هو حقل التلقي بدونه يرفض كل علم ولأن العقل هو الممحص لكل حقيقة علمية بدونه يقبل كل افتراض علمي خاطئ.
المراجع المعتمدة:
مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. جمعها محمد حميد الله. طبعة 5- بيروت. دار النفائس.1975.
المسعودي أبو الحسن علي ابن حسين.مروج الذهب ومعادن الجوهر. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. طبعة 4. القاهرة : المكتبة التجارية الكبرى. 1964-1965. الجزء الرابع في المجموعة الثانية.
الطبري أبو جعفر محمد ابن جرير. تاريخ الطبري : تاريخ الأمم والملوك. طبعة 2- بيروت. دار الكتب العلمية. 1977. المجموعة السادسة.
القرطبي أبو عبد الله محمد ابن أحمد. تفسير القرطبي
رضا محمد رشيد. الوحي المحمدي
الجابري محمد عابد. بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية. الطبعة 8. بيروت مركز دراسات الوحدة العربية. 2004 (نقد العقل العربي 2)
الجابري محمد عابد. تكوين العقل العربي الطبعة 9- بيروت مركز دراسات الوحدة العربية. 2006 (نقد العقل العربي 1)
السيوطي جلال الدين عبد الرحمان ابن أبي بكر. الاتقان في علوم القرآن.
------
- أستاذ جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة
mejrilassad@yahoo.fr |